ابن باز كان أمة من الناس بعمل الخير


الشيخ عبد العزيز السعيد
رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((عكاظ))
وصف معالي الشيخ عبد العزيز السعيد رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء بأنه كان أمة من الناس لعلمه وسعت اطلاعه.
وقال إنَّ فقد سماحته خسارة كبيرة للأمة لموقع سماحته ومكانته الشرعية وقدرته على معالجة القضايا التي تشكل على الناس أو يلتبس عليهم أمرها.
وأضاف معاليه أن هذه السمات الفريدة وسعة اطلاع سماحته تجعل مهمة من يخلفه شاقة.
وتحدث معاليه عن مآثر الفقيد فأكد أن سماحته كان جم التواضع مهتماً بفقراء المسلمين وضعفائهم حتى ولو أثقل عليه ذلك.
وأشار السعيد وبحكم قربه من سماحة الشيخ ابن باز وتتلمذه على يديه إلى رحلة الفقيد العامرة بالكفاح في سبيل ترسيخ مفهوم هذا الدين لدى النشء قائلاً:
إن مآثر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كثيرة حيث قضى يرحمه


الله نحو50 عاماً في الدعوة إلى الله في كل المواقع التي عمل بها سواء في الدلم والرياض أو أي موقع من المواقع لمساعدة الضعفاء والمساكين وطلاب العلم وملاطفتهم ومجاراتهم على مستواهم والفقيد في هذا المضمار يبدو أنه كان من أندر الرجال وأفذاذ العلماء على مر العصور الذي يتمتعون برحابة الصدر وقدرته على تفنيد الآراء بمنطقية وعلمية تستند على الكتاب والسنة.
وثمن الشيخ السعيد حرص سماحة الشيخ ابن باز على تجهيز موقع على الانترنت كوسيلة تفرغ المعلومات الوافدة للاستفادة منها.
ورغم رحيل سماحة الشيخ بجسمه إلا أن علمه باقٍ وسيظل هذا الموقع على هذه الشبكة العنكبوتية مصدراً للاستفادة من علمه وآثاره لخدمة المسلمين.
وعن مواقف الفقيد مع السائلين وتواضعه الجم قال معالي الشيخ السعيد أن الفقيد كان محبوباً والجميع يتعلق بآرائه وفتاواه، وذلك لزهده في الدنيا وما فيها وصدقه فيما يقول واستناده دائماً للكتاب والسنة وفقهه في علم الحديث يرحمه الله، حيث كان يتابع شرحه لمنتقى الأخبار إلى عهد قريب يرحمه الله.

```



* عكاظ: السبت 29 محرم 1420هـ، الموافق 15 مايو 1999م - العدد 11949.


عبد العزيز بن باز .. المصلح القدوة


عبد العزيز بن صالح العسكر
الدلم - المعهد العلمي
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأصلي وأسلم على معلم الناس الخير، ومن ختم بدينه الأديان ونسخت بشريعته الشرائع نبينا e ما أشرقت شمس وما لاح نجم وما تعاقب الليل والنهار، وبعد:
فقد فقدت أمة محمد e ليلة الخميس 27 محرم 1420هـ إمام أهل السنة والجماعة في عصرنا، فقدنا علم الهدى وبدر الدجى وقامع البدعة.
إمامنا وشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا وإياه في دار كرامته وغفر لنا جميعاً ذنوبنا وسيئاتنا بمنه وكرمه ومغفرته إنه جواد كريم.
ولست هنا بصدد الترجمة له أو تعداد مكارمه فهي من السعة والكثرة بما يقصر القلم عن وصفه وتعجز الكلمات عن الإلمام به.. وقد أفاض في ذلك المتحدثون في الأيام الماضية التي أعقبت وفاته

رحمه الله.
ولكني هنا أسجل مشاعر كانت تخنقها العبرات لمدة أسبوع كامل، أذكر هنا خواطر كانت تبللّها الدموع كلما قرأت سطراً من النثر أو بيتاً من الشعر أو سمعت عبارة متحدث عن مناقب الشيخ وفضائله.
أقول: لقد تمتع الشيخ الإمام العلامة بمناقب من أهمها:
1- الرحمة بالناس وسعة الأفق في الفتوى بحيث تكون الأحكام التي ينطق بها رفيقة بالناس مقربة لهم إلى الله موافقة لسنة محمد e .. ومن أبرز الأمثلة على ذلك فتواه ببطلان طلاق الرجل الذي طلق زوجته في حالة غضب وله منها ثمانية أولاد وقد مكث معها ثمانية عشر عاماً، وتفصيل ذلك موجود في سيرة الشيخ وما كتب عنه في الأيام الماضية وفي ذلك رسالة موجهة لقضاتنا بارك الله فيهم ونفع بهم.
2- الكرم الذي يرزي بكرم حاتم ومن جاء بعد حاتم، فقد روى الشيخ عبد الله بن منيع تلميذ الشيخ ونائبه في الإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء أن الشيخ ينفق في اليوم ما معدله ألفان وخمسمائة ريال تزيد ولا تنقص، وذلك في سد حاجات المحتاجين، ونشر دين الله، والجهاد في سبيله في شتى بقاع الأرض.. وحينما يقول له أحد بنيه كيف تنفق كل هذا ونحن مالنا، يقول بكل ثقة في الله واعتماد عليه وزهد في الدنيا (لنا الله) فهو حسبنا ورزقنا بيده. وفي هذا درس لمن

يدعون للإنفاق في سبيل الله فيمنعهم الشيطان ويعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، ويمنعون مال الله الذي آتاهم تكاثراً وإيثاراً لزينة الدنيا على ما عند الله.
3- الأوبة للحق والتواضع.. فقد روى الشيخ عبد الله بن منيع وغيره من كبار العلماء أن الشيخ حينما يدلي برأيه في مجلس هيئة كبار العلماء ثم يكون رأي الأكثرية مخالفاً لرأيه ويتبين له صحة ما رأوه ينزل على رأيهم ويتنازل عن رأيه مردداً -رحمه الله- (اللهّم اهدنا فيمن هديت).. فمن لنا بمن يكون هذا منهجه في الحوار وبخاصة حينما يكون مع من هم دونه في السن أو العلم أو غيرهما إنَّ هذا درس بليغ لعامة الأمة وخاصتها فهل تعيه!
4- أنه يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، فهو زاهد في الدنيا، متعفف عن شهواتها، حذر من البدع والخرافات. وإذا سأله سائل أي مسألة في هذا الجانب أجابه بما التزم.
5- الإخلاص والحرص على براءة الذمة في أداء العمل، والتفاني في إنجاز حاجات الناس ومطالبهم، فقد روى كتاب الشيخ وموظفوه، وتلاميذه في هذا الجانب قصصاً رائعة فريدة، فهو حريص على ساعات العمل الوظيفي من بدايتها إلى نهايتها منجزاً لكل عمل بأسرع وقت ممكن مستغلاً كل دقيقة من دقائق يومه وليلته حضراً وسفراً.. وليس هذا فحسب بل إنه -رحمه الله- وهو على سرير

المرض في المستشفى يطلب معاملات مكتبه لتقرأ عليه ويوجهها بما يلزم رغبة في الخير وخدمة للبلاد والعباد، ثم ينقل ابنه أحمد -حفظه الله ووفقه-: أنهم إذا وجدوا باله مشغولاً أثناء المرض طلبوا أحد كتابه ليحضر بعض المعاملات، فيأتي الكاتب ويقرأ وإذا أنجزها سُرَّ وزال همه.. أي موظف هذا، وأي نموذج من الناس. سبحان ربي، إنَّ ما نراه لصورة نادرة، تملكنا الدهشة، ونحار حينما نضعها بجانب ما نراه من صور مؤسفة محزنة لبعض إخواننا الموظفين في شتى المجالات الذين يهدرون ساعات العمل فيما لا يفيد، ثم هم لا يا يجيبون مراجعاً في الساعة الأولى من الدوام ولا في الساعة الأخيرة منه، وقد قرأنا وسمعنا أن شيخنا -عليه رحمة الله- لم يتمتع بإجازة من العمل طيلة حياته الوظيفية، وحينما اقترح عليه أخذ إجازة من العمل الوظيفي للراحة قال: (الراحة في الجنة إن شاء الله)، إنها رسالة صريحة قوية للذين يتبرمون من العمل ويحاولون الفرار منه لا وهي الأسباب، رسالة توضح أثر الإخلاص والصدق في إتقان العمل وسرعة التنفيذ ومواصلته بلا سأم ولا فتور.
6- ويتوج تلك الصفات ويزينها حرص الشيخ الإمام على توحيد الكلمة ونبذ الخلافات والتعصب، وطريقه إلى ذلك حب صادق لولاة الأمر والنصح لهم من القلب ودعوة الناس إلى طاعتهم في المنشط المكره والتحذير من مخالفة ولاة الأمر والبعد عنهم، فعزهم عز الإسلام وأهله.. ولذلك كان وفاء حكام هذه البلاد المسلمة -حماها الله-

كان وفاؤهم كبيراً ملحوظاً وما حضورهم للصلاة عليه وحزنهم لفقده إلا مظهراً واحداً من مظاهر تقديرهم للعلماء والمكانة الكبيرة التي يرونها لهم.. جزاء الله خادم الحرمين الشريفين وإخوانه خير الجزاء وثبتهم على الحق ونفع بهم الإسلام والمسلمين.
إن في سيرة شيخنا الذي بكينا عليه دروساً وعبراً، وإنَّ من أبرز حقوقه علينا أن ندعو له من قلوبنا قبل ألسنتنا وحروفنا، وأن نكون صادقين فيما نقول، يا أحبتنا، إن الفقيد ينادي كل واحد منا: "هذا طريقي إن صدقت محبتي فاحمل سلاحي" وما سلاح الشيخ غير: الإيمان العميق، والثقة بالله والتوكل عليه، ثم هو مع ذلك العلم الشرعي المأخوذ من مصدريه كتاب الله تعالى وسنة محمد e، وهذا يا أحبتنا إرث لا يخص أبناء الشيخ وأقاربه فقط، بل إن لنا فيه نصيباً فهل نحظى به، لننال العز والتمكين في الدنيا والآخرة! رحمه الله الشيخ عبد العزيز بن باز وأجزل له المثوبة والأجر وجمعنا وإياه في جنات عدن إنه جواد كريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



وغاب بدر الدجى
بقلم: عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف
أحد تلاميذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-
ماذا أقول وقد غاب كوكب منير من كواكب الدنيا؟ لقد أصابتني غصة، وفاضت دمعة حرى حينما سمعت نبأ انتقال والدنا وشيخنا الفاضل إلى دار البقاء إنه الشيخ العالم الجليل عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي وهب حياته وجاه وماله خدمة للعلم وتنويراً لطلابه وتبصيراً للعامة والخاصة وعوناً فيما يعتريهم من حيرة وحل مشاكل سواء دينية أو اجتماعية أو مادية، فوقته نهر جار يغترف منه القاصي والداني، أو غيمة ضافية تهمي على السهول والآكام:
كالبدر من حيث التفت رأيته




وضوؤه للعصبة السارين جدُ قريب


ومجلسه -رحمه الله- معمور بذكر الله وتلاوته ما ينفع المسلمين مع إفادة المسلمين السائلين منهم من فتاوى وإرشادات دينية ومسلكية لا تسمع تمجيداً للدنيا ولا لشيء من زخارفها في حضرته. فهو قمة في حفظ الوقت والزهد في الحطام الفاني، بيته مأوى للأضياف والفقراء ولطلاب العلم يشاركهم في تناول طعام الغداء والعشاء

وخاصة من الذين يفدون إلى هذه البلاد من أواسط وأطراف المعمورة، ولا سيما في مواسم الحج والعمرة يحدوهم الأمل في الالتقاء به ليزدهم تبصراً في دينهم وتصحيحاً لمعتقداتهم فأبوابه مفتوحة دائماً سواء على المستوى الرسمي أو الشخصي:
إذا جئته لم تلق من دون بابه




حجاباً ولم تدخل عليه بشافع!


والبعض يأتون إليه طمعاً في عطفه ومساعدته لهم والتعريف بحالهم لدى المحسنين وولاة الأمور الذي لا يردون طلباً ولا شفاعة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لمثل هؤلاء المساكين بل إنهم يفرحون ويبذلون بيد سخية رغبة في المثوبة والأجر من الوالي وكأني بلسان حال الشيخ يخاطب الوالي بترديد هذين البيتين:
وأفضل الناس ما بين الورى رجلٌ




تُقضى على يده للناس حاجاتُ


واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت




إليك لا لك عند الناس حاجاتُ


فالشيخ له مكانة عالية ومحبة صادقة في قلوبنا بل المسلمين عموماً، وقلَّ أن يجمع على محبة شخص، فنرجو أن يكون ذلك علامة رضا ومحبة من الله له:
تخالف الناس إلا في محبته




كأنما بينهم في وده رحم




ونحن نغبط على مثل هذا العالم الفذ -تغمده الله بواسع رحمته- ويحسن بنا أن نذكر هذا البيت كتهنئة لتلاميذه ومن تتلمذ عليهم:
سعدت أعيّن رأتك وقرت




والعيون التي رأت من رآكا


فتعدد محاسنه وفضائله ومكارم أخلاقه لا يسهل حصرها على مثلي، ولقد أحسن الشاعر ابن دريد حيث يقول:
لا يأمن العجز والتقصير مادحه




ولا يخاف على الإطناب تكذيباً


ودت بقاع بلاد الله لو جعلت




قبراً له فحباها جسمه طيباً


كانت حياتك للدنيا وساكنها




نوراً فأصبح عنها النور محجوباً


وسيظل النور نور العلم والمعرفة ساطعاً بحول الله وقدرته على تعاقب الدهور والأزمان وعزاؤنا في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة، وتلاميذ بررة من خيرة العلماء الأفاضل، ونحن على يقين أنهم سيحذرون حذوه برحابة الصدر والصبر على ثقل المسؤولية المنوطة بهم، والتضحية بالوقت وبالمال لمن يستحقه من أبناء المسلمين سواء من الداخل أو الخارج، ونذكرهم بقول طرفة بن العبد:
لعمرك ما الأيام إلا معارة




فما سطعت من معروفها فتزود




ونختم هذه الأسطر التي معظمها شواهد شعرية تنطبق على مثل شيخنا بهذين البيتين:
فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا




وقائده في السير عود من الشجر


وكم كم كفيف في الزمان مشهر




لياليه أوضاح وأيامه غررْ


)إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(.

```


(*) الرياض: الاثنين 2صفر 1420هـ 17 مايو 1999م - العدد: 1184.



البازيات الأربع

بقلم: عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، الحمد لله الذي أكرمنا بابن باز وعسى الله أن يأجرنا في فقده ويجزيه عن المسلمين خيراً ويخلفهم خيراً..
الحزن ليس فيه مجاملات.. فحينما نبكي والد الجميع سماحة الشيخ ابن باز فلسنا نبكي رجلاً عادياً مات.. وحينما فقدنا ابن باز لم نفقد مجرد عالم نحتاج لعلمه.. وحينما نتذكر رحيل ابن باز نحسُّ بفراغ كبير لا ندري من يملؤه بعده!
لقد ضمت مقبرة العدل بمكة المكرمة في واحد من قبورها كفناً ملؤه العلم الصحيح والعمل الكثير والكرم العجيب والتواضع الجم ومحبة الخير للمسلمين -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً-.
كان عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- رجلاً فوق العادة.. جمع الله له خصالاً من الخير قلَّ ما يدرك غيره ثنتين منها معاً، ولعل أبرزها أربع لا يماري فيها من عرف الشيخ، الأولى: علم غزير، حتى إن غيره لا يتقدم بين يديه في الحلال والحرام والصحيح والضعيف.

الثانية: كرم عجيب، قال عنه بعض من عرفه والله لو اجتمع ابن باز وحاتم الطائي لفاقه ابن باز في الكرم.
الثالثة: مشاركة على كل الأصعدة، فالناس العاديون يملون من الهاتف الواحد وهو يستقبل المكالمات من هاتفين بجانبه لا يكفا عن الرنين من هنا تبدأ مشاركته من تحت ركبته إلى أقاصي العالم الإسلامي، وإلى كندا وأستراليا حيث يرسل لهم الفتاوى والدعاة والتبرعات وبينهما مشاركات من كل نوع.. ردود.. ندوات.. محاضرات.. فتاوى.. دروس.. مساعدات.. شفاعات.. حتى يستطيع قائل أن يقول كان ابن باز قبلة في ذلك يؤمها من قدر، ويوصي بها من عجز.. قد يكون هناك من لا يعرف حجم مشاركة ابن باز لكن اسأل عنها المساجد والمشاريع والأيتام والعاملين في الحقل الدعوي والإغاثي.
الرابعة: لين جانب، لسان أرفق من يد الطبيب، ومنطق أرق من الديباج، لا يعرف الكلمة النابية ولا العبارة الفجة فضلاً عن العنف والمعاقبة حتى لم تنقل عنه كلمة واحدة يمكن أن تعد جارحة لمخطئ ولا لمصيب.. بل كان يقال له عن بعضهم إنهم وقعوا في عرضك يا شيخ ونالوا منك فلا يقول آتوني بهم، ولا يشنع بهم، ولا يدعو عليهم، ولا يسكت ويدعهم بل يقول: سامح الله الجميع.. سامح الله الجميع.. فأعجبُ كيف ينالون منه ثم يستغفر لهم!! سئل مرة في

الحلقة فانطلق يجيب فصاح به رجل من الحضور: لا تكلم يا شيخ.. لا تكلم، هذا سيكتب وسينقل!! وربما سئل ابن باز ذلك السؤال مراراً قبل أن يولد ذلك المعترض، فما زاد على أن استجاب وقال يحتاج الأمر إلى مراجعة.
كل واحدة من هذه الجزئيات التي ذكرت لو بسط نصيب الشيخ منها لملأ الأسفار، فلذلك نبكي والدنا الشيخ ابن باز لأنك متى تجد عالماً في معياره وأمثاله يعدون على أصابع اليد الواحدة من مليار مسلم، ثم إذا وجدت عالماً مثله فهل يكون لين الجانب بتلك الدرجة، ثم إذا وجدت عالماً كريماً ليناً فهل يكون مشاركاً للمسلمين بتلك الدرجة لقد كان ابن باز ذلك كله -رحمه الله-.
وفوق ذلك لم تكن فضائل سماحة الوالد تلك الأربع فقط بل كان -رحمه الله- فيما نحسب ولا نزكي على الله أحداً- يضم عباءتُه على العلم والدعوة والكرم واللين ومحبة الخير للمسلمين ومشاركتهم والذكر والصلاة والصيام والتواضع وغيرها من المعالي التي يلفها في عباءته وينشرها حية ملموسة عبر تسعين سنة كل يوم من حياته يزيد فيها ولا ينقص منها فوضع له في الأرض قبول لم نشهد مثله فيما نعلم.. حتى قال بعض الشعراء:
سبحان من جعل القبول منازلاً




وحبا ابن باز منه أعلى منزل




أفلا نبكي على رجل جمع الله له ذلك كله؟ أفلا نبكي من حمل لواء هذه المعالي كلها؟.
لكن مهما شق علينا فراق والدنا فلن نبرح قول ربنا سبحانه: )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ([(141) سورة البقرة].. والذي يعنينا الآن هو أن نقول ما الذي بلغ ابن باز هذا؟ إنه العلم والعمل!! أفلا يكون فينا من يطمع لمثل ذلك مخلصاً لله وحده؟ أو يربي أبناءه على ذلك؟! والله لو كان ابن باز طبيباً حاذقاً أو مهندساً بارعاً أو مخترعاً عبقرياً أو أياً ما يكون رجلٌ من مواقع الدنيا لم يبلغ ما بلغه من محبة الناس له وجزعهم على موته وشعورهم بفقده.. لكن ورثة الأنبياء شيء آخر، فهكذا أحب الناس الإمام أحمد بن حنبل وحزنوا لموته، وابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم -رحم الله الجميع- وجمعنا بهم في دار كرامته وأكثر في المسلمين أمثالهم وسلك بنا وبكم سبيل الصالحين المصلِحين المصلَحين وذرياتنا والمسلمين.

```


* الدعوة: العدد 1693 - 12 صفر 1420هـ، 27 مايو 1999م.