آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


-
أكاذيب القمص زكريا بطرس ( 4 )
مصطفى ثابت
في الحلقة الأولى ذكرنا الأسلوب الذي يتبعه جناب القُمّص في استدلالاته، وهو أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم ليخرج بمعنى لا يحتمله النص. وقد رأينا حقيقة ذلك في الحلقة السابقة عندما فسر جناب القُمّص، أو نقل عن المفسرين، تفسيرهم للكلام الذي قيل في حق ملك بابل وملك صور، فحوّله ولوَى معانيه ليستدل به على أن الشيطان كان رئيس الملائكة. ثانيا: يقدم جناب القُمّص أفكارا تبدو أنها صحيحة ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة. ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقائق والتشبيهات، وسوف نرى في هذه الحلقة مثالا على ذلك. رابعا: يتعمّد أحيانا تحريف النص ليتفق مع وجهة نظره، وسوف نرى أيضا مثالا على ذلك في هذه الحلقة. خامسا: يتهم المشاهد المسلم بالجهل، وأنه لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم فهو لا يقبل الحقيقة. سادسا: يستخدم آراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين، كما هو الحال عندهم في المسيحية، حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين. وسوف نرى أيضا في هذه الحلقة أمثلة كثيرة من هذا النوع.
يتكلم جناب القُمّص في هذه الحلقة عن جنة آدم وكيفية دخول الخطية إلى حياة الإنسان، فيقول إنها دخلت حياة الإنسان بحسب الشيطان، حيث إنه أعطى ثمرة الشجرة المحرّمة إلى حواء لتأكل منها. ويذكر جناب القُمّص أن الشجرة المحرمة لم تكن شجرة تفاح ولا شجرة مانجو، ولكنها كانت شجرة طبيعية استُخدمت فقط كرمز، مع أن الكتاب المقدس واضح تمام الوضوح في أنها كانت شجرة معرفة الخير والشر، وأن آدم وحواء بعد أن أكلا منها انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، وحتى الله نفسه قال "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين23:3). فمن نصدق يا ترى؟ جناب القُمّص الذي يقول إنها كانت شجرة طبيعية، أم نصدق الكتاب المقدس الذي يقول إنها شجرة معرفة الخير والشر، ويقدم الدلائل على أن من يأكل منها تنفتح عينه ويصير عارفا للخير والشر؟ طبعا جناب القُمّص يعلم تماما أنه ليس هناك من شجرة تجعل من يأكل منها يعرف الخير والشر، وأن هذه فكرة أسطورية خرافية ولا يصح أن تكون موجودة في كتاب مقدس، فيحاول أن يقنعنا بأنها كانت شجرة عادية طبيعية. طبعا هو معذور، فماذا يفعل؟ يعترف بالحقيقة ويقول إن كتابه المقدس يحتوي على خرافات؟ طبعا لا. لا بد أنه يدافع عنه، فهو معذور.
بعد ذلك يشرح جناب القُمّص كيف دخلت الخطية إلى حياة الإنسان فيقول إنه لما آدم وحواء أكلا من الشجرة المحرّمة، فقد كسرا الوصية وشقا عصا الطاعة، وبذلك دخلت الخطية في حياتهما، والخطية هنا كما يقول: "جُرثومة". ثم يقول جناب القُمّص بالنص:
"في الكتاب المقدس، في سفر يشوع بن سيراخ، وهو من أسفار إيه إل ... مش موجودة في الكتاب، الأسفار القانونية الثانية، تقول كدة: "لأن جرثومة الخطية متأصلة فيه".
ونحن نسأل يا جناب القُمّص، أين هذا السفر المسمّى بسفر يشوع بن سيراخ؟ ولماذا لا نجده في الكتاب المقدس الذي تؤمن به؟ فماذا حدث له؟ هل نُسخ يا ترى أم أنهم نسوا أن يطبعوه. لقد قضيت يا جناب القُمّص أياما وأسابيع وحلقات بعد حلقات تحدثنا حديثا واهيا متهافتا عما أسميته بالنسخ في القرآن، ورحت تنقل عن بعض علماء العصور الوسطى الذين قالوا بوجود النسخ في القرآن، ورحت تتحدى وتسخر وتهزأ وتسأل عن الآيات المنسوخة. وقد رد عليك بعض الأخوة وشرحوا لك أنه لا يوجد نسخ في القرآن، وأن الذي قال بوجود النسخ في القرآن هم بعض العلماء الذين لم يفهموا بعض الآيات التي تحتوي على أحكام معينة، فظنوا أنها تتعارض مع أحكام في آيات أخرى. لقد كان رأيهم بوجود النسخ في القرآن مجرد اجتهاد من جانبهم، وهم قد أخطأوا في هذا الاجتهاد فلهم أجر على اجتهادهم على كل حال. وقيل لك إن الكثير من علماء المسلمين في العصر الحديث كتبوا العديد من الكتب لبيان عدم وجود أي نسخ في القرآن، غير أنك أردت أن تصطاد في الماء العكر، فرحت تتحدث عن القرآن الكريم باعتباره كتابا ينسخ بعضه بعضا، إلى أن وقعت في نفس الحفرة التي أردت أن تحفرها للقرآن، واعترفت بلسانك بوجود سفر من الأسفار المقدسة، التي يعتبرها بعض المسيحيين من وحي الله تعالى، بينما لا يعتبرها الآخرون كذلك. فماذا حدث لتلك الأسفار المقدسة، هل نُسخت؟ وهل نُسخت لفظا وبقيت حكما، حتى إنك تستشهد بها؟ أم أنها نُسخت لفظا وحكما؟ وهل هذا هو الكتاب الذي تريد من المسلمين أن يتخلوا عن قرآنهم الكريم ليقبلوه باعتباره كتابا مقدسا، وهو يحتوي على أسفار مقدسة لدى البعض وغير مقدسة لدى البعض الآخر؟ ألم أقل لك يا جناب القُمّص أن من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة؟ والمسيح قال: من كان منكم بلا خطية فليلقها بحجر، ورغم أنك محمّل بالخطايا باعترافك، فإنك مع ذلك تقذف بالأحجار يمينا وشمالا، وطبعا لا بد أن تقع بعض هذه الأحجار فوق رأسك يوما ما، وها قد جاء اليوم لتعلن بنفسك، وتعترف بلسانك، بوجود النسخ في الكتاب المقدس.
ثم نعود إلى الموضوع الأصلي، وهو كيف دخلت الخطية إلى حياة الإنسان، فتقول:
"المرض اللي كان عند الشيطان كان مرض إيه؟ الكبرياء. فهو حط العدوى في آدم وحوا، لما خد الثمرة وأكل منها وأعطى حوا، فسال عليها لعاب الكبرياء، فأكلت فصار فيها ميكروب وجرثومة الكبرياء، ... ، فأصبحت جرثومة الخطية في دم البشرية، مش بس آدم وحوا، النسل أيضا أصبح بهذا الشكل".
ومن الواضح يا جناب القُمّص أنك تخلط بين التشبيهات والحقائق، وتمزج بين الحقيقة والمجاز، فليس للخطية ميكروب ولا جرثومة، وهي لا تنتقل بالعدوى وإنما بالممارسة، والخطية لا يمكن أن تكون في دم البشرية، لمجرد أن آدم وحواء قد أخطآ، فالكتاب المقدس مملوء بالشواهد التي تدل على أن الآباء لا يحملون أمام الله وزر أخطاء الأبناء، كما لا يحمل الأبناء وزر أخطاء الآباء. يقول الكتاب المقدس: "لا يقولون بعد الآباء أكلوا حِصْرِما وأسنانُ الأبناء ضرِسَت، بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحِصرِم تضرَسُ أسنانُه" (إرميا29:31)، ويقول كذلك: "النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون وإثم الشرير عليه يكون" (حزقيال20:18). هذا هو العدل الذي يليق بأن يُنسب إلى الله تعالى، وأما أن يخطئ إنسان واحد، فيُدان الجنس البشري كله، فهذا ظلم عظيم على الجنس البشري بأكمله، ولا يليق أن يُنسب الظلم إلى إله العدل والمحبة.
والغريب يا جناب القُمّص أنك تحاول أن تستشهد بما كتبه بعض علماء المسلمين، مثل ما قاله الترمذي: "جحد آدم فجحدت ذريته، وأخطأ آدم فخطئت ذريته"، أو ما قاله الرازي في تفسير الآية 28 من سورة يوسف إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ حيث قال الرازي: "أي ميالة إلى القبائح، راغبة في المعصية، والطبيعة البشرية تواقة إلى اللذات". ولتعلم يا جناب القُمّص أن أقوال العلماء من المسلمين هي مجرد اجتهاد من جانبهم، وهم قد يصيبون وقد يخطئون في اجتهادهم، وبالتالي فإن قولهم ليس ملزما لجميع المسلمين. وحيث إنك مولع بالاستشهاد بأقوال العلماء، فإني أقول لك مرة أخرى إن أقوالهم ليست ملزمة، وعلى هذا فلن أحاول أن أجيب عليها أو أبررها أو أخطئها أو أفندها، وتكفيني أقوالك أنت أو ما تسوقه من آيات القرآن المجيد. وأما استشهادك بالآية إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، فلا يعني أن نفس كل إنسان أمارة بالسوء، بل إن النفس لدى المرأة التي قالت هذه الجملة هي الأمّارة بالسوء، فهي التي كانت تريد أن ترتكب الزنى مع يوسف ، وكانت تعيش في مجتمع منحط أخلاقيا، وإلا، فلماذا لم يوافق يوسف على ارتكاب الزنى معها لو أن نفسه هو أيضا كانت أمّارة بالسوء؟ ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القُمّص لتعرف أنه قال للمرأة: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله"؟ (تكوين9:39). فهل هذه النفس الكريمة التي تمتنع عن ارتكاب الفحشاء تكون أمّارة بالسوء؟ من الواضح أن الرازي قد أخطأ في تفسير الآية إن كان قد عممها على جميع الناس، فالمثال الذي قدمه يوسف يثبت لك أنت وهو أنكما مخطئان في فهمكما للنفس البشرية. ولكن أنت طبعا معذور يا جناب القُمّص، فأنت تردد ما كتبوه لك، وتقرأ ما سبق إعداده لك، ولم تقم بنفسك لتبحث وتتعلم وتتعرف على حقائق الأمور، مع أنك تتهم المسلمين بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وكان الأوْلى بك أن تخرج الخشبة التي في عينك قبل أن تنظر إلى عيون الآخرين وتظن أن فيها قذى. ولو أنك قرأت وبحثت يا جناب القُمّص لعلمت أن القرآن الكريم يتحدث أيضا عن النفس اللوّامة، التي تلوم نفسها على فعل المعصية لأنها تكره المعصية وتستنكر ارتكاب الإثم، ولكنها لضعفها قد تقع في المعصية، فتسرع بالتوبة والندم والاستغفار، وتلوم نفسها على ضعفها. ولو أنك قرأت أكثر لعلمت أن القرآن الكريم يتحدث أيضا عن النفس المطمئنة، التي استطاعت أن تتغلب على الإثم، وصارت مطمئنة في حضن محبة الله تعالى، فلا يستطيع الشيطان أن يؤثر عليها، فيقول الله لها: يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي في عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتي (الفجر:27)
العجيب يا جناب القُمّص أنك رجل دين، كما يبدو من ملابسك، ومن لقبك الذي ينادونك به، مع أنك تقاعدت عن وظيفة القُمّص، كما سمعت، أو أنك طُردت من الخدمة كما يقولون. وعلى أي الأحوال، كان ينبغي عليك أن تستزيد من المعرفة وتوسع أفق قراءاتك، ولا تكتفي بما يعدونه لك لتردده أمام الكاميرات، إذ من العيب الكبير على رجل دين أن يتكلم في مسائل الدين وهو يجهل إلى حد كبير، الكثير مما يتكلم عنه. عيب يا أبونا عيب! إن هذا قد يكون مقبولا من الصغار، سواء صغار السن أو صغار المقام، ولكن أنت تبدو وقد تخطيت الخمسين أو الستين من العمر، ومقامك كبير بين الناس الذين يصدقون ما تقول، فكان من الواجب عليك أن تكون أكثر ثقافة وأوسع اطلاعا، أو على الأقل تحصر نفسك في المسيحية التي تؤمن بها، ولا تقحم نفسك فيما أنت لست أهلا له، وما قد يعلو على مفاهيمك ومداركك.
ثم ماذا أقول يا جناب القُمّص عن سوء القصد وخُبث النيّة؟ أنا لا أتهمك أنت بهذا، فأنت معذور كما قلتُ، وإنما هؤلاء الذين يكتبون لك المواد، ويُعدّون لك البرامج، ويستخرجون لك الآيات التي تستشهد بها، ألم يقرأوا الآية كلها التي انتزعوا منها جزءا وتركوا بقيتها؟ فلماذا فعلوا هذا؟ هل لأن بقية كلمات الآية ليس لها علاقة بالموضوع أم لأنهم يريدون أن يغشوا المشاهد ويخدعوا السامع ويُلبسوا الحقائقَ ثوبَ الباطل؟ إن الآية يا جناب القُمّص هي وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ، ومن الواضح أن في الآية استثناء، فليست كل نفس أمّارة بالسوء، والله تعالى لم يخلق النفس أمّارة بالسوء، وإنما كما ذكرت لك في الحلقة الماضية، خلق الله في النفس الشهوات والغرائز والنوازع، لتدفع الإنسان إلى التقدم والرقي. وهذه الشهوات والغرائز في حد ذاتها ليست سيئة ولا فاسدة، بل هي مفيدة وضرورية ولا بد من وجودها لفائدة الإنسان نفسه. فلو لم تكن شهوة الجنس موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على استمرار نوعه، ولو لم تكن شهوة حب النفس موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على حياته ويعتني بنفسه، ولو لم تكن شهوة التملك موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على بيته وأمواله وأولاده، ولو لم تكن النفس تواقة إلى اللذات، لما استطاع الإنسان أن يتناول أطايب الطعام وأنواع الشراب والعصائر، ولكان مثل البهيمة التي تأكل نفس العشب كل يوم طوال أيام حياتها. فهذه الشهوات يا جناب القُمّص ضرورية لحياة الإنسان، وهي من نعم الله تعالى عليه، وهي في ذاتها خير لأنها تفيد الإنسان وتفيد المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن سوء استخدامها هو الذي يضر ويسيء إلى الإنسان وإلى المجتمع، فهي مثل السيارة مثلا الآن، تساعد على انتقال المرء من مكان إلى مكان بسرعة وبراحة، ولكن سوء استخدامها يؤدي إلى عواقب وخيمة للفرد وللمجتمع. وإذا نظرت حولك فيما خلق الله للإنسان، لوجدت أنه سبحانه قد سخّر للإنسان كل شيء، فنعَمه أكثر من أن تُعد أو تُحصى، ولكن سوء استخدام الإنسان لهذه النعم هو الذي يضره ويجلب عليه الخسران. إن النار تحرق وتدمر وتخرّب عند إساءة استعمالها، ولكنها تعطي الدفء عند شدة البرد، وتدير الآلات الضخمة من أجل زيادة الإنتاج. وهكذا الشهوات والغرائز والنوازع، إذا استعملها الإنسان الاستعمال الصحيح، عاش حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وإذا أساء استعمالها، انقلبت حياته إلى هم وغم وعاش في خزي وهوان في الدنيا والآخرة، أما هي في حد ذاتها فهي من نعم الله تعالى وفضله، وبدونها لصار الإنسان مثل الحجر الأصم الذي لا يتحرك ولا يضر ولا ينفع.
ولذلك، حينما خلق الله الإنسان، وخلق له هذه الشهوات والغرائز، وأعطاه هذه النوازع والدوافع، أعطاه أيضا شريعة تنظم له كيفية إشباع هذه الشهوات دون الاقتراب من سوء استعمالها، وعبّر عن ذلك بوصف "الجنة"، فشريعة الله وقوانينه جنة، وهي تحتوي على كثير من الأوامر والنواهي التي تنظم حياة الإنسان القائمة على حسن استعمال هذه الشهوات والغرائز والنوازع والدوافع، وهذه الأوامر والنواهي مثل الأشجار المتفرعة، فهذه مجموعة الأوامر التي تختص بالعبادات، أو شجرة العبادات، وهذه مجموعة الأوامر التي تختص بالمعاملات، أي شجرة المعاملات، وهذه مجموعة الأوامر التي تختص بشئون الزواج والأسرة وتربية الأبناء، أي شجرة الأسرة، وهذه أيضا مجموعة النواهي والمحرّمات التي يجب تجنبها حتى لا يضر الإنسان نفسه، أي الشجرة المحرمة. وكل هذه الأشجار تحتويها الشريعة، أي الجنة التي عندما يعيش فيها الإنسان يعيش في نعيم مقيم. ولما قال الله تعالى لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، كان يخاطبه بأسلوب مجازي جميل، فيقول له إنه يستطيع أن يشبع جميع شهواته، ويرضي جميع غرائزه، أي يأكل من جميع أشجار الجنة، ويستمتع باللذات التي خلقها الله تعالى له، إذا اتبع الطريق الصحيح الذي عرّفه الله تعالى إياه، ثم حذّره من الاقتراب من الشجرة المحرّمة، أي من مجموعة النواهي أو حدود الله التي يجب ألا يقترب منها الإنسان، كما يقول تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (البقرة:187).
فإذا عاش الإنسان في جنة الشريعة هذه، وأكل من جميع أشجارها ما عدا الشجرة المحرّمة، فإنه يُشبع غرائزه ويستمتع بالحياة، ويعيش مستورا بمحبة الله وينعم بقربه، فيصبغه الله بصبغته صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً (البقرة:138)، ويزوّدُه بزاد التقوى وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (البقرة:197)، ويَكسيه أيضا بخير لباس وهو لباس الرحمة والمحبة والتقوى وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ (الأعراف:26). ولذلك طالما بقيَ الإنسان في هذه الجنة، يقول الله تعالى له إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (طه:118). أما الخروح من هذه الجنة فهو يؤدي إلى المعاناة والشقاء، ولذلك يقول تعالى للإنسان فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (طه:116). ولكن مع مرور الزمن، يحدث أن ينسى الإنسان بعض الأمور، وقد يجتهد في تفسير بعض الأوامر فيخطئ، ولكنه ليس خطأ تعمّد، ولا خطأ تمرّد، وإنما خطأ نسيان دون قصد، وهذا ما صدر من آدم ، إذ يقول تعالى عنه وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه:115)، أي أنه لم يكن يقصد أن يرتكب المعصية، وإنما فعلها من باب النسيان، ولم يكن له عزم على ما فعل. فقد كان يود الخلود لرسالته، ويبتغي النجاح في مهمته، وهي تحقيق الخلافة في الأرض، فلهذا خلقه الله وجعله خليفة في الأرض. وعندما يتبين للإنسان أنه أخطأ حتى ولو بدون قصد، ويتضح له أنه عصى حتى ولو بغير تعمّد، فإن الإنسان السوي يخجل من معصيته، ويستحي من ذنبه، ويعتبره عورة ينبغي أن يخفيها، ويسأل الله تعالى أن يستره ولا يفضحه. وهكذا إذا نُزع عن الإنسان لباس التقوى، تظهر سوءاته وعوراته، فيسرع بتغطية تقصيره، ويهرع إلى أوامر الله تعالى، أي إلى أوراق الاستغفار ليغطي بها سوءته، فالاستغفار يعني طلب التغطية، فيطلب من الله تعالى المغفرة والرحمة. ولذلك يقول تعالى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ. لقد زال عنهما لباس التقوى فبدت لهما سوءات المعصية التي كانت بغير قصد وبسبب النسيان، فطفقا يسألان الله تعالى المغفرة لكي يغطي ذنبهما ويعيد إليهما لباس التقوى، فالعودة إلى ارتداء لباس التقوى هي التوبة، وإعادة لباس التقوى إلى الإنسان هي قبول توبته من الله تعالى. ولذلك قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنْفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف:23)، فتقبّل الله تعالى توبتهما، وأعاد لهما لباس التقوى، إذ يقول سبحانه فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة:37). وهكذا، أصبحت القصة كلها عبرة وموعظة لبني آدم كي يكونوا على حذر من فتنة الشهوات والغرائز، فلا يسيئون استعمالها. فهي كالنار، تفيد إذا أحسن الإنسان استعمالها، وتحرق وتُهلك إذا أساء الإنسان استخدامها. ونفس هذه الشهوات والغرائز التي تسبب السعادة واللذّة والنعيم للإنسان تتحول فتكون شيطانا يسبب الخزي والهوان والهلاك للإنسان، ولذا يحذر الله تعالى بني آدم فيقول يَا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ (أي من جنة شريعة الله التي فيها ينالون رضوانه) يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا (أي لباس التقوى والقرب من الله تعالى) لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا (الأعراف:77). وهنا لمحة جميلة تبين حكمة العقاب والغرض منه، فالغرض من نزع لباس التقوى ليس هو الانتقام أو التشفّي أو إيقاع الضرر، وإنما لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أي لكي يري المخطئ نتائج خطئه قبل أن يراها الآخرون، ويدرك المسيء عواقب إساءته قبل أن يفتضح أمره، فيعمل على تدارك الأمر، ويلتمس تغطية تلك السوءة بالتوبة وبالاستغفار، أي بطلب استعادة لباس التقوى لكي يغطي به تلك العورة التي بدت له، فلا تظهر أمام الآخرين.
ما أعظم هذه التعاليم، وما أسمى هذه المفاهيم، وما أروع هذه التوجيهات، وما أنبل هذه الإرشادات، وما أحلى هذه الاستعارات، وما أجمل هذه الكنايات والتشبيهات، التي تعطي الكلام روعة وحلاوة، وتكسبه جمالا وطلاوة. ولك يا جناب القمّص أن تقارن بين ما يقدمه القرآن المجيد من تعاليم ومفاهيم، وبين ما يقدمه الكتاب المقدس من حكايات وأساطير، على الأقل فيما يختص بقصة آدم وجنته. فإذا نظرت إلى كتابك بعيون الكناية والمجاز، فلعلك تجد في القصة شيئا يستحق الاهتمام، وإذا نظرت بعيون المادية والحرفية، فلن تجد في القصة إلا خرافة وأوهام.
ومرة أخرى أطلب من حضرات القراء أن يتفكروا فيما أقول، وليقارنوا بين ما سمعوه من جناب القمّص في شرحه وفهمه للكتاب المقدس، وبين ما قدمت من شرح وفهم للقرآن المجيد. ثم لهم بعد ذلك أن يقرروا أي المفاهيم هي التي تليق بجلال الله تعالى، وأي التعاليم هي التي يمكن أن تصدر عن إله الحكمة والمحبة والرحمة. عسى أن يوفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد، ويهدي القلوب إلى طريق الحق والرشاد. آمين.
( والحديث موصول )
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?b...w&EgyxpID=6475
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة armoosh_2005 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 26-02-2009, 09:36 PM
-
بواسطة ffmpeg في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 29-06-2008, 11:59 AM
-
بواسطة أبو ايمان في المنتدى مشروع كشف تدليس مواقع النصارى
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 12-04-2008, 04:59 PM
-
بواسطة أبو ايمان في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 11-04-2008, 03:10 AM
-
بواسطة طلاب العلم في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 17-03-2008, 05:12 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات