بالعلم يكفرون وهم بالكفر يعلمون
جزاك الله خير اخي مصطفى تابث
بالعلم يكفرون وهم بالكفر يعلمون
جزاك الله خير اخي مصطفى تابث
أكاذيب القمص زكريا بطرس ( 6 )
مصطفى ثابت
قل لي يا جناب القمّص، لو أنك استلفت مبلغ الألف جنيه من ذلك القاضي الرحيم، ولم تستطع السداد، وهو يعرف حالتك ويعرف مدى عجزك عن السداد، فهل كان يحكم عليك بالسجن لعدم السداد، أم يتنازل عن حقه ويعطيك أيضا ألف جنيه أخرى لتقضي بها أمورك؟
كنا قد ذكرنا من قبل أن جناب القمّص يتّبع في حديثه أسلوبا يبدو أنه منطقي، ولكنه مغلوط ومخادع، فهو يعتمد في حديثه على ما يلي؛
أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم، ليخرج بمعنى لا يحتمله النص، كما فعل ذلك حين فسر كلام الكتاب المقدس عن ملك بابل وملك صور بأنه يتعلق برئيس الملائكة الذي تحوّل إلى شيطان.
ثانيا: يقدم جناب القمّص أفكارا تبدو أنها صحيحة، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة خطيرة.
ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقائق والتشبيهات.
رابعا: يتعمّد أحيانا تحريف النص ليتّفق مع وجهة نظره.
خامسا: يتهم المسلمين بالجهل، وأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يريدون أن يقبلوا الحقيقة.
سادسا: يستخدم آراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين كما هو الحال عندهم في المسيحية، حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين، وإلا يُعتبر المرء كافرا ومرتدا ويُفصل من الكنيسة، وبهذا لا يستطيع أحد أن يستعمل عقله، بل عليه أن يقبل ما قرره المفسرون وحسب.
وقد بينت في حلقات سابقة أن الوضع في الإسلام يختلف عن الوضع في المسيحية، فتفسيرات المفسرين غير ملزمة لجميع المسلمين، والمفسرون علماء أجلاء اجتهدوا بغرض تبسيط المفاهيم الدينية أو لشرح معاني ما فهموه من القرآن المجيد، ولكنهم معرّضون للصواب والخطأ، وقد اختلفوا مع بعضهم البعض، ونقل بعضهم عن المفاهيم المسيحية السائدة والأفكار الإسرائيلية، وهذه كلها تُسمّى الإسرائيليات.
وعلى هذا، ومع كل الاحترام والتقدير لأولئك المفسرين، فإن أقوالهم ليست من أسس الإسلام، وهي غير ملزمة لجميع المسلمين، وبالتالي فرأيهم ليس حجة لجناب القمّص كي يحتج به، وهو بالطبع يفعل هذا ليُكسب أقواله شرعية ومصداقية لدى بعض الناس الذين يجهلون هذه الأمور، وذلك من أجل أن يخدعهم ويزيّن لهم أقواله، ولكن نحن له بالمرصاد، وسوف ينكشف الكذب ويفتضح الدجل ويظهر الحق بإذن الله.
كنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة التي صدر بها الحكم، ولكن العدل هو أن لا يصدر الحكم أصلا إلا بعقوبة تتساوى مع الجرم الذي وقع، أما تنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة فهو ليس عدلا، وإنما هو حكمة. فإن كان من الحكمة تنفيذ العقوبة، لأن ذلك سوف يُصلح من شأن الجاني أو المجتمع، فيجب أن تنفذ العقوبة، وإن كان من الحكمة عدم تنفيذ العقوبة، لأن الجاني قد أدرك خطأه، أو لأن تنفيذ العقوبة سوف يؤدي إلى فساد أكبر من فساد الجاني، فيجب ألا تنفذ العقوبة.
وكان جناب القمّص قد زعم أن حكم الله لا بد أن ينفذ، لأنه لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته. والغريب أنه يستشهد بآيات قرآنية لا علاقة لها بموضوع تنفيذ العقوبة التي صدر بها أي حكم. وهذا يبين حقيقة ما ذكرته عن أسلوبه وهو أنه يسيء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم ليخرج بمعنى لا يحتمله النص. ومع أنه لم يفسر النص القرآني في هذه الحالة، إلا أن استشهاده بالنص كان غرضه أن يوحي بمعنى معين للسامع أو المشاهد، وهذا المعنى لا يحتمله النص، تماما كما أقول مثلا (وهو مجرد مثال) في حق جناب القمّص أن تصرفه هذا يذكرني بالآية التي تقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزَّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (مريم:84)، فأنا لا أقدم للآية أي تفسير، وإنما أترك السامع والمشاهد ليستنتج ما يشاء.
لماذا لا تستشهد بكتابك المقدس يا جناب القمّص عندما تريد أن تبرهن على صحة عقيدة تؤمن بها، بدلا من هذا الأسلوب الملتوي الذي تريد أن تؤثر به على مشاهديك من المسلمين؟ وقد بينت لجناب القمّص في الحلقة الماضية أن الله أصدر عدة أحكام بالموت والهلاك، ولكنه لم ينفذها، فقد أراد أن يهلك قوم موسى الذين عبدوا العجل، ولكن موسى تشفع لهم فعفا الله عنهم. وحكم بهلاك قوم يونس وتدمير مدينتهم نينوى ولكنهم تابوا فعفا عنهم. والمسيح نفسه لم ينفذ الحكم على امرأة قُبِض عليها وهي تزني، مع أن الشريعة التي أنزلها الإله الذي كان متلبسا فيه، كما يؤمن بذلك جناب القمّص، كانت تنص على حتمية توقيع العقوبة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب المقدس مما يجعلنا نتساءل: ألم يقرأ جناب القمّص جميع هذه الأمور في كتابه المقدس؟ بالطبع لا بد أن يكون قرأها، وفي هذه الحالة يكون هناك 3 احتمالات:
إما أنه لم يفهمها، فيجب عليه ألا يتهم المسلمين بأنهم إذا قرأوا لا يفهمون؛ وإما أنه فهمها وحرّف معانيها ليُصدق الأكذوبة التي يعيش فيها، وهي حتمية تنفيذ العقوبة في كل حالة، أو أنه فهمها وأراد إخفاءها عن سامعيه ومشاهديه حتى لا يظهر الخلل فيما يقول به.
لا يا جناب القمّص. لا تظن أن المسلمين لقمة سائغة تستطيع أن تلوكها، أو أنك تستطيع أن تخدعهم بهذا الأسلوب، واعلم يقينا أن فيهم من يعرف كتابك المقدس خيرا مما تعرفه أنت، وهم لن يتركوك لتخفي الحقائق وتنشر الأكاذيب، وإنما سوف يلاحقونك ويكشفون كل زيف فيما تقول، ويظهرون الحق، فالحق من أسماء الله الحسنى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. بعد ذلك حكى لنا جناب القمّص مثالا لكي يشرح موضوع أن العدل يتناقض مع الرحمة، ولا يمكن تحقيق الاثنين معا إلا إذا تطوّع أحد ليتحمل العقوبة حتى يأخذ العدل قصاصه، فيمكن بعد ذلك تطبيق الرحمة.
واسمح لي يا جناب القمّص أن أسألك بإخلاص: ألا تشعر بأن ذلك الإله الذي تتضارب صفاته لا يستحق العبادة؟
ألا تنفر نفسك من إله يعجز عن أن يمارس صفة من صفاته لأن صفة أخرى تمنعه وتريد هي أن تتحقق أولا؟
ألا يذكرك مثل هذا الإله بمدمن المخدرات الذي يريد أن يمتنع عن تناول المخدرات، ولكن العادة تمنعه من ذلك وتريد أن تُشبَع أولا؟
ألا تفكر في كثير من السكيرين والمقامرين الذين يريدون أن يتوقفوا عن سكرهم وقمارهم، ولكنهم لا يستطيعون ذلك لأن هناك دافعا آخر يمنعهم ويريد أن يُشبَع ويتحقق أولا؟
ألا تستهجن نفسك أن تكون أنت أحد هؤلاء؟
ألا تشمئز نفسك من أن يصيبها هذا الخلل فتفقد كرامتك واحترامك لنفسك وتتحوّل إلى إنسان عاجز عن أن يتحكم في نوازعه ودوافعه؟
فكيف بالله عليك يا جناب القمّص تنسب مثل هذه الصفات الدنيئة إلى الإله الذي تعبده، ثم تزعم بعد هذا أن هذا الإله هو إله المحبة؟ إن هذا الإله المريض يجب ألا يكون له وجود إلا في مخيلة المرضى من الناس، وحاشا لرب العالمين أن يتصف بصفات المدمنين والسكيرين والمقامرين.
أما المثال الذي قدمه جناب القمّص فهو كما رواه للسيدة ناهد متولي كما يلي:
"أنا استلفت ألف جنيه من حضرتك، وصرفت الفلوس دي على ابن عندي عيان، وورايا ديون وحاجات. مدّيكي ميعاد وجه ميعاد السداد ومفيش عندي فلوس أسَدّد، فات سنة مفيش، فات سنتين مفيش. يا عم هات الفلوس، مفيش.. حجيب منين؟ ده أنا مديون لغيرك وغيرك كمان، ديون ماشية. وأنت إنسانة حقانية وعادلة وعايزة حقك برضه لمصلحتك وأولادك. فبتشتكيني في المحكمة فبروح قدام القاضي. إنت أخدت ألف جنيه من المدام دي؟ أيوه حصل. يعني معترف، والاعتراف ده سيد الأدلة. أنا ما بنكرش، حبقى قسيس وانكر؟ مقدرش. طيب ادفع لها الفلوس. ياريت يا حضرة القاضي، أنا بتمنى، ده أنا غلبان ومديون لفلان وفلان وابني عيان ومش عارف عندي إيه ومشاكل كتير طيب، أجيب منين؟. القاضي شاف فيّ الصدق وشاف فيّ الاعتراف. بس المحكمة بالعدل، لكن الراجل ده كان عنده رحمة، بقى في مشكل، وشايف مشكلتي وشايف احتياجي. حيسجني بالفلوس؟ لا انتِ استفدتِ حاجة، وأنا كما حزوّد المشكلة لأن عيلتي محتاجة للي يصرف عليها. فالراجل ده من رحمته يوْجد الحل، لأنه لو حكم عليّ بالسجن أنتِ مش حتستفيدي، ولو قال لي طب مع السلامة روح شوف عيالك يبقى ظلمِك، فالراجل يعمل إيه؟ يقول لي أنت مديون بكام؟ أقول له مديون بألف. إنتي لكِ الألف دول يا ست؟ تقولي له أيوه، يروح مطلع من جيبه دفتر الشيكات، وكاتب لك شيك بألف جنيه. فتقول السيدة ناهد: يبقى كده أنا خدت حقي. فيقول القمّص: خدتِ حقك وأنا اترحمت. ده مش كده وبس. يقول لي أنا عارف إنك غلبان ومسكين ومحتاج فلوس، خد كمان شيك بألف جنيه ده عشان تغطي نفسك. ده حق ده رحيم. هكذا الأمر مع الله، صدر حكم بالموت، الله لا يعود في كلامه أبدا، ده ملك الملوك ورب الأرباب، لا راد لكلامه، بس لازم يوْجد حل عشان يدّي الرحمة".
هذا هو المثال الذي قدمه جناب القمّص، وهو المثال الذي يقدمونه دائما لشرح فكرة العدل والرحمة. والقصة من فوق السطح تبدو معقولة ولكنها ملآنة بالمغالطات وتفيض بالمفارقات. والإنسان السوي يا جناب القمّص، حينما يضرب مثلا أو يعطي تشبيها، فيجب أن ينطبق كلامه على الحالة التي يريد أن يشرحها، ولكن مثالك بعيد كل البعد عن فكرة عدل الله تعالى ورحمته.
أولا: أنت قلت في مثالك إنك استلفت من السيدة ناهد متولي ألف جنيه، يعني ذنبك يتعلق بالسيدة ناهد، فلما لم تستطع أن تدفع لها حقها اشتكتك في المحكمة عند القاضي. ولكن الحالة التي لدينا تختلف عن ذلك، إذ أن الخطأ الذي وقع فيه آدم لم يكن في حق حواء، وإنما كان في حق الله، أي في حق القاضي نفسه.
ثانيا: يبدو أن السيدة ناهد متولي غلبانة مثلك، وهي في حاجة إلى استعادة الألف جنيه من أجل أولادها، ولكن الله ليس "غلبانا" مثلكما، وليس في حاجة إلى أن يستعيد شيئا من آدم.
ثالثا: القاضي الذي في المحكمة يحكم بين طرفين أمامه، هما أنت والسيدة ناهد، فلا يستطيع أن يحكم لطرف على حساب الطرف الآخر. وأما الله فهو ليس قاضيا عادلا وحسب، وإنما هو العدل المطلق، وهو لا يحكم بين طرفين أمامه، وإنما هو خصم وحكم في نفس الوقت، وبهذه الصفة يستطيع أن يتنازل عن حقه كما فعل القاضي في مثالك يا جناب القمّص.
رابعا: قل لي يا جناب القمّص، لو أنك استلفت مبلغ الألف جنيه من ذلك القاضي الرحيم، ولم تستطع السداد، وهو يعرف حالتك ويعرف مدى عجزك عن السداد، فهل كان يحكم عليك بالسجن لعدم السداد، أم يتنازل عن حقه ويعطيك أيضا ألف جنيه أخرى لتقضي بها أمورك؟
وهل تستطيع في هذه الحالة أن تقول عنه إنه غير عادل لأنه لم يضعك في السجن، أم تقول إنه عادل ومحسن ورحيم؟
خامسا: لو كانت السيدة ناهد مليارديرة، وأنت استلفت منها ألف جنيه ولم تستطع السداد، هل كانت تطالبك بالسداد وتأخذك إلى المحكمة، أم أنها كانت تتنازل عن حقها من باب الإحسان يا جناب القمّص؟
سادسا: إن مثالك هذا يسيء جدا إلى الله تعالى، إذ يصوّره على أنه كائن أناني، يريد أن يحصل على حقه بأي وسيلة، حتى ولو اضطر أن يضحي بابنه الوحيد.
سابعا: استدلالك بأن الله لا يعود في كلامه أبدا، وأنه لا بد أن ينفذ عقابه لأنه ملك الملوك ورب الأرباب، لا يقوم على أساس ويتعارض مع الحكمة. فإن الملك لا يعود في كلامه إذا أمر بالإنعام على شخص وتبين فيما بعد أنه لا يستحق، ولكن إذا أمر الملك بعقوبة فمن حقه أن يصدر أمرا بالعفو أيضا.
ثامنا: كيف تُعلّمون أتباعكم فضيلة العفو يا جناب القمّص، إذا كان من تتخيلون أنه إله محبة، لا يتنازل عن حقه أبدا إزاء إساءة من إنسان غلبان، حتى ولو اقتضاه هذا أن يسخط نفسه في شكل إنسان، أو يقتحم جسد إنسان بريء ويدفع به إلى القتل على الصليب لكي يقتص لحقه؟
تاسعا: مما يدل على خطأ المثال الذي قدمته عن الله تعالى أن بطرس الرسول سأل السيد المسيح كم مرة يغفر لأخيه إذا أخطأ في حقه، هل يغفر له سبع مرات؟ فقال له: "لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات". فإذا كان المسيح يحض الإنسان على أن يغفر لأخيه 490 مرة، فهل يكون العدل عندكم أن يعذب الله البشرية كلها في أتون جهنم النار الأبدية لأول خطأ صدر من آدم؟
عاشرا: ألم تقرأ المثال الذي قدّمه المسيح عن ملكوت الله، إذ قال: "لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانا مَلِكا أراد أن يحاسب عبيده، فلما ابتدأ في المحاسبة قُدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة، وإذ لم يكن له ما يوفّي، أمَر سيده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له ويُوَفي الدّيْن، فخر العبد وسجد له قائلا يا سيد تمهّل عليّ فأوفيك الجميع. فتحنّن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدّيْن" (متّى23:18).
فهل كان هذا الملك غير عادل عندما تنازل عن الدّين؟ وما هو وجه الشبه بين هذا المثال وملكوت السماوات لو أن العدل يعني أن ينفذ الملك العقوبة في كل حال؟
أرجو يا جناب القمّص ألا تخدع من سوف يسألونك هذا السؤال فتقول لهم إنني اقتبست جزءا من المثال وتركت الجزء الباقي، لأن الملك في النهاية أمر بتنفيذ العقوبة على ذلك العبد. وأنا بالطبع لم أترك الجزء الباقي من المثال، وإنما أردت فقط أن أبين لك ولأتباعك أن مبدأ العفو عن المذنب جائز ولا يناقض العدل أبدا، لأن الرحمة دائما فوق العدل.
أما بقية المثال فهي كالتالي:
"ولما خرج ذلك العبد وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديونا له بمئة دينار، فأمسكه وأخذ بعنقه قائلا: أوفني ما لي عليك. فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب إليه قائلا تمهّل عليّ فأوفيك الجميع، فلم يرد بل مضى وألقاه في سجن حتى يوفيَ الدّيْن. فلما رأوا العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدا وأتوْا وقصّوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له أيها العبد الشرير، كل ذلك الدّيْن تركته لك لأنك طلبت إليّ، أفما كان ينبغي أنك أنت أيضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟ وغضب سيده وسلمه إلى المعذبين حتى يوفيَ كل ما كان له عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته". هذه هي بقية المثل يا جناب القمّص، وكما ترى فإني لا أخفي شيئا، ولا أستشهد بجزء من آية مثل (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وأترك الباقي كي أخدع السامعين والمشاهدين ليفهموا معنى خاطئا للآية. وكما ترى، لقد وضع الملك ذلك العبد في السجن لأن العبد لم يرحم كما رُحم، وليس لأن الملك أراد أن يطبق العدل حسب مفهومك أنت، ويقتص منه كل حقه. وعلى أي حال فإن ذلك العبد معذور، لأنه لم يسمع مواعظك، ولم ير صورتك البهية وأنت تشرح للسيدة ناهد مفهوم المسيحية للعدل، وإلا لوقف ذلك العبد وقال للملك: "يا جلالة الملك، لقد سمعتُ من جناب القمّص زكريا بطرس أن العدل يعني تنفيذ العقوبة، وأنت يا جلالة الملك لم تكن عادلا حين عفَوْت عني وتركت لي الديْن، ولكني أردت أن أكون مسيحيا صالحا، وأردت أن أكون عادلا كما أن إله المسيحية عادل، فطالبت ذلك العبد بما لي عنده، فلما لم يستطع السداد ألقيت به في السجن، فهكذا يُنفّذ العدل في المسيحية، فلماذا تغضب مني يا جلالة الملك"؟
فما رأيك في هذا يا جناب القمّص؟ هل لديك إجابة؟ نعم.. لعلك تتمحّك الآن في قصة إبراهيم عليه السلام وابنه، وتقول كما قلت في حديثك:
"بغض النظر عن الاختلافات وما إذا كان الابن هو إسحاق أو اسماعيل، فإن الله طلب منه أنه يقدّم ابنه، "... رأى في المنام أنه إيه.. بيدبحه، فخده وراح. ولما وَتَلَهُ للجبين، يعني نزّله ورفع السكين، سمع صوت، انظر، ما تعملش حاجة لابنك، التفت، لقى إيه؟ الفدا.. الفداء. كان لازم الفداء ده؟ ليه.. طب ما ربنا قال له ادبحه، وربنا يقول له خلاص ما تدبحوش، وخلصت العملية".
وهنا تضحك جنابك مع السيدة ناهد وتقول: "ما هو لو كان ربنا يقول كلام ويرجع فيه ويقول كلام ويرجع فيه، الحكاية تبقى.. ما فيش قوانين في الدنيا، مش كده؟ لكن ربنا عشان خاطر يفدي أو ينقذ هذا الشخص ويخلصه من حكم الذبح قال: فديناه بذبح عظيم. يبقى كده نفّذ الاتنين الحكم والفداء، الحكم في الفادي والرحمة للمخطئ. لكن ما فيش إطلاقا إن ربنا.. بمجرد إن هوه يتوب يقول له طب روح.. خلاص".
ولتعلم يا جناب القمّص أنه لم يكن هناك خاطئ يستحق الرحمة في قصة إبراهيم وابنه، فاستدلالك بها ليس في محله. ثم هل ما تقوله يا جناب القمّص حق أم كذب؟ هل "ما فيش إطلاقا إن ربنا.. بمجرد إن هوه (أي الإنسان) يتوب يقول له طب روح خلاص"؟. فعلا يا جناب القمّص. أنت على حق، وما تقوله هو الحق. ولكنه يختص بالمسيحية التي تؤمن بها أنت، والتي لم تأت من عند الله ولكنها من أفكار البشر، ولذلك لم يذكر العهد القديم ولا الأناجيل هذه العقائد التي تروّجها يا جناب القمّص. فلا يوجد إطلاقا في مسيحيتك أن الإنسان يتوب فيغفر له الله الغفور الرحيم، ولذلك فإنك تحاول أن تشوّه النص الذي جاء في العهد القديم والذي يقول "الرب إله رحيم ورؤوف ... غافر الإثم والمعصية والخطية" (خروج34: 6-7)، فتقول: "هوه بيغفر، يقدر يغفر، بس لازم يِوْجد الفدا.. الحل". هذه هي الزيادة التي أدخلتها يا جناب القمّص على النص، وذلك من أجل أن تبرر الفداء، الذي تزعم أنه اقتضى التجسد، الذي تزعم أن الإله الابن قام به، وذلك من أجل أن تبرر مذهب التثليث في المسيحية التي تؤمن بها.
كلمة أخيرة أود أن أقولها عن موضوع الآية (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، إذ يقول تعالى:
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ونَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلآءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافّات: 102-107).
إن العظيم في الأمر هو أن الله تعالى أراد أن يبين لإبراهيم وإسماعيل، وبالتالي لجميع من يأتي بعدهما، مدى إخلاص كل منهما وطاعته لله تعالى. وكان إبراهيم قد أثبت من قبل طاعته وولاءه لله تعالى، وذلك حين أمره الله أن يأخذ ابنه الوحيد اسماعيل ويتركه في واد غير ذي زرع في وسط الصحراء الجرداء، فكان هذا حكما بتعريضه للموت والهلاك، كالقتل أو الذبح، ولكن إبراهيم أطاع الأمر وأثبت ولاءه لله تعالى. وكان على إسماعيل أن يثبت أيضا نفس هذه الطاعة والولاء. فكانت الرؤيا لإبراهيم أنه يذبح إسماعيل، وهنا أثبت إسماعيل أيضا طاعته وولاءه لله تعالى بأن قال ( يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). ولما أراد كل منهما أن ينفذ الرؤيا حرفيا، قال الله تعالى لإبراهيم ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ)، ولم يقل قد صدّقتما الرؤيا، مع أن كليهما كانا مشتركين في التنفيذ الحرفي، إذ لم يكن الغرض هو تنفيذ الرؤيا حرفيا، وإنما كان الغرض إثبات طاعة وولاء إسماعيل، أما إبراهيم، فكان قد صدّق الرؤيا من قبل، أي أنه كان قد حققها حين أطاع أمر الله بترك إسماعيل في ذلك الوادي دون ماء أو طعام، وقد أبقى الله تعالى على حياة إسماعيل، لأن من نسله سوف يأتي نبي عظيم، الذي شُبّه بالذبح العظيم، وذلك لأن الذبح قربان يتقرّب به الإنسان إلى الله تعالى، فهو وسيلة من وسائل التقرّب إلى الله، وكذلك فإن النبي العظيم الذي سوف يأتي من ذرية إسماعيل سوف يكون هو وحده الوسيلة لمعرفة الله الواحد والتقرب إليه، وهو الذي سوف يدعو البشرية كلها إلى عبادة الله الواحد الأحد، ولذلك فهو الذي يستحق أن يوصف بإنه ذبح عظيم، أي أنه قربان عظيم، أي أنه هو الوسيلة العظيمة لمعرفة الله والتقرب إليه.
أما الكبش أو الخروف فلا يستحق أن يوصف بأنه ذبح عظيم، لإنه مجرد وسيلة فقط من وسائل التقرب إلى الله تعالى. وبالتالي فإن موضوع هذه القصة لا يتعلق بشيء عن موضوع الفداء الذي يتكلم عنه جناب القمص.
بقي أن أهمس في أذنك برجاء يا جناب القمّص، وهو أن تطلب ممن يعدّون لك البرامج، ويكتبون لك المواد التي تقرأها، أن يضعوا الحركات من فتح وكسر وضم وتشديد فوق الحروف حتى تستطيع أن تقرأها قراءة صحيحة، فالآية التي ذكرتها في حديثك هي ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، وليست "ولما وتَلَهُ للجبين"، فإن الخطأ في قراءة آيات القرآن الكريم، سواء كان متعمّدا أو غير متعمّد، فهو يؤذي مشاعر المسلمين، ولك جزيل الشكر.
http://www.elfarouk.net/modules.php?...rticle&sid=326
www.***********
موقع الاستاذ مصطفى ثابت
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات