رسالة الجاحظ إلى النصارى

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

رسالة الجاحظ إلى النصارى

النتائج 1 إلى 10 من 12

الموضوع: رسالة الجاحظ إلى النصارى

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    610
    آخر نشاط
    07-04-2009
    على الساعة
    10:34 PM

    افتراضي

    فصل منه

    ومما يدل على قلة رحمتهم، وفساد قلوبهم أنهم أصحاب الخصاء من بين جميع الأمم، والخصاء أشد المثلة، وأعظم ما ركب به إنسان ثم يفعلون ذلك بأطفال لا ذنب لهم، ولا دفع عندهم.

    ولا نعرف قوماً يعرفون بخصاء الناس حيث ما كانوا إلا ببلاد الروم والحبشة، وهم في غيرهما قليل، وأقل قليل.

    على أنهم لم يتعلموا إلا منهم، ولا كان السبب في ذلك غيرهم، ثم خصوا أبناءهم وأسلموهم في بيعهم. وليس الخصاء إلا في دين الصابئين، فإن العابد ربما خصى نفسه، ولا يستحل خصاء ابنه. فلو تمت إرادتهم في خصاء أولادهم في ترك النكاح وطلب النسل كما حكيت لك قبل هذا لانقطع النسل، وذهب الدين، وفتن الخلق.

    والنصراني وإن كان أنظف ثوباً، وأحسن صناعة، وأقل مساخة، فإن باطنه ألأم وأقذر وأسمج، لأنه أقلف، ولا يغتسل من الجنابة، ويأكل لحم الخنزير، وامرأته جنب لا تطهر من الحيض، ولا من النفاس، ويغشاها في الطمث، وهي مع ذلك غير مختونة.

    وهم مع شرارة طبائعهم، وغلبة شهواتهم ليس في دينهم مزاجر كنار الأبد في الآخرة، وكالحدود والقود والقصاص في الدنيا، فكيف يجانب ما يفسده، ويؤثر ما يصلحه من كانت حاله كذلك. وهل يصلح الدنيا من هو كما قلنا؟ وهل يهيج على الفساد إلا من وصفنا؟ ولو جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك أن تفهم قولهم في المسيح، لما قدرت عليه، حتى تعرف به حد النصرانية، وخاصة قولهم في الإلهية.

    وكيف تقدر على ذلك وأنت لو خلوت ونصراني نسطوري فسألته عن قولهم في المسيح لقال قولاً، ثم إن خلوت بأخيه لأمه وأبيه وهو نسطوري مثله فسألته عن قولهم في المسيح لأتاك بخلاف أخيه وصنوه. وكذلك جميع الملكانية واليعقوبية. ولذلك صرنا لا نعقل حقيقة النصرانية، كما نعرف جميع الأديان.

    على أنهم يزعمون أن الدين لا يخرج في القياس، ولا يقوم على المسائل، ولا يثبت في الامتحان، وإنما هو بالتسليم لما في الكتب، والتقليد للأسلاف. ولعمري، إن من كان دينه دينهم ليجب عليه أن يعتذر بمثل عذرهم.

    وزعموا أن كل من اعتقد خلاف النصرانية من المجوس والصابئين والزنادقة فهو معذور، ما لم يتعمد الباطل، ويعاند الحق. فإذا صاروا إلى اليهود قضوا عليهم بالمعاندة، وأخرجوهم من طريق الغلط والشبهة.
    التعديل الأخير تم بواسطة mahmoud000000 ; 08-06-2006 الساعة 04:00 PM

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    610
    آخر نشاط
    07-04-2009
    على الساعة
    10:34 PM

    افتراضي

    في بنوة المسيح
    فصل منه


    سألتم عن قولهم: إذا كان تعالى قد اتخذ عبداً من عباده خليلاً، فهل يجوز أن يتخذ عبداً من عباده ولداً، يريد بذلك إظهار رحمته له، ومحبته إياه، وحسن تربيته وتأديبه له، ولطف منزلته منه، كما سمى عبداً من عباده خليلاً، وهو يريد تشريفه وتعظيمه، والدلالة على خاص حاله عنده.

    وقد رأيت من المتكلمين من يجيز ذلك ولا ينكره، إذا كان ذلك على التبني والتربية والإبانة له بلطف المنزلة، والاختصاص له بالمرحمة والمحبة، لا على جهة الولادة، واتخاذ الصاحبة. ويقول: ليس في القياس فرق بين اتخاذ الولد على التبني والتربية وبين اتخاذ الخليل على الولاية والمحبة.

    وزعم أن الله تعالى يحكم في الأسماء بما أحب، كما أن له أن يحكم في المعاني بما أحب.

    وكان يجوز دعوى أهل الكتاب على التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء صلوات الله عليهم في قولهم: إن الله قال: " إسرائيل بكري " أي هو أول من تبنيت من خلقي. وأنه قال: " إسرائيل بكري، وبنوه أولادي " . وأنه قال لداود: " سيولد لك غلام، ويسمى لي ابناً، وأسمى له أباً " . وأن المسيح قال في الإنجيل: " أنا أذهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم " ، وأن المسيح أمر الحواريين أن يقولوا في صلواتهم: " يا أبانا في السماء، تقدس اسمك " . في أمور عجيبة، ومذاهب شنيعة، يدل على سوء عبادة اليهود، وسوء تأويل أصحاب الكتب، وجهلهم مجازات الكلام، وتصاريف اللغات، ونقل لغة إلى لغة، وما يجوز على الله، وما لا يجوز. وسبب هذا التأويل كله الغي والتقليد، واعتقاد التشبيه.

    وكان يقول: إنما وضعت الأسماء على أقدار المصلحة، وعلى قدر ما يقابل من طبائع الأمم. فربما كان أصلح الأمور وأمتنها أن يتبناه الله أو يتخذه خليلاً، أو يخاطبه بلا ترجمان، أو يخلقه من غير ذكر، أو يخرجه من بين عاقر وعقيم. وربما كانت المصلحة غير ذلك كله. وكما تعبدنا أن نسميه جواداً ونهانا أن نسميه سخياً أو سرياً وأمرنا أن نسميه مؤمناً ونهانا أن نسميه مسلماً، وأمرنا أن نسميه رحيماً ونهانا أن نسميه رفيقاً.

    وقياس هذا كله واحد، وإنما يتسع ويسهل على قدر العادة وكثرتها. ولعل ذلك كله قد كان شائعاً في دين هود وصالح وشعيب وإسماعيل، إذ كان شائعاً في كلام العرب في إثبات ذلك وإنكاره.

    وأما نحن - رحمك الله - فإنا لا نجيز أن يكون لله ولد، لا من جهة الولادة، ولا من جهة التبني، ونرى أن تجويز ذلك جهل عظيم، وإثم كبير؛ لأنه لو جاز أن يكون أباً ليعقوب لجاز أن يكون جداً ليوسف، ولو جاز أن يكون جداً وأباً، وكان ذلك لا يوجب نسبا، ولا يوهم مشاكلة في بعض الوجوه، ولا ينقص من عظم، ولا يحط من بهاء، لجاز أيضاً أن يكون عماً وخالاً؛ لأنه إن جاز أن يسميه من أجل المرحمة والمحبة والتأديب أباً، جاز أن يسميه آخر من جهة التعظيم والتفضيل والتسويد أخاً، ولجاز أن يجد له صاحباً وصديقاً، وهذا ما لا يجوزه إلا من لا يعرف عظمة الله، وصغر قدر الإنسان.

    وليس بحكيم من ابتذل نفسه في توقير عبده، ووضع من قدره في التوفر على غيره. وليس من الحكمة أن تحسن إلى عبدك بأن تسيء إلى نفسك، وتأتي من الفضل ما لا يجب بتضييع ما يجب. وكثير الحمد لا يقوم بقليل الذم، ولم يحمد الله ولم يعرف إلهيته من جوز عليه صفات البشر، ومناسبة الخلق، ومقاربة العباد.

    وبعد، فلا يخلو المولى في رفع عبده وإكرامه من أحد أمرين: إما أن يكون لا يقدر على كرامته إلا بهوان نفسه، ويكون على ذلك قادراً، مع وفارة العظمة، وتمام البهاء.
    وإن كان لا يقدر على رفع قدر غيره إلا بأن ينقص من قدر نفسه فهذا هو العجز، وضيق الذرع.

    وإن كان على ذلك قادراً فآثر ابتذال نفسه والحط من شرفه فهذا هو الجهل الذي لا يحتمل.

    والوجهان عن الله جل جلاله منفيان.

    ووجه آخر يعرفون به صحة قولي، وصواب مذهبي، وذلك أن الله تبارك وتعالى لو علم أنه فد كان فيما أنزل من كتبه على بني إسرائيل: إن أباكم كان بكري وابني، وإنكم أبناء بكري لما كان تغضب عليهم إذ قالوا: نحن أبناء الله، فكيف لا يكون ابن ابن الله ابنه، وهذا من تمام الإكرام، وكمال المحبة، ولا سيما إن كان قال في التوراة: بنو إسرائيل أبناء بكري.

    وأنت تعلم أن العرب حين زعمت أن الملائكة بنات الله كيف استعظم الله تعالى ذلك وأكبره، وغضب على أهله، وإن كان يعلم أن العرب لم تجعل الملائكة بناته على الولادة واتخاذ الصاحبة، فكيف يجوز مع ذلك أن يكون الله قد كان يخبر عباده قبل ذلك بأن يعقوب ابنه، وأن سليمان ابنه، وأن عزيراً ابنه، وأن عيسى ابنه؟.

    فالله تعالى أعظم من أن يكون له أبوة من صفاته، والإنسان أحقر من أن يكون بنوة الله من أنسابه.

    والقول بأن الله يكون أباً وجداً وأخاً وعماً، للنصارى ألزم، وإن كان للآخرين لازماً، لأن النصارى تزعم أن الله هو المسيح بن مريم، وأن المسيح قال للحواريين: " إخوتي " . فلو كان للحواريين أولاد لجاز أن يكون الله عمهم! بل قد يزعمون أن مرقش هو ابن شمعون الصفا، وأن زوزري ابنته، وأن النصارى تقر أن في إنجيل مرقش: " ما زاذ أمك وإخوتك على الباب " وتفسيرها: ما زاذ: معلم. فهم لا يمتنعون من أن يكون الله تبارك وتعالى أباً وجداً وعماً.

    ولولا أن الله قد حكى عن اليهود أنهم قالوا: إن " عزيراً ابن الله " ، " ويد الله مغلولة " ، و " إن الله فقير ونحن أغنياء " وحكى عن النصارى أنهم قالوا: " المسيح ابن الله " وقال: " قالت النصارى المسيح ابن الله " . وقال: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " لكنت لأن أخر من السماء أحب إلي من أن ألفظ بحرف مما يقولون.

    ولكني لا أصل إلى إظهار جميع مخازيهم، وما يسرون من فضائحهم، إلا بالإخبار عنهم، والحكاية منهم.

    فإن قالوا: خبرونا عن الله، وعن التوراة، أليست حقاً؟ قلنا: نعم. قالوا: فإن فيها " إسرائيل بكري " وجميع ما ذكرتم عنا معروف في الكتب.

    قلنا: إن القوم إنما أتوا من قلة المعرفة بوجوه الكلام، ومن سوء الترجمة، مع الحكم بما يسبق إلى القلوب. ولعمري أن لو كانت لهم عقول المسلمين ومعرفتهم بما يجوز في كلام العرب، وما يجوز على الله، مع فصاحتهم بالعبرانية، لوجدوا لذلك الكلام تأويلاً حسناً، ومخرجاً سهلاً، ووجهاً قريباً. ولو كانوا أيضاً لم يعطلوا في سائر ما ترجموا لكان لقائل مقال، ولطاعن مدخل، ولكنهم يخبرون أن الله تبارك وتعالى قال في العشر الآيات التي كتبتها أصابع الله: " إني أنا الله الشديد، وإني أنا الله الثقف، وأنا النار التي تأكل النيران، آخذ الأبناء بحوب الآباء، القرن الأول والثاني والثالث إلى السابع " .

    وأن داود قال في الزبور: " وافتح عينك يا رب " و قم يا رب " ، و " أصغ إلي سمعك يا رب " . وأن داود خبر أيضاً في مكان آخر عن الله تعالى: " وانتبه الله كما ينتبه السكران الذي قد شرب الخمر " . وأن موسى قال في التوراة: " خلق الله الأشياء بكلمته، وبروح نفسه " . وأن الله قال في التوراة لبني إسرائيل: " بذراعي الشديدة أخرجتكم من أهل مصر " . وأنه قال في كتاب إشعياء: " احمد الله حمداً جديداً، احمده في أقاصي الأرض، يملأ الجزائر وسكانها، والبحور والقفار وما فيها، ويكون بنو قيدار في القصور، وسكان الجبال - يعني قيدار بن إسماعيل - ليصيحوا ويصيروا لله الفخر والكرامة، ويسبحوا بحمد الله في الجزائر " .

    وأنه قال على إثر ذلك: " ويخرج الرب كالجبار، وكالرجل الشجاع المجرب، ويزجر ويصرخ، ويهيج الحرب والحمية، ويقتل أعداءه، يفرح السماء والأرض " .

    وأن الله قال أيضاً في كتاب إشعياء: " سكت. قال: هو متى أسكت، مثل المرأة التي قد أخذها الطلق للولادة أتلهف، وإن تراني أريد أحرث الجبال والشعب، وآخذ بالعرب في طريق لا يعرفونه " .

    وكلهم على هذا اللفظ العربي مجمع. ومعنى هذا لا يجوزه أحد من أهل العلم، ومثل هذا كثير تركته لمعرفتكم به.

    وأنت تعلم أن اليهود لو أخذوا القرآن فترجموه بالعبرانية لأخرجوه من معانيه، ولحولوه عن وجوهه، وما ظنك بهم إذا ترجموا: " فلما آسفونا انتقمنا منهم " ، و " لتصنع على عيني " ، و " السموات مطوية بيمينه " ، و " على العرش استوى " ، و " ناضرة. إلى ربها ناظرة " ، وقوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً " ، و " كلم الله موسى تكليماً " ، و " جاء ربك والملك صفاً صفاً " .

    وقد يعلم أن مفسري كتابنا وأصحاب التأويل منا أحسن معرفة، وأعلم بوجوه الكلام من اليهود، ومتأولي الكتاب، ونحن قد نجد في تفسيرهم ما لا يجوز على الله في صفته، ولا عند المتكلمين في مقاييسهم، ولا عند النحويين في عربيتهم. فما ظنك باليهود مع غباوتهم وغيهم، وقلة نظرهم وتقليدهم؟ وهذا باب قد غلطت فيه العرب أنفسها، وفصحاء أهل اللغة إذا غلطت قلوبها، وأخطأت عقولها، فكيف بغيرهم ممن لا يعلم كعلمها؟ سمع بعض العرب قول جميع العرب: " القلوب بيد الله " ، وقولهم في الدعاء: " نواصينا بيد الله " وقوله جل ذكره: " بل يداه مبسوطتان " ، وقولهم: " هذا من أيادي الله ونعمه عندنا " وقد كان من لغتهم أن الكف أيضاً يد، كما أن النعمة يد، والقدرة يد، فغلط الشاعر فقال:

    هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها

    وقد كان إبراهيم بن سيار النظام يجيب بجواب، وأنا ذكره إن شاء الله. وعليه كانت علماء المعتزلة، ولا أراه مقنعاً ولا شافياً.

    وذلك أنه كان يجعل الخليل مثل الحبيب، مثل الولي، وكان يقول: خليل الرحمن مثل حبيبه ووليه وناصره. وكانت الخلة والولاية والمحبة سواء.

    قالوا: ولما كانت كلها عنده سواء جاز أن يسمي عبداً له ولداً، لمكان التربية التي ليست بحضانة، ولمكان الرحمة التي لا تشتق من الرحم، لأن إنساناً لو رحم جرو كلب فرباه لم يجز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه أباً. ولو التقط صبياً فرباه جاز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه له أباً، لأنه شبيه ولده، وقد يولد لمثله مثله. وليس بين الكلاب والبشر أرحام، فإذا كان شبه الإنسان أبعد من الله تعالى من شبه الجرو بالإنسان، كان الله أحق بألا يجعله ولده، وينسبه إلى نفسه.

    قلنا لإبراهيم النظام عند جوابه هذا وقياسه الذي قاس عليه، في المعارضة والموازنة بين قياسنا وقياسه: أرأيت كلباً ألف كلابه، وجامى وأحمى دونه، هل يجوز أن يتخذه بذلك كله خليلاً، مع بعد التشابه والتناسب؟

    فإذا قال: لا. قلنا: فالعبد الصالح أبعد شبهاً من الله من ذلك الكلب المحسن إلى كلابه، فكيف جاز في قياسك أن يكون الله خليل من لا يشاكله لمكان إحسانه، ولا يجوز للكلاب أن يسمي كلبه خليلاً أو ولداً لمكان حسن تربيته له، وتأديبه إياه، ولمكان حسن الكلب وكسبه عليه، وقيامه مقام الولد الكاسب والأخ، والبار.

    والعبد الصالح لا يشبه الله في وجه من الوجوه، والكلب قد يشبه كلابه لوجوه كثيرة، بل ما أشبهه به مما خالفه فيه، وإن كانت العلة التي منعت من تسمية الكلب خليلاً وولداً بعد شبهه من الإنسان.

    فلو قلتم: فما الجواب الذي أجبت فيه، والوجه الذي ارتضيته؟ قلنا: إن إبراهيم صلوات الله عليه، وإن كان خليلاً، فلم يكن خليله بخلة كانت بينه وبين الله تعالى، لأن الخلة والإخاء والصداقة والتصافي والخلطة وأشباه ذلك منفية عن الله تعالى عز ذكره، فيما بينه وبين عباده، على أن الإخاء والصداقة داخلتان في الخلة، والخلة أعم الاسمين، وأخص الحالين. ويجوز أن يكون إبراهيم خليلاً بالخلة التي أدخلها الله على نفسه وماله، وبين أن يكون خليلاً بالخلة وأن يكون خليلاً بخلة بينه وبين ربه فرق ظاهر، وبون واضح. وذلك أن إبراهيم عليه السلام اختل في الله تعالى اختلالاً لم يختلله أحد قبله. لقذفهم إياه في النار، وذبحه ابنه، وحمله على ماله في الضيافة والمواساة والأثرة، وبعداوة قومه، والبراءة من أبويه في حياتهما، وبعد موتهما، وترك وطنه، والهجرة إلى غير داره ومسقط رأسه. فصار لهذه الشدائد مختلاً في الله، وخليلاً في الله. والخليل والمختل سواء في كلام العرب. والدليل على أن يكون الخليل من الخلة كما يكون من الخلة قول زهير بن أبي سلمى، وهو يمدح هرماً:

    وإن أتاه خليل يوم مسبغة ... يقول لا عاجز مالي ولا حرم

    وقال آخر:

    وإني إلى أن تسعفاني بحاجة ... إلى آل ليلى مرة لخليل

    وهو لا يمدحه بأن خليله وصديقه يكون فقيراً سائلاً، يأتي يوم المسألة ويبسط يده للصدقة والعطية، وإنما الخليل في هذا الموضع من الخلة والاختلال، لا من الخلة والخلال.

    وكأن إبراهيم عليه السلام حين صار في الله مختلاً أضافه الله إلى نفسه، وأبانه بذلك عن سائر أوليائه، فسماه خليل الله من بين الأنبياء، كما سمى الكعبة: بيت الله من بين جميع البيوت، وأهل مكة: أهل الله من بين جميع البلدان. وسمى ناقة صالح عليه السلام: ناقة الله من بين جميع النوق. وهكذا كل شيء عظمه الله تعالى، من خير وشر، وثواب وعقاب. كما قالوا: دعه في لعنة الله، وفي نار الله وفي حرقه. وكما قال للقرآن: كتاب الله، وللمحرم: شهر الله. وعلى هذا المثال قيل لحمزة رحمة الله ورضوانه عز ذكره عليه: أسد الله، ولخالد رحمة الله عليه: سيف الله تعالى.

    وفي قياسنا هذا لا يجوز: أن الله خليل إبراهيم، كما يقال: إن إبراهيم خليل الله.
    فإن قال قائل: فكيف لم يقدموه على جميع الأنبياء، إذ كان الله قدمه بهذا الاسم الذي ليس لأحد مثله؟ قلنا: إن هذا الاسم اشتق له من عمله وحاله وصفته، وقد قيل لموسى عليه السلام: كليم الله، وقيل لعيسى: روح الله، ولم يقل ذلك لإبراهيم، ولا لمحمد صلوات الله عليهما، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم أرفع درجة منهم، لأن الله تعالى كلم الأنبياء عليهم السلام على ألسنة الملائكة، وكلم موسى كما كلم الملائكة، فلهذه العلة قيل: كليم الله. وخلق في نطف الرجال أن قذفها في أرحام النساء على ما أجرى عليه تركيب العالم، وطباع الدنيا، وخلق في رحم مريم روحاً وجسداً، على غير مجرى العادة، وما عليه المناكحة. فلهذه الخاصة قيل له: روح الله.

    وقد يجوز أن يكون في نبي من الأنبياء خصلة شريفة، ولا تكون تلك الخصلة بعينها في نبي أرفع درجة منه، ويكون في ذلك النبي خصال شريفة ليست في الآخر.

    وكذلك جميع الناس، كالرجل يكون له أبوان، فيحسن برهما وتعاهدهما، والصبر عليهما، وهو أعرج لا يقدر على الجهاد، وفقير لا يقدر على الإنفاق. ويكون آخر لا أب له ولا أم له، وهو ذو مال كثير، وخلق سوي، وجلد طاهر، فأطاع هذا بالجهاد والإنفاق، وأطاع ذلك ببر والديه والصبر عليهما.

    والكلام إذا حرك تشعب، وإذا ثبت أصله كثرت فنونه، واتسعت طرقه. ولولا ملالة القارىء، ومداراة المستمع لكان بسط القول في جميع ما يعرض أتم للدليل، وأجمع للكتاب، ولكنا إنما ابتدأنا الكتاب لنقتصر به على كسر النصرانية فقط.
    التعديل الأخير تم بواسطة mahmoud000000 ; 08-06-2006 الساعة 04:45 PM

رسالة الجاحظ إلى النصارى

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الثناء في القرآن على طائفة من النصارى استجابت للحق لا على جميع النصارى.؟
    بواسطة محمد مصطفى في المنتدى شبهات حول القران الكريم
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-03-2009, 01:33 PM
  2. مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 28-03-2007, 09:05 PM
  3. الجاحظ يرد على النصــارى
    بواسطة شبكة بن مريم الإسلامية في المنتدى منتدى نصرانيات
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-01-2007, 04:02 PM
  4. مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-03-2006, 12:24 AM
  5. رسالة إلى كل عاقل من الإخوة النصارى(فهكذا تكون الحياة)
    بواسطة احمد العربى في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30-09-2005, 01:32 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

رسالة الجاحظ إلى النصارى

رسالة الجاحظ إلى النصارى