تــمــســيـــح(1) العقيدة الوثنية (!)
" إننا نقرُ منذ الآن بأنَّ عملنا شديد الحساسية لن يقبله الناس بسهولة . غير أننا نعترف بأن هذا العمل سيواجه الكثير من اللبس والتأويل والإدانة "(2)
أندريه نايتون (3)

في هذا الجزء من دراسة المسيحية نتتبع المسيحية التاريخية ونبحثها ؛ وهي المسيحية التي انشقت عن مسيحية المسيح عليه الصلاة السلام ، وبالتالي فإن كل ما يترتب على نقد المسيحية لا يطال دين~ نَّصرانيَّة المسيح عليه السلام ، والمسيحية التي يُشار إليها هنا هي المسيحية التاريخية التي تطورت عقائدها وطقوسها على مر العصور والأزمان .
وهي بكل تأكيد مختلفة تماماً عن التعريف الإسلامي للنَّصرانيَّة ، وهي الرسالة التي دعا إليها عيسى ابن مريم عليه السلام وتضمنت تعاليمها في إنجيله(4)
**


هل وجد « المسيح » حقاً !!!؟


هكذا ... يتساءل أو يشك!! ... ففي بداية الكتاب الخامس(5) ؛ يتساءل المؤرخ الأمريكي الذائع الصيت "وِل وَايريل ديورانت " في موسوعته " قصة الحضارة " ، ويكمل القول ... أو :" .. أن قصة حياة مؤسس المسيحيَّة وثمرة أحزان البشريَّة، وخيالها، وآمالها - أسطورة من الأساطير شبيهة بخرافات " كرشنا " ، و " أوزريس " ، و " أتيس " ، و " أدنيس " ، و " ديونيشس " ، و "مثراس" ؟.
ثم يكمل بالقول :" لقد كان " بولنجبروك " والملتفون حوله ، وهم جماعة ارتاع لأفكارهم " فلتير " نفسه ، يقولون في مجالسهم الخاصة :" إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق " ، وجهر " فلني – Volney " بهذا الشك نفسه في كتابه (خرائب الإمبراطوريّة) الذي نشره في عام 1791م (6) ؛ ولما التقى " نابليون " في عام 1808م بـــ " فيلاند – Wieland " العَالِم الألماني ؛ لم يسأله القائد الفاتح سؤالاً تافهاً في السياسة أو الحرب ، بل سأله :" هل يؤمن بتاريخية المسيح؟".(7)
هل يمكننا قبول شك مؤرخ من نسيج "ديورانت " ، أم هي الوقائع والأحداث!؟
بيْدَ أنه لا يتركنا كثيرا في شك أو حيرة فهو بالقطع لم يقصد ذلك ، فقد بدء على التو في شرح نظريته (!) ففي نفس الصفحة قال :" ولقد كان من أعظم ميادين نشاط العقل الإنساني في العصر الحديث (8) وأبعدها أثراً ميدان " النقد الأعلى " للكتاب المقدس - التهجّم الشديد على صحته وصدق روايته ، تقابله جهود قوية لإثبات صحة الأسس التاريخية للدين المسيحي ؛ وربما أدت هذه البحوث على مر الأيام إلى ثورة في التفكير لا تقل شأناً عن الثورة التي أحدثتها المسيحية نفسها. (9)

ثم تأتينا مفاجئة آخرى من العيار الثقيل نندهش لها فيقول المؤرخ الأمريكي الشهير :" .. في عام 1796م أشار " هردر " إلى ما بين مسيح متى ، و مرقص ، و لوقا ، و مسيح إنجيل يوحنا من فوارق لا يمكن التوفيق بينهما " . (10)
ونقلب صفحة من موسوعته فنقرأ مفاجأة آخرى ويدهشنا بها فيقول :" .. في عام 1840م بدأ " برونو بور - Bruno Bauer " سلسلة من الكتب الجدلية الحماسيَّة يبغي بها أن يثبت يسوع لا يعدو أن يكون أسطورة من الأساطير ، أو تجسيداً لطقس من الطقوس نشأ في القرن الثاني من مزيج من الأديان اليهودية ، واليونانية ، والرومانية . " (11) .
وتتوالي البحوث ؛ وفي عام 1863م ؛ " إيرنست رينان - Ernest Renan" أخرج "حياة يسوع" ، الذي ، أي " رينان - Renan " روَّع ملايين الناس باعتماده فيه ؛ أي كتابه على العقل وسحر لب الملايين بنثره الجزل . وقد جمع " رينان - Renan " في هذا الكتاب نتائج النقد الألماني ، وعرض مشكلة الأناجيل على العالم المثقف كله . (12) ، ثم يقول وِل :" وبلغت المدرسة الفلسفية صاحبة البحوث الدينية ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر على يد الأب " لوازي - Loisy " الذي حلل نصوص العهد الجديد تحليلاً بلغ من الصرامة حداً اضطرت معه الكنيسة الكاثوليكية إلى إصدار قرار يحرمانه هو وغيره من " المحدثين " . وفي هذه الأثناء وصلت المدرسة الهولندية مدرسة " بيرسن – Pierson " و " نابر – Naber " ، و " متثاس – Matthas " بالحركة إلى أبعد حدودها إذ أنكرت بعد بحوث مضنية حقيقية المسيح التاريخية . وفي ألمانيا عرض " آرثر دروز - Arthur Drews" هذه النتيجة السالبة عرضاً واضحاً محدداً (1906م) ؛ وفي إنكلترا أدلى " و. ب. اسمث - W. B. Smith "، و " ج. م ربرتسن - J. M. Robertson " بحجج من هذا النوع أنكر فيها وجود المسيح . .... وهكذا بدا أن الجدل الذي دام مائتي عام سينتهي إلى إفناء شخصية المسيح إفناء تاماً " .
ثم يسطرد وِل بالتساؤل مرة ثانية :" ... وبعد فما هي الأدلة التي تثبت وجود المسيح!؟ ".
يكمل الحديث بقوله :" إن أقدم إشارة غير مسيحيّة إليه هي التي وردت في كتاب قدم اليهود ليوسفوس (93؟م) :"وفي ذلك الوقت كان يعيش يسوع ، وهو رجل من رجال الدين ، إذا أن نسميه رجلاً ، لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة ، ويعلم الناس ، ويتلقى الحقيقة وهو مغتبط . وقد إتبعه كثيرون من اليهود وكثيرون من اليونان . لقد كان هو المسيح"؟" . (13)
ثم يذكر بعض أحداث ويعلق عليها بقوله :" وهذه الإشارات كلها تثبت وجود المسيحيين (!!!) لا المسيح نفسه ؛ ولكننا إذا لم نسلم بوجود المسيح فلا مناص لنا من أن نأخذ بالفرض الضعيف جداً وهو أن شخصية يسوع قد اخترعت اختراعاً في جيل واحد ... " (14) .

**


يقرر ديورانت في موسوعته " قصة الحضارة " بعدم القدرة أو المعرفة باليوم الذي وُلِدَ فيه المسيح فيؤكد بقوله على المسألة :" ولسنا نعرف اليوم الذي وُلِدَ فيه بالتحديد، " (15)

وينقل لنا ديورانت ما قاله كلمنت الإسكندري فيقول :" وينقل لنا كلمنت الإسكندري (حوالي 100م) آراء مختلفة في هذا الموضوع ( ميلاد المسيح ) كانت منتشرة في أيامه ؛ فيقول إن بعض المؤرخين يحدده باليوم التاسع عشر من إبريل وبعضهم بالعاشر من مايو ، وإنه هو يحدده بالسابع عشر من نوفمبر من العام الثالث قبل الميلاد - وكان المسيحيون الشرقيون يحتفلون بمولد المسيح في اليوم السادس من شهر يناير منذ القرن الثاني بعد الميلاد . وفي عام 354م احتفلت بعض الكنائس الغربية ومنها كنيسة روما بذكرى مولد المسيح في اليوم الخامس والعشرين من نوفمبر ، وكان هذا التاريخ قد عد خطأ يوم الانقلاب الشتائي الذي تبدأ الأيام بعده تطول ؛ وكان قبل هذا يحتفل فيه بعيد مثراس ، أي مولد الشمس التي لا تقهر . واستمسكت الكنائس الشرقية وقتاً ما باليوم السادس من يناير ، واتهمت أخواتها الغربية بالوثنية وبعبادة الشمس ؛ ولكن لم يكد يختتم القرن الرابع حتى اتخذ اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر عيداً للميلاد في الشرق أيضاً (16) (17)
**


نقل الكاتب في بداية هذا البحث أقوالا لمؤرخ غربي اعتمد في قراءته للتاريخ مراجعة دقيقة لعلماء ورجال فكر وقلم غربيين مثله تماماً ؛ وُلدوا في أسرة مسيحية ونشأوا في مجتمع مسيحي ، وتعلموا في المدارس والمعاهد والجامعات المسيحية . وليس هناك ما يدل أبداً على أنهم تأثروا أو تبنَّوا منطلقات النقد القرآني للمسيحية . بل ليس هنالك ما يشير إلى أنهم تناولوا الديانة من زاوية إيمانية عقائدية محازبة مع المسيحية أو ضدها ، فهم لم يكونوا في بحوثهم ودراساتهم الجليلة إلا علماء ، ولم يبتغوا إلا وجه العلم . ولهذا فإن التقاء النتائج التي توصلوا إليها من منطلقات النقد القرآني للمسيحية أمر ذو أهمية علمية وتاريخية وإنسانية (18) ، قمنا بهذ النقل عمداً ـ وسنكمله ـ لنعطي مصداقية بحثية مفادها أننا نعتمد على الحيادية في النقل ونتوخى الشفافية ؛ إذ أنهم جميعاً نشأوا في بيئة مسيحية غربية لا توجد عوامل خارجية تؤثر على فكرهم و قناعاتهم أو بحوثهم ثم نبني على التراث والرؤية مفهوماً صحيحاً أشار وفي نفس اللحظة يوافق ما أخبرنا به محمد بن عبدالله النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة أمين السماء عليه السلام وحياً من ربه في قرآنه الكريم والذي لا يأتيه الباطل ليبين لنا حقيقة السيد المسيح عليه السلام .
**

يتبع بإذن الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع :
(1. ) تخيَّرَ الكاتب العنوان هذا بعد الإنتهاء من دراسة بحث النَّصرانيَّة ، وهذا ما سندلل عليه في إثناء البحث
(2. ) المصدر الأول : اندريه نايتون ؛ إدغارد ويند ؛ كارل غوستاف يونج ، الأصول الوثنية للمسيحية ، سلسلة من أجل الحقيقة ، الوجه الآخر للمسيحية ؛ الكتاب الثالث ، تـرجمة سميرة عزمي الزين ، مقدمة بقلم اندريه نايتون ، ص 15، دار نون ، 53 شارع اسعد دوران شبرا ، طبعة عام 2008م .
(3. ) من ألمع علماء التاريخ في فرنسا ، أمضى أكثر من ثلاثين عاماً في تدريس " علم الأديان المقارنة " في جامعات فرنسا ، عكف ثلاثَ سنوات على تأليف كتابه " المفاتيح الوثنية للمسيحية " .
(4. ) انظر المصدر الأول ؛ صفحة : 5 وما يليها.
(5. ) المصدر الثاني : ورد هذا التساؤل : تحت عنوان "شباب المسيحية" ، حين يؤرخ المؤرخ الأمريكي الذائع الصيت "وِل وَايريل ديورانت " في موسوعته " قصة الحضارة "، الجزء الثالث عشر من المجلد الثالث (قيصر و المسيح / أو الحضارة الرومانية) من السنة الرابعة قبل الميلاد إلى العام 325 م ، الباب السادس والعشرون ، عيسى أو يسوع ، الفترة الزمنية 4 ق. م - 30م ، وفي الفصل الأول ؛ ترجمة محمد بدران ، دار الجيل ، بيروت – تونس . مطبعة الدجوي ؛ عابدين القاهرة 1971.
(6. ) جاء في النسخة العالمية 1991م ؛ وهذا التاريخ خطأ .
(7. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 202 .
(8. ) سنرد على هذه الجزئية التاريخية فأين علماء المسلمين في العصور الذهبية الأولى أمثال العالم " الشهرستاني " و "ابن حزم " على سبيل المثال
(9. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 202 .
(10. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 203 .
(11. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 204 .
(12. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 204 .
(13. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 204 .
(14. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 205 .
(15. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 212 .
(16. ) يعلق مترجم الموسوعة محمد بدران بالقول :" الذي نعرفه أن الكنائس الشرقية مازالت تحتفل بعيد الميلاد في يوم السادس من يناير ". أسفل صفحة الموسوعة .
(17. ) المصدر الثاني ؛ صفحة 212 .
(18. ) انظر المرجع الأول صفحة 5 – 6 .