-
-
والآن، وبعد هذه الجولة التى فضحت من أمور القوم كثيرا من المستور المتصل بهذه النقطة وحدها، ما رأى القراء فى ذلك الشَّغْب الذى أحدثه يوحنا الدمشقى لعنه الله، وورَّثه لمن أتى بعده، فتراهم يثيرون دائما هذه القضية متهمين القرآن بأنه يخطئ فينسب مريم أم المسيح إلى هارون وموسى بوصفها أختا لهما، مع أن القرآن لم يحدث قط أن فعل شيئا من ذلك، بل اليهود، الذين لم يكن القرآن إلا مجرد ناقل لما قالوه؟ ترى ألم يكن يوحنا الدمشقى اللعين يعرف هذا؟ بكل يقين كان يعرف لأن الآية واضحة الدلالة على أن هذا هو كلام اليهود لا القرآن، ولا يمكن أن يخطئ دلالتها أحد، لكنه إنما أراد إحداث الشغب بالكذب والباطل رغبة فى الانتقام من الإسلام، الذى كسر شوكة البيزنطيين فى منطقتنا ومسحهم من الخريطة الشَّرْقَوْسَطِيّة إلى الأبد ونسخ التثليث بممحاة التوحيد المباركة. ولكن هل تظن، أيها القارئ، أن تلاميذ يوحنا الدمشقى سوف يسكتون بعدما فضحْنا كذبهم وتدليسهم وتنطعهم وقلة أدبهم؟ أما أنا فلا أظن ذلك أبدا، إذ متى كان الكذابون المدلسون الذين مَرَدُوا على النفاق وانعدام الحياء يَرْعَوُون عما يصنعون؟
ومن مشاغبات الدمشقى الشيطانية أيضا دعواه أنه كان كلما سأل المسلمين: هل هناك من الأنبياء من شهد لمحمد بأنه صادق فى دعواه الرسالة، إذ لا بد لكل نبى أن يشهد له بالصدق مَنْ حوله حين يشاهدون نزول الوحى عليه، أو ينبئنا أحد الأنبياء السابقين بأن ثم نبيا قادما فى الطريق؟ وقعوا فى حيص بيص وضربوا أخماسا فى أسداس، ولم يستطيعوا ردا:
"But when we ask: And who is there to testify that God gave him the book? And which of the prophets foretold that such a prophet would rise up? —they are at a loss. And we remark that Moses received the Law on Mount Sinai, with God appearing in the sight of all the people in cloud, and fire, and darkness, and storm. And we say that all the Prophets from Moses on down foretold the coming of Christ and how Christ God (and incarnate Son of God) was to come and to be crucified and die and rise again, and how He was to be the judge of the living and dead. Then, when we say: How is it that this prophet of yours did not come in the same way, with others bearing witness to him? And how is it that God did not in your presence present this man with the book to which you refer, even as He gave the Law to Moses, with the people looking on and the mountain smoking, so that you, too, might have certainty? —they answer that God does as He pleases. This, we say, We know, but we are asking how the book came down to your prophet. Then they reply that the book came down to him while he was asleep. Then we jokingly say to them that, as long as he received the book in his sleep and did not actually sense the operation, then the popular adage applies to him (which runs: You re spinning me dreams)"
فأما مشاهدة الناس نزول الوحى على نبى من الأنبياء فقد مثَّل لها
دمشقيُّنا برؤية بنى إسرائيل لله فى صورة سحاب ونار وظلام وعواصف
فوق جبل سيناء. لكن بالله عليك أيها القارئ أهذا دليل على أن ما شاهده اليهود وقتذاك هو الله سبحانه؟ وهل الله سحاب وظلام وعواصف ونار؟
الواقع أن من الممكن جدا المجادلة بأن هذا ليس هو الله، بل عناصر من عناصر الطبيعة. ثم هل هناك دليل على أن هذا قد حدث أصلا؟ سيقول: لكن بنى إسرائيل قد شهدوا بهذا. سأقول أنا: ومن أدرانى أن بنى إسرائيل قد
حضروا شيئا من هذا أو أنهم قالوا الصدق بشأنه؟ وهكذا يمكن أن
تستمر المجادلة من هنا للصبح دون جدوى. وعلى كل حال كان
الصحابة يشهدون نزول الوحى على الرسول عليه السلام ويَرَوْن ما يعتريه لَدُنْ هذا النزول بكل وضوح مما فصلته كتب الحديث النبوى الشريف، وسرعان ما يخرج صلى الله عليه وسلم من هذه الحالة بالجواب الذى كانوا ينتظرونه أو التشريع الذى كانوا يتطلعون إليه. وكثيرا ما كانوا يسألونه عن أشياء تتعلق بالغيب الذى لا يعرفه أحد، فيأتيهم الرد فى الحال من خلال الوحى ويكون صادقا. كما أن كل ما قاله الرسول فى القرآن أو السنة يدل على حكمة عميقة هائلة تبيَّن صدقها وعبقريتها مع الأيام، إذ لم يحدث أن أشار عليهم بشىء دون أن يكون النجاح والتوفيق حليفه مهما كانت العقبات والمؤامرات والمآزق. وما من وعد وَعَدَهُمُوه إلا وتحقق كاملا كما قال. وما من شىء شرعه لهم إلا كان مثال الطهارة والاستقامة والذوق واللياقة والرقى العقلى والاجتماعى والسياسى والثقافى والفائدة المحققة. لقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الوثنية إلى التوحيد، ومن إدمان الخمر إلى الصحو، ومن الجهل إلى العلم، ومن الرعونة إلى الصبر والحلم، ومن الفوضى إلى النظام، ومن القذارة إلى النظافة والطهارة، ومن التناحر القبلى على أتفه الأمور إلى التآخى والمسالمة، ومن الغطرسة القبلية إلى رحابة الإنسانية والتواضع والتعاون والمرحمة، ومن قسوة الربا ومص دماء المحتاجين إلى العطف عليهم وإكرامهم والتجاوز عما فى ذمتهم ابتغاء مرضاة الله، ومن محدودية الأفق المحلى إلى فضاء العالمية الرحيب، ومن انعدام الدور الحضارى إلى قيادة العالم سياسة وثقافة. فماذا فى أى شىء من ذلك من المعابة؟ ولدينا مقياس آخر يتمثل فى أن بنى إسرائيل ظلوا يشغبون على موسى وأخيه ويرجعون إلى الوثنية والشرك عند كل منعطف حتى ضج منهم موسى عليه السلام، بخلاف أتباع محمد، الذين لم يشغبوا عليه قط، بل ظلوا يحبونه ويحترمونه ويطيعونه لا عن غفلة وسذاجة، بل عن وعى ويقظة عقل وحرارة إيمان وضمير. ولقد كان محمد معروفا عند قومه بالصدق والأمانة، فضلا عن أنه لم يكن له أى مارب فيما دعا إليه من دين. بالعكس لقد طاله بسببه أذى كثير وآلام وأحزان وخسائر لا تنتهى. بل لقد تعرضت حياته مرارا للقتل لولا أن الله عصمه منه. فكيف يتهمه مُتَّهِمٌ بعد هذا كله بأنه كذاب؟ إذن فليس ثم صادق واحد فى الدنيا!
مُغلَق للتَحديث
-
-
-
-
ويذكر المسيح عليه السلام بعض أوصاف هذا الرسول الخاتم التي تساعد على تمييز شخصيته، منها قوله: "ذاك يمجّدني". فمن صفات هذا الرسول أنه يمجد المسيح، ولم يأت أحد بعد المسيح ويمنحه من التمجيد والثناء ما يستحقه، ويرفع عنه وعن أمه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلة التي وضعه الله فيها، وهي العبودية والرسالة، سوى محمد صلى الله عليه وسلم. ومن صفات هذا الرسول أنه سيرشد الخلق إلى أمور وحقائق لم يبلّغها المسيح، وذلك في قوله: ويخبركم بأمور آتية"... إلخ... إلخ.
والآن إلى القارئ الكريم مجرد عينةٍ جِدّ محدودةٍ من الكتب التى وضعها هؤلاء المهتدون إلى الإسلام من أهل الكتاب، ومع كل كتابٍ اسم صاحبه: "الدين والدولة" لعلي بن ربّن الطبري، و"تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" لعبد الله الترجمان، و"النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية" للمتطبب، و"إفحام اليهود" للسموأل بن يحيى المغربي، و"مسالك النظر في نبوة سيد البشر" لسعيد بن الحسن الإسكندراني، و"محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" لعبد الأحد داود، و"محمد نبي الحق" لمجدي مرجان، و"محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن" لإبراهيم خليل أحمد. وينبغى ألا ننسى أن من بين أسباب دخول تلك الجماهير الغفيرة من أهل الكتاب على مر العصور فى الإسلام اقتناعهم بهذه النبوءات الموجودة فى كتبهم، فآمنوا بمحمد موقنين أنه هو النبى الذى بشرت به التوراة والإنجيل.
كذلك تثير تلك البشائر مسألة أخرى لا أدرى كيف يمكن حلها. ذلك أن المبشر يحتاج بدوره إلى من يبشر به كى نصدقه، وهذا الذى بشر به يحتاج أيضا إلى من يبشر به ويقول لنا إنه نبى صادق، وهذا المبشر الثالث يحتاج إلى مبشر رابع يسبقه ويشهد له... وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى نبى لم يشهد له نبى سابق عليه لأنه هو أول الأنبياء، فلا يوجد من يسبقه. ثم هل يستطيع المتنطع السخيف العقل أن يقول لنا مثلا: أى نبى يا ترى شهد بأن هناك نبيا سوف يأتى اسمه نوح؟ ومن ذا الذى شهد لإبراهيم عليه السلام وبشَّر به نبيا؟ أم من يا ترى بشَّر بيوسف؟ وهذه مجرد أمثلة ثلاثة لا غير. أما البشارات التى وردت فى العهد القديم ويقول هذا اليوحنا المتنطع إنها شاهدة بألوهية السيد المسيح فقد سبق أن تناولتها من قبل فى دراسة مفصلة وبينت أنها لا علاقة لها بالسيد المسيح من قريب أو من بعيد، اللهم فى خيالات أمثاله وأوهامهم. وأنى للخيالات والأوهام أن تحق حقا أو تبطل باطلا؟ وأيا ما يكن الأمر فهل كانت بشارات أنبياء العهد القديم بلاحقيهم مانعة لهؤلاء الأنبياء اللاحقين من مقارفة الجرائم البشعة من الزنا والزنا بالمحارم والقتل والشرك والتزوج بالوثنيات ومساعدتهن على عبادة الأوثان؟ فهؤلاء هم أنبياء الكتاب المقدس الذين يضعهم يوحنا الدمشقى بإزاء سيدنا رسول الله زاعما وواهما أنهم أفضل منه. ألا بُعْدًا لك يا بعيد!
ومع هذا كله فلسوف نتناول الآن بعضا من البشارات التى يكايدنا بها ذلك المتنطع: فمؤلف إنجيل متى يقول إن هناك نبوءة فى العهد القديم بأن مريم ستلد ولدا وتسميه: "عمانوئيل". لكن ذلك المؤلف نفسه قد نسى أنه قال قبل ذلك مباشرة، وعقب ذلك مباشرة أيضا، إن يوسف قد سماه: "يسوع" تحقيقا لهذه النبوءة. كيف؟ لا بد أن نرسو على بَرّ ونعرف: أهو عمانوئيل أم يسوع؟ إن هذا يذكّرنا بأغنية شادية التى تقول فيها إنها، من ارتباكها بسبب مشاغلة حبيبها لها، إذا طلب أبوها أن تُعِدّ له كوبا من القهوة فإنها تعد بدلا من ذلك كوبا من الشاى وتعطيه لأمها: "21وسَتَلِدُ اَبنا تُسمّيهِ يَسوعَ، لأنَّهُ يُخَلَّصُ شعْبَهُ مِنْ خَطاياهُمْ".22حَدَثَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبٌّ بلِسانِ النَّبـيَّ: "23سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ اَبْنا يُدْعى "عِمّانوئيلَ"، أي الله مَعَنا. 24فلمَّا قامَ يوسفُ مِنَ النَّومِ، عَمِلَ بِما أمَرَهُ مَلاكُ الرَّبَّ. فَجاءَ باَمْرَأتِهِ إلى بَيتِه، 25ولكِنَّهُ ما عَرَفَها حتى ولَدَتِ اَبْنَها فَسَمّاهُ يَسوع"َ. وبالمناسبة فلم يحدث أن سمى أحد سيدنا عيسى عليه السلام فى يوم من الأيام: "عمانوئيل" رغم أن كثيرا من النصارى: صبيانًا وبناتٍ ممن ليسوا أبناءً أو بناتٍ لله يُسَمَّوْن: "عمانوئيل"! كما أن بقية النبوءة التى تنسب لإِشَعْيَا عن حَبَل العذراء وولادتها طفلا يسمَّى: "عمانوئيل" تقول: "زبدا وعسلا يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير، لأنه قبل أن يعرف الصبىُّ أن يرفض الشر ويختار الخير تُخْلَى الأرض التى أنت خاشٍ من مَلِكَيْها" (إشعيا/ 7/ 15- 16)، ولم يرد فى الأناجيل قط أنه، عليه السلام، قد أكل زبدا وعسلا، فهل نقول، بناء على هذا وطبقا لما جاء فى النبوءة، إنه لم يستطع أن يرفض الشر ويختار الخير؟ ثم إن الكلام هنا عن طفلٍ بشرى تماما، طفلٍ يجرى عليه ما يجرى على كل أطفال البشر، فهو لم ينزل من بطن أمه عارفا الخير والشر كما ينبغى لابن الإله أن يكون، وهذا إن كان من الممكن أو حتى من اللائق أن ينزل ابن الإله من بطن امرأة، بل عليه أن يمر بعدة مراحل حتى يكتسب موهبة التعرف إلى الخير والشر والتمييز بينهما. ولقد رجعت إلى كتاب "A New Commentary on Holy Scripture" (لندن/ 1929م) لأمحص معنى هذا الكلام، فوجدت محرريه: تشارلز جور وهنرى جاودج وألفرد جيوم يقولون إن إشعيا إنما كان يتنبأ بما سيحدث لبنى إسرائيل فى المستقبل القريب، وإن حَبَل العذراء ليس إلا إشارة إلى الآية التى سيقع عندها ما أَخْبَر به، إلا أن النصارى قد استغلوا تلك النبوءة فى الكلام عن ميلاد عيسى عليه السلام، وهو ما لا يوافق عليه اليهود أبدا. وقد ورد فى شرح المحررين المذكورين أن النبوءة تقول إن التى ستحبل وتلد طفلا يسمى عمانوئيل "damsel"، وليست "virgin"، التى تستعمل للعذراء مريم عليها السلام، وهو ما يعضده استخدام بعض الترجمات الفرنسية عندى لكلمة "la jeune fille"، وإن كنت وجدتها فى بعض الترجمات الفرنسية والإنجليزية الأخرى: "vierge, virgin: عذراء". وقد انقدح فى ذهنى عندئذ أن السبب فى هذا الاضطراب هو أن الكلمة الأصلية تعنى "damsel"، التى تعنى أيضا "غادة، آنسة، صبية"، وأن رغبة النصارى فى تحميلها المعنى الذى يريدون هى المسؤولة عن ترجمتهم لها بــ"عذراء". ومرة أخرى لم يكتف العبد لله بذلك، بل اتخذتُ خطوة أخرى فرجعت إلى مادة "Imanuel" فى "The International Standard Bible Encyclopedia" لأقرأ تحت هذا العنوان الجانبى: "The Sign of Immanuel" السطور التالية عن النبى إشعيا والعلامة الثانية التى عرضها على الملك أحاز كى يَثْنِيَه عن تحالفه مع مملكة آشور، هذا التحالف الذى رأى أنه يؤدى إلى التبعية لتلك الدولة: He then proceeds to give him a sign from God Himself, the sign of "Immanuel" (Isaiah 7:14). The interpretation of this sign is not clear, even apart from its New Testament application to Christ. The Hebrew word translated "virgin" in English Versions of the Bible means, more correctly, "bride," in the Old English sense of one who is about to become a wife, or is still a young wife. Psalms 68:25 English Versions of the Bible gives "damsels." Isaiah predicts that a young bride shall conceive and bear a son. The miracle of virgin-conception, therefore, is not implied. The use of the definite article before "virgin" (ha-`almah) does not of itself indicate that the prophet had any particular young woman in his mind, as the Hebrew idiom often uses the definite article indefinitely. The fact that two other children of the prophet, like Hosea s, bore prophetic and mysterious names, invites the conjecture that the bride referred to was his own wife. The hypothesis of some critics that a woman of the harem of Ahaz became the mother of Hezekiah, and that he was the Immanuel of the prophet s thought is not feasible. Hezekiah was at least 9 years of age when the prophecy was given (2 Kings 16:2). Immanuel, in the prophetic economy, evidently stands on the same level with Shear-jashub (Isaiah 7:3) as the embodiment of a great idea, to which Isaiah again appeals in Isaiah 8:8 (see ISAIAH, VII).
وفيه، كما يرى القارئ، أن الكلمة المستخدمة فى الأصل معناها "عروس" أو "شابة على وشك الزواج" أو "زوجة جديدة"، وليس "عذراء"، وأن تفسير الآية المذكورة فى النبوءة ليس واضحا، وإنْ كان التفسير القائل بالحمل الإعجازىّ مستبعَدا رغم ذلك، فضلا عن أن هناك من يقول إن المقصود بالغادة هو زوجة إشعيا نفسه، ومن يقول إن المقصود بــ"عمانوئبل" ليس شخصا بل فكرة من الأفكار العظيمة!
مُغلَق للتَحديث
-
ومرة أخرى غير المرة الأخرى السابقة لا يكتفى العبد لله بهذا، بل أعود لــ"دائرة المعارف الكتابية" (مادة "عمانوئيل") فأجد الآتى: "عمانوئيل: كلمة عبرية معناها "الله معنا" أو بالحري "معنا الله". وهو اسم رمزي جاء في نبوة إشعياء لآحاز ملك يهوذا كعلامة على أن الله سينقذ يهوذا من أعدائها (إش 7: 14، 8 و 10). وقد جاء في إنجيل متى أنها كانت نبوة عن "الرب يسوع المسيح" (مت 1: 23). لقد نطق إشعياء بهذه النبوة في حوالي 753 ق. م في أثناء مأزق حرج كان فيه الملك آحاز، حيث تحالف ضده فقح بن رمليا ملك إسرائيل ورصين ملك أرام لأنهما أراداه أن ينضم إليهما في حلف ضد أشور القوة الصاعدة، لكنه فضَّل الوقوف إلى جانب أشور (انظر 2 مل 16: 5- 9، 2 أخ 28: 16- 21). ولكن إشعياء النبي أكد لآحاز أنه ليس في حاجة إلى أن يخشى رصين وفقح ولا إلى التحالف مع أشور، وقال له : "اطلب لنفسك آية" ليتأكد من صدق ما قاله النبي. ولكن آحاز، بدافع من عدم الإيمان، وتحت ستار التقوى الكاذبة، قال له: "لا أطلب ولا أجرِّب الرب". وعندئذ أعلن إشعياء أن السيد الرب نفسه سيعطيهم آية: "ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل"، وفي سنواته الباكرة ستنتهي الدولتان اللتان كان يخشاهما: أرام وإسرائيل. وهو ما تم على يد تغلث فلاسر الثالث ملك أشور الذي صعد إلى دمشق وفتحها وسبى أهلها وقتل رصين ملكها في 732 ق. م. وبعد ذلك بعشر سنوات حاصر شلمنأسر، ملك أشور، السامرة مدة ثلاث سنوات، وأخيرا سقطت في يد الأشوريين في 722 ق. م.
وتتباين الآراء حول مَنْ هذا "الابن المدعوّ: عمانوئيل"، ومَنْ أمه التي توصف بأنها "عذراء" ("عُلْمة"...). ويرى كثيرون من حيث إنها كانت علامة لآحاز فلا بد أنها كانت تشير أولا إلى مرمى قريب يستطيع آحاز أن يميزه. وهناك أربعة آراء تدور حول هذا اللغز: 1-يرى بعض المفسرين أن كلمة "عُلْمة" (العذراء) لا تدل على واحدة بالذات، بل هي اسم جنس، فيكون "عمانوئيل" في هذه الحالة رمزا للجيل الجديد الذي ستتم النبوة في باكر أيامه. ولكن هذا التفسير لا يتفق مع ما جاء بالعهد الجديد، ويقطع الصلة بين هذه النبوة وسائر النبوات المتعلقة بالمسيا. 2-أنها نبوة تشير إلى إحدى امرأتين: إما امرأة إشعياء، أو امرأة آحاز. وفي الحالة الأولى يكون المقصود "بعمانوئيل" هو "مهير شلال حاش بز" (إش 8 : 1-4)، وأمه هي زوجة إشعياء الموصوفة بأنها "النبية" (إش 8 : 3)، التي كان إشعياء على وشك الاقتران بها، أي أنها كانت مازالت عذراء في وقت النطق بالنبوة. ويؤيدون هذا الرأي بأن أولاد إشعياء كانوا رموزا (انظر عب 2: 13 مع إش 8: 18). ويرى آخرون أن "العذراء" المقصودة هي إحدى زوجات آحاز، وأن الابن المقصود هو "حزقيا". ولكن هذا الرأي تعترضه صعوبات خطيرة، فحزقيا كان قد وُلد فعلا منذ نحو تسع سنوات قبل النطق بالنبوة (انظر 2 مل 2: 16،18:2)، بينما من الواضح أن النبوة لم تكن عن أمر قد حدث، بل عن أمر سيحدث. 3-أن النبوءة تشير إلى المستقبل البعيد، وبخاصة في ضوء ما جاء في إنجيل متى (1: 23) عن العذراء مريم وابنها يسوع الذي "يُدعى اسمه: عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" لأنه كان هو الله الذي "ظهر في الجسد" (1 تى 3: 16)، والذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا" (كو 2: 9). ومع أنه تفسير سليم بالنسبة لمرمى النبوة البعيد لكنه يتغاضى عن أن النبوءة كانت علامة لآحاز. (4) أن النبوءة مزدوجة المرمى كالكثير من نبوات العهد القديم، فعمانوئيل والعذراء رمزان، فالعذراء يرمز بها في المرمى القريب إلى امرأة إشعياء أو امرأة آحاز، وفي المرمى البعيد إلى العذراء مريم. و"عمانوئيل" يرمز في المرمى القريب إلى "مهيرشلال حاش بز" أو إلى "حزقيا"، أما في المرمى البعيد فإلى الرب يسوع.
ولا شك في أن النبوة كانت في مرماها البعيد تتعلق بولادة الرب يسوع المسيح من مريم العذراء، وهو ما نراه بكل وضوح في إنجيل متى حيث نقرأ: "هذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: "هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه: عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (مت 1: 21- 23). وهو الذي يقول عنه إشعياء أيضا: "لأنه يولد لنا ولد، ونُعْطَى ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا، أبا أبديا رئيس السلام " (إش 6: 9)، فهو وحده الذي يحق أن يقال عنه: "الله معنا"، ولم يكن مولده خلاصا من ضيقة وقتية، بل خلاصا أبديا من الخطية والموت". ومن هذه المادة يتضح الأمر كله، فالقوم يلوون عنق النص كى ينطق بما يريدون رغم أنه لا علاقة له بهذا الذى يريدون، وذلك على مبدإ: "عنزة ولو طارت".
و لدينا كذلك نبوءة إشعياء، التى يقول النصارى إنها خاصة بعيسى عليه السلام وتثبت أنه هو الله أو ابن الها، وفاتهم أنه قد تكررت الإشارة فى سفر إشعياء إلى أن الكلام الذى يقولون إنه خاص بعيسى إنما تتعلق بـ"عبد" لله لا بابن لله ولا بالله نفسه. وهذا هو النص فى سياقه كاملا كما ورد فى السفر المذكور: "13هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا. 14كَمَا انْدَهَشَ مِنْكَ كَثِيرُونَ. كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. 15هكَذَا يَنْضِحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجْلِهِ يَسُدُّ مُلُوكٌ أَفْوَاهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَدْ أَبْصَرُوا مَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ. 1مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ 2نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. 3مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، هنا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. 4لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. 5وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. 6كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. 7ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 8مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ 9وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. 10أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. 11مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. 12لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إشعيا/ 52/ 13- 15، و53/ 1- 11).
فها هو ذا مؤلف سفر إشعياء يصف الشخص الذى تدور حوله النبوءة على لسان المولى سبحانه بأنه عبد لله لا ابن له. ولا ننس أنه لم يحدث مرة أن قال المسيح عليه السلام لأحد ممن تعامل معهم: "يا عبدى، أو يا عبادى"، بل إنه لم يسمهم حتى "عَبِيدًا" (وهى الكلمة التى تُسْتَخْدَم عادة لعبد الإنسان لا لعبد الله، الذى يُجْمَع عادة على "عِبَاد") بل سماهم: "أحبّاء": "لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي" (يوحنا/ 15/ 15). أى أن المسيح، عليه السلام، من الناحيتين: الإيجابية والسلبية كلتيهما، هو عبدٌ لله كسائر عباد الله، وإنْ زاد عنهم بأنه كان رسولا نبيا. لكن قول مؤلف إشعياء عن ذلك العبد: "7ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. 8مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ 9وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" هذا القول لا ينطبق على السيد المسيح صلى الله عليه وسلم، إذ إنه لم يكن صامتا بل كان يتكلم طوال الوقت مع تلامذته وأعدائه والمرضى المتعَبين، وهذا الكلام هو الذى ألَّب عليه المجرمين الفَسَقَة. حتى عندما وُضِع على الصليب حَسْب روايات مؤلفى الأناجيل لم يكفّ عن الكلام، بل كان يجيب على ما يوجَّه له من أسئلة وتهكمات. كما أخذ يصيح ويتألم وهو فى نزعه الأخير حسبما يزعمون. ثم إنه لم يُدْفَنْ مع أشرار، ولا مات مع أغنياء. ورواية الصَّلْب موجودة لكل من يريد، فليدلّنا القوم على خلاف ما نقول! وفوق ذلك كيف يقال إنه قد ظُلِم، وهو ابن الله أو الله ذاته؟ هل الآلهة يمكن أن تُظْلَم؟ أوليس أبوه هو الذى أرسله بنفسه لكى يموت هذه الميتة فداء للبشرية؟ فكيف يسمَّى هذا ظلما؟ الواقع أنه إذا قلنا إنه كان هناك ظلم فليس أمامنا إلا القول بأن الظالم هو مَن اختاره وأرسله، أستغفر الله، لا مَنْ أسلموه لقتلته ولا مَنْ صلبوه، لأن هؤلاء جميعا إنما كانوا الأدوات المنفذة للمشيئة الإلهية، التى إنما عملت ما عملت رحمة بالبشرية وتكفيرا لها عن ذنوبها كما يقولون! كذلك فالسيد المسيح لم يكن محتقَرا، معاذ الله! وإذا كان فمِنْ قِبَل المجرمين المنافقين من بنى إسرائيل فقط، وهؤلاء لا قيمة لهم عند الله، أما الذين يؤمنون به فيحبونه ويحترمونه. والأناجيل مملوءة بالكلام الطيب الذى كان أتباعه يغدقونه عليه. وفوق ذلك فإن قول إشعياء: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها" لا ينطبق على السيد المسيح بحال لأنه لم يحدث أنْ حمل أحزان أحد ولا تحمّل أوجاعه، بل كل ما هنالك أنه أذهب عن بعض المرضى (وليس عنا كلنا نحن البشر) الأحزان والأوجاع التى كانوا يقاسونها ولم يتحمل هو نفسه شيئا منها، وإلا فهل كان فى كل مرة يشفى فيها أحدا من مرضه كان يصاب هو بدلا منه بذلك المرض؟ هذا هو معنى العبارة، وهو ما لا ينطبق على المسيح بتاتا، بيد أن القوم فى تفكيرهم وتفسيرهم لكتابهم المقدس لا يجرون على أى منهج أو منطق، بل يقولون كل ما يعنّ لهم بغض النظر عما فيه من شطط عن المنطق والعقل! كذلك فإن الكلام يخلو تماما مما يعتقده النصارى فى السيد المسيح من أنه قام من الأموات وصعد إلى السماء! ثم إن نهاية النص تتحدث عن نسل له تطول أيامه، وليس للمسيح أى نسل، لسبب بسيط هو أنه لم يتزوج كما يعلم جميع الناس: "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ".
ولا بد من التنبيه إلى أن كثيرا من المفسرين اليهود يؤكدون أن المقصود فى هذه النبوءة هو النبى إرميا، وليس عيسى عليه السلام. أما الفريق الآخر منهم الذى يرى أن الكلام عن المسيح فإن المسيح عندهم ليس هو ابن مريم بل شخصا آخر لا يزالون فى انتظار مجيئه كما هو معروف (انظر "Matthew Henry Complete Commentary on the Whole Bible" فى التعليق على الفقرات 13- 15 من الإصحاح الثانى والخمسين من سفر إشعياء)، وهذا الشخص لن يكون واحدا من الأقانيم المعروفة لأنهم لا يعرفون التثليث النصرانى الذى هو، فى الواقع، نتاج الفكر المتأخر عن المسيح. وعلاوة على هذا نجد ألفرد جِيّوم فى "A New Commentary on Holy Scripture" (لندن/ 1929م/ 459) يؤكد أن هناك خلافا حادا حول حقيقة الشخص المومإ إليه هنا لم يهدأ أُوَارُه، وأن التفسير القديم الذى كان يرى أن المراد بتلك النبوءة هو السيد المسيح قد أخلى مكانه لحساب القول بأن المقصود هم بنو إسرائيل كلهم، وبخاصة أنه قد سبق فى سفر إشعياء استعمال لفظ "العبد" مرادا به بنو إسرائيل. كما أنه من غير المعقول أن يكون الكلام بهذا التفصيل عن شخص لن يظهر إلا بعد 500 عام تقريبا. ومن هذا يتبين لنا أن كلام المتنطع الدمشقى هو كلامٌ فِشِنْك.
مُغلَق للتَحديث
-
إن المنهج الذى يريدنا ذلك المدلس أن نجرى عليه لَيُذَكِّرنى بطلاب هذه الأيام. إنهم لا يريدون أن يفكروا بأنفسهم لأنفسهم، بل تراهم إذا سألناهم عن رأيهم فى مسألة ما يردون بأن كل ما يريدونه منا هو أن نذكر لهم رأينا نحن، وهم يحفظونه ويعيدون كتابته فى ورقة الإجابة، وكان الله يحب المحسنين، إذ ما دمنا نعرف الإجابة الصحيحة فلماذا نُعْنِتهم ونرهق أذهانهم ونضيع وقتهم؟ وكأن وقتهم له أية قيمة. أما المنهج الذى نريده نحن من الناس فهو أن يبسطوا أمامهم الدعوة التى يأتيهم بها أى رسول أو مصلح ليروا فيها رأيهم محللين ممحصين مدققين مقارنين، ومجربين أيضا إذا أمكن. بهذا لا بغيره يكون اختبار الدعوات والنبوات لا بشهادات الآخرين. وهذا المنهج هو منهج القرآن، إذ دائما أبدا تجده يخاطب العقول ويعرض البراهين ويحث على التأمل والتفكير، وهو ما لا يحسنه المتنطع الكذوب المسمى بـ"يوحنا الدمشقى، فقد درج على حفظ ما يلقى إليه من دون تفكير أو عقل، شأن طلاب هذه الأيام النحسات.
فإذا أردنا أن نقارن بناء على هذا بين الدين المنسوب لعيسى وبين الدين الذى أُوحِىَ إلى محمد، فماذا نجد؟ نجد أن الإسلام ليس مجرد عبادة أو مجموعة من الأخلاق بل شريعة كاملة تغطى كل جوانب الحياة وأنشطة الحضارة البشرية كما هو معلوم، أما دين عيسى فلا يعدو بعض الوعظيات المغرقة فى المثالية والتى لا تصلح لأى بناء اجتماعى أو حضارى على الإطلاق. ومن هنا نفهم تأكيد السيد المسيح بأن مملكته ليست من هذا العالم. والواقع أن ما نسبه إليه مؤلفو الأناجيل من مواعظ أخلاقية هى كلمات لا تسمن ولا تغنى من جوع، كما أن التصرفات المسندة له هناك من شأنها أن تقوض المجتمعات التى تحاول أن ترتكن إليها: فمثلا كيف يقوم مجتمع أو حضارة على نبذ العمل والمال تماما طبقا لما كان عيسى يأمر به أتباعه؟ أو كيف يقوم مجتمع أو حضارة على أساس التسليم للمجرمين لا بما يريدون فقط بل بأزيد مما كانوا يحلمون بحيث إذا هاجمك لص مثلا وأراد غَصْبك رداءك فعليك أن تتنازل له عن الإزار أيضا... إلى آخر ما نعرفه عن موعظة الجبل وما يشبهها فى الأناجيل من الكلام المنمَّق الجميل الذى لا يؤكّل عيشا؟
أما محمد عليه الصلاة والسلام فقد أتى بتشريعات لم تغادر شيئا من شؤون الحياة إلا ونظمته وقنّنته على أحسن ما يكون التناغم مع فطرة البشر وأوضاع حياتهم وظروف مجتمعاتهم، جامعة بين المثالية العاقلة الكريمة والواقعية الطاهرة الحكيمة. ألم يبن دولة ناجحة فى المدينة استطاعت، فى غضون عدة عقود لا راحت ولا جاءت فى حساب التاريخ، أن تتحول إلى إمبراطورية اكتسحت معاقل الشرك والتثليث وعبادة النار والبقر والبشر؟ بلى. ثم إن معجزات السيد المسيح على جلالها أقل فائدة للعباد من هذه الإنجازات المحمدية بكل ما تشتمل عليه من تشريعات ونظم سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية وعسكرية وقانونية. ذلك أن الذى يعطى الجائع صنارة ويعلّمه كيف يصنع ما شاء من الصنانير، ثم يشرح له كيف يقوم بعملية الصيد ليسد جوعته ويدخر بعضا من السمك المصطاد ليبيعه لغيره مقابل شىء مما عند ذلك الغير لا يملك مثله هو، فيَطْعَم ويغتنى، ويُطْعِم ويُغْنِى بدوره مَنْ حوله، لأفضل ألف مرة من تزويد ذلك الجائع بأكلة سمك أو أكلتين، ثم يتركه بعد ذلك للجوع والضياع والبطالة والانقضاض على حقول الآخرين ليأكل منها دون إذن من أصحابها، وبخاصة أنه ليس عنده وقت لتلبية حاجات كل جائع، وأنه عاجلا أو آجلا مُغَادِره إلى الأبد ومُبْقِيه وجهًا لوجهٍ مع أمعائه الخاوية وزوجته وأطفاله الصارخين لا يعرفون كيف يتصرفون ولا كيف يواجهون هذا المأزق العسير!
وبمستطاعنا أن ندير هذه المقارنة على ثلاثة محاور: الأول هو مدى توفير كل من الدينين للتشريعات التى تنظم أمور الحياة. والثانى هو القيم الحضارية التى يبشر بها كل من الدينين. والثالث هو عنصر الرجال الذين رباهم كل من الرسولين. ونبدأ بالتشريعات، ومعروف أن النصرانية تخلو تماما من أى شىء يتعلق بتنظيم المجتمع أو الدولة: سواء فى مجال السياسة والحكومة، أو الاقتصاد والعمل والإنتاج والصناعات والحرف والبيع والشراء والربا، أو العلاقات التى تربط أفراد الأسر والأقارب والجيران بعضهم ببعض، أو الحروب والمبادئ التى ينبغى الالتزام بها عند وقوعها. ذلك أن النصرانية ليست سوى طائفة من النصائح الأخلاقية المثالية التى تتأبى على التطبيق مهما كانت رغبة الشخص أو المجتمع فى ذلك لأنها تدابر الفطرة البشرية وتفترض فى الناس أنهم مجموعة من الملائكة الأطهار الأبرار، أو من ألواح الثلج، فهم لا يحسون ولا يغضبون ولا يتألمون ولا يقلقون على شىء ولا يرون له قيمة، ومن ثم لا يثورون ولا يتمردون على أية إهانة أو إذلال. وبطبيعة الحال فإن الناس ليسوا كذلك ولا يمكن أن يكونوا كذلك. ولهذا كان لا بد من تشريعات تنظم أمورهم فى مجالات الحياة المختلفة، وهو ما قام به الإسلام على خير وجه، وراعى فيه إقامة توازن عبقرى بين واقعية القوانين ومناسبتها للطبيعة الإنسانية مع العمل فى ذات الوقت على السموّ بتلك الطبيعة إلى أقصى ما يمكنها بلوغه من درجات الرقى والسموق رغم ذلك. وعلى هذا فمن الظلم وضع الإسلام موضع المقارنة مع النصرانية، إذ لا تستطيع هذه الديانة الأخيرة أن تصمد لحظة لتلك المقارنة. وينبغى هنا ألا ننسى ما قاله المسيح عليه الصلاة والسلام من أن مملكته ليست من هذا العالم، وهى كلمة قاطعة الدلالة على أن النصرانية، حتى دون تحريف، لا تصلح للحياة الدنيا، فكيف تصح مقارنتها بالإسلام، فضلا عن تفضيلها عليه؟ إن هذا كلام لا يدخل العقل! وهنا ننتقل إلى المحور الثانى فى المقارنة بين محمد والمسيح عليهما جميعا السلام، وهو محور القيم الحضارية.
ومن المعروف أن الحضارة تقوم على عدة أسس هى العقيدة، والأخلاق، والقانون، والعلم، والذوق، والعمل. وليكن آخر شىء هنا، وهو العمل، هو أول ما نتناوله فى المقارنة بين الإسلام والنصرانية. وكان المسيح عليه السلام، طبقا لما يقوله كتّاب الأناجيل، ينظر إلى العمل على أنه عائق فى طريق دعوته.
ولهذا كان يأمر كل من يدخل فى تلك الدعوة أن يترك وراء ظهره مهنته التى يأكل منها، وكذلك أسرته، ويتبعه: "17مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ:«تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ».18وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 19فَقَالَ لَهُمَا:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». 20فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. 21ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. 22فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ" (متى/ 4)، "وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعًا كَثِيرَةً حَوْلَهُ، أَمَرَ بِالذَّهَاب إِلَى الْعَبْرِ. 19فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». 20فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». 21وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ:«يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». 22فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ»" (متى/ 8)، "9وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، رَأَى إِنْسَانًا جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ" (متى/ 9. وبالمناسبة فهذا النص الصغير يدل دلالة قاطعة على أن كاتب هذا الإنجيل ليس هو متى حوارى عيسى، فهو يتكلم عن متى نفسه بوصفه شخصا آخر، وهذا ظاهر من استعماله له ضمير الغائب لا المتكلم"، "24حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ:-
«إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي»" (متى/ 16).
ويتصل بهذا تهوينه عليه السلام من شأن المال، مع أن المال فى أصله عنصر رئيسى من عناصر الحياة، إذ هو ترجمة الجهد المبذول فى العمل والإنتاج أو فيما يحتاج إليه الإنتاج كى يمكن إنجازه. ولا يمكن أن يُدَان المال ومالكوه، اللهم إلا إذا أتى من حرام، أو أُنْفِقَ فى حرام، أما إدانته والتنفير منه والدعوة إلى كراهيته كأنه شرٌّ فى ذاته كما كان المسيح يفعل طبقا لما يقول مؤلفو الأناجيل فهو ما لا يمكن الموافقة عليه، لأنه يهدم ركنا من أركان الحياة والعمران البشرى، وإلا فمن أين يأكل الناس ويشربون ويلبسون ويسكنون إذا أهملوا العمل وما يترتب على العمل من كسب ومال؟: "19«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ! 24«لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ. 25«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ 28وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (متى/6).
ولقد يبدو أن ما يقوله المسيح هنا يشبه ما قاله الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام عندما أشار إلى أن الله سوف يرزقنا كما يرزق الطير. بيد أن هناك فرقا ضخما وخطيرا بين الكلامين، ألا وهو أن الرسول محمدا قد وضّح ماذا يقصد بالمقارنة بيننا وبين الطير، وهو ألا نركن إلى الكسل ونهمل العمل، بل علينا أن نطلب الرزق من مظانّه. وإذا كانت الطير تترك أعشاشها وتطير فى فضاء الله الوسيع سعيا وراء الحبة والدودة، وحينئذ تحصل على رزقها، فكذلك ينبغى أن نتحرك نحن أيضا ونجتهد ونتعب حتى نحصل على رزقنا. فالرزق لا يأتى دون تعب وعرق وكد وكدح. وهذا معنى ربطه صلى الله عليه وسلم بين الرزق وبين شرط التوكل على الله حقّ توكُّله: "لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا". وهذا ما لا نجده فى حديث السيد المسيح عليه السلام، بل فيه أن الله يرزق الطير دون مجهود من جانبها، وهذا غير صحيح كما يعرف جميع الناس.
ولنتابع: "16وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» 17فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا». 18قَالَ لَهُ:«أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. 19أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». 20قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟» 21قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 22فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ! 24وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 25فَلَمَّا سَمِعَتَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ:«إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 26فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ. 27فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» 28فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 29وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 30وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ»" (متى/ 19. ولو قيل إن الغِنَى إذا كان من حرام أو يدفع إلى حرام أو يشغل صاحبه عن طاعة الله ويغريه بالإثم فإنه يشكل عندئذ عقبة تمنع صاحبه من دخول ملكوت السماوات، فلا خلاف على هذا القول. أما التنفير من المال مطلقا فلا أدرى كيف يكون!).
ولذلك كان من ثمرة هذا الموقف المبدئى من السيد المسيح أنه وتلاميذه كانوا يعتمدون فى مطعمهم وملبسهم ومركبهم على ما يجود به عليهم الآخرون، أو على ما يقابلهم فى طريقهم من حقول أو حظائر يهجمون عليها دون إذن من أصحابها، أو على معجزات السيد المسيح الطعامية. وإذا لم تأت المعجزة بالثمرة المطلوبة لَعَنَ التينة المسكينة التى لم تستجب له لأن الأوان ليس أوان تين، وليس لها ذنب فى ذلك. وليس على تلك الأسس تقوم المجتمعات البشرية، بل على العمل والجِدّ والإنتاج وامتهان الحرف والصنائع المختلفة، وإلا انقرض المجتمع وضاع: "5هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. 7وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. 8اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. 9لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ، 10وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْن وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ" (متى/ 10)، "1فِي دلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. 2فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ:«هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» 3فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 4كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ. 5أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ 6وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! 7فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! 8فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا»" (متى/ 12. والطريف أن كاتب الإنجيل يعرض المسألة على أنها انتهاك لحرمة السبت، وينسى أو يتناسى انتهاك حرمة الحقل فى غياب صاحبه والأكل منه دون إذنه)، "14فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعًا كَثِيرًا فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. 15وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَامًا». 16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». 17فَقَالُوا لَهُ:«لَيْسَ عِنْدَنَا ههُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ». 18فَقَالَ:«ائْتُوني بِهَا إِلَى هُنَا». 19فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. 20فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. 21وَالآ كِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى/ 14)، "32وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ:«إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ» 33فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعًا هذَا عَدَدُهُ؟» 34فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ». 35فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، 36وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ، وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. 37فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَل مَمْلُوءَةٍ، 38وَالآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُل مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى/ 15)، "1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلاً لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا»" (متى/ 21)، "18وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ، 19فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا:«لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!». فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ" (متى/ 21)، "17وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 18فَقَالَ:«اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي». 19فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ" (متى/ 26).
مُغلَق للتَحديث
-
-
ومن هذه الجواهر يتبين لنا قيمة العلم ومدى اهتمام الإسلام بل اعتزازه به وحضه عليه وتشجيعه من يسعى لتحصيله. ويكفى أنه هو الشىء الوحيد الذى أمر الله رسوله عليه السلام أن يستزيد منه، وأنه هو الشىء الوحيد أيضا الذى لم يورِّث الأنبياء شيئا آخر سواه، وأن فضل العالم على سائر الناس، بما فيهم العابد، هو فضلٌ جِدُّ كبير، وأن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ، وهو ما لا مثيل له ولا قريب منه فى أى مذهب أو فلسفة أو نظام أو دين آخر، بل أقصى ما يطمع فيه المخطئ فى هذه الحالة هو أن تخفف عنه العقوبة، أما أن يُعْفَى منها تماما فهذا حلم صعب المنال. لكنْ أن يُؤْجَر رغم خطئه فهذه هى عبقرية دين محمد عليه الصلاة والسلام. وليس فى النصرانية واحد على المليون من كل ذلك، والعهد الجديد متاح لمن يريد التحقق من هذا الذى نقول، فليقلِّبْه براحته وعلى أقلّ من مهله، وأنا زعيم أنه لن يعثر على شىء من ذلك بتاتا، بل سيخرج بانطباعٍ مؤدّاه أن العلم بالنسبة للنصرانية هو شىء لا وجود له على الإطلاق، وكأننا حين نتحدث عن العلم فإنما نتحدث عن العنقاء! ترى كيف يمكن أن تقوم حضارة دون علم؟ لكن ينبغى ألا ننسى ما هو منسوب للمسيح عليه السلام من قوله إن مملكته ليست من هذا العالم! وهذا هو محور الاختلاف بين الإسلام والنصرانية: الإسلام هو دين الحضارة والحياة والحيوية والتقدم. والنصرانية، على العكس من ذلك، تعطى ظهرها للحياة وترتدى ثياب الرهبان وتستقبل الموت والسكون، ولا تهش لحركة العقل وتوثّب الحضارة!
أما فى الجانب الخلقى فيردد النصارى أن المسيح عليه السلام قد أتى بشريعة التسامح. يقصدون قوله: "أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم... إلخ"، لكننا سبق أن قلنا وكررنا القول إن هذه المبادئ الخلقية لا تصلح للمجتمعات البشرية، وإلا تحوّل الأمر فيها إلى كارثة إ ترى ماذا يريد المجرمون والظلمة أحسن من ذلك الكلام الذى لن يجنى منه أصحاب الحق والمظلومون سوى الألم والهوان والضياع، مما ينشر الاضطراب فى المجتمع كله ويأخذه إلى الهاوية والانهيار؟ إننا قد نفهم أن يلجأ الإنسان إلى التسامح فى بعض الظروف، وبخاصة إذا كان أقوى ممن أساء إليه أو كان عاجزا عن أخذ حقه أو وجد أن نيله هذا الحق سوف يؤدى إلى ضرر أفدح من ضرر الصبر والتغاضى. أما أن يتحول التسامح والإغضاء إلى سياسة دائمة فهو البوار والانتحار الاجتماعى والسياسى. لنأخذ مثلا ما فعله الغرب فينا حين جلب اليهود من كل أرجاء المسكونة وأقام لهم برغم أنوفنا نحن العرب دولة على أرض فلسطين وشرد معظم أهل البلاد فى الآفاق وانتهج مع الباقين سياسة التقتيل والترويع والاعتقال وهدم البيوت والحصار وتقييد الحريات والتنكيل والتحقير والتشنيع عليهم بأنهم هم المعتدون والإرهابيون، وأن الصهاينة قوم مساكين لا يبغون أكثر من أن يأخذوا بلاد الفلسطينيين ويقتلوهم ويستعملوا الباقين خدما يلعقون أحذيتهم صباح مساء دون أن يقابل ذلك من جانب اليهود حمد أو شعور بالجميل... إلى آخر ما يعرفه كل أحد عن طريقة التعامل الصهيونى والغربى مع الفلسطينيين المظاليم. فبالله عليكم ماذا يريد الصهاينة أفضل من نصح الفلسطينيين بالسكوت على ما حدث لهم، مع شَفْعه بتقديم بناتهم وزوجاتهم وأمهاتهم للمحتلين اليهود ليفسقوا بهن جريا على سياسة: من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن اغتصبك رداءك فاترك له الإزار أيضا، ومن سخَّرك ميلا فسَخِّرْ نفسك له ميلين، وأعطه كل ما معك فوق البيعة واستسمحه أن يخفف عن نفسه الملل بصفعك على قفاك ولكمك فى وجهك وتحطيم أنفك وأسنانك وركلك فى أردافك والبصق فى وجهك وإمطارك بالشتائم المعتبَرة المنتقاة حتى تُدْخِل البهجة على نفسه وتتركه وأنت مطمئن أنه قد استوفى رغبته المريضة فى إيذائك واشتفى من الأُكَال الذى يعذّبه والذى لا يهدّئه إلا إيذاء الآخرين من العرب والمسلمين؟
وفوق ذلك فإنه لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد فى يوم من الأيام مجتمع بشرى يقوم على التسامح المطلق، وإلا فلنلغ الشرطة والقوانين والمحاكم والحكومات ونعيش كما يعيش الناس فى الحدوتة التى كنت أسمعها وأنا طفل صغير والتى تقول إنه كان هناك أيام زمان بلاد لا يتعامل الناس فيها بالفلوس، بل كل من أراد شيئا فما عليه إلا أن يذهب إلى التاجر أو الصانع أو الزارع الذى عنده ذلك الشىء ويقول له: أعطنى كذا وكذا مما عندك "بالصلاة على النبى"، فيعطيه ما يريد ويذهب هو بما أخذ دون أن يكلف نفسه أن يقول: "شكرا". فهل هذا معقول؟ إننا إنما نعيش فى دنيا الواقع والحقائق لا فى دنيا الحواديت، فلنأخذ بالنا حتى لا يضحك علينا الناس! ثم إنه إذا كان عيسى عليه السلام قد دعا إلى التسامح على هذا النحو فإنه، كما وضحنا من قبل ونكرره الآن، كان أول من خرج على ذلك الكلام ولم يلتزم به قط، وإلا فمن الذى كان يلعن بنى إسرائيل لا يكف لسانه عنهم أبدا ويصفهم بــ"المرائين" و"قتلة الأنبياء وراجمى المرسلين" و"أولاد الأفاعى" و"خراف بنى إسرائيل الضالة" و"فاعلى الإثم" و"الشعب الصُّلْب الرقبة" و"الجيل الشرير" و"لصوص المغارة"؟ أليس هو عيسى عليه السلام حسبما نقرأ فى الأناجيل فى كل مناسبة وفى كل غير مناسبة حتى إننا لنظن أنه لم يكن يعرف هدوء الأعصاب، ولا لسانُه التوقفَ والسكينةَ، وأن الداعى إلى التسامح شخص آخر غيره، بل شخص يعاديه ويجرى على نقيض سنّته. بل إنه لم يُعْفِ تلامذته أنفسهم من سوط لسانه، إذ اتهمهم بقلة الإيمان أكثر من مرة، وبالذات بطرس الذى تكرر إفراده له بذلك الاتهام. أما أمه فلا أذكر أنه وجه لها كلمة طيبة قط طوال وجوده على الأرض، بل كان خشنا فظا معها حتى إنه ذات مرة رد على من نبهوه إلى أنها تنتظره هى وإخوته خارج البيت الذى كان فيه، قائلا إن أمه وإخوته الحقيقيين هم من يؤمنون برسالته. فما معنى هذا؟ وهذا كله موجود فى الأناجيل. وحتى لو صدقنا أنه كان يتسامح فعلا كما كان يأمر غيره أن يفعل، فإن مدة التسامح والصبر لم تتجاوز ثلاثة أعوام، ثم ترك الدنيا ومضى إلى ربه.
أما محمد فإنه قد جرى على خطة الصبر والغفران لا أعواما ثلاثة فحسب، بل ثلاثة عشر عاما قبل أن يؤذَن له بالقتال بعدما كانت كل فرص الصبر والعفو والتغاضى قد نَفِدَتْ كلها ولم تأت بنتيجة. ولا شك أن لكل شىء فى دنيانا هذه من نهاية! فحبال الصبر لا يمكن أن تمتد إلى الأبد إلا إذا كنا نعيش فى غير دنيا البشر! ثم هاتوا لى إنسانا واحدا أضربه على خده الأيمن فيدير لى خده الأيسر، وألعنه فيباركنى حسبما توصى الأناجيل! هذا أمر مستحيلٌ استحالةَ طلوع الشمس من مغربها، وتلك الاستحالة أمر طبيعى تماما، فهكذا طُبِع الناس منذ الأزل حتى الأبد. كما أن الحياة لا تستقيم بالتسامح المطلق الدائم، "ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض" كما جاء فى القرآن المجيد، إذ لا يَفُلّ الحديدَ إلا الحديد! والبشر كلهم يعرفون ذلك أكثر مما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا من المخادعين ليكتمون الحقيقة عامدين متعمدين. والمسيح عليه السلام هو نفسه القائل إنه ما جاء ليُلْقِىَ سلاما بل سيفا، وإنه سيكون سببا فى انقسام البيت الواحد على نفسه، بما يدل أقوى دلالة وأجلاها على أن خطة التسامح لا يمكن أن تكون مطلقة مفتحة الأبواب على الدوام، وأن الاصطدام قادم قادم مع استمرار العنت والاضطهاد والعدوان من جانب الخصوم، وإلا فالعفاء على كل شىء وكل أحد! ومن ناحية أخرى فقد سمعنا الرسول الكريم يدعو لقومه فى عز اضطهادهم له ولأتباعه قائلا: رب، اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون!
إن القرآن لا يأمر أتباعه بإدارة الخد الأيسر، لكنه يوصيهم مع ذلك بالحِلْم والصبر والرد على الجاهلين بـ"سلام عليكم" وبالعفو عند المقدرة، إلا أن لكل شىء نهاية كما قلنا. ولابد أن يأتى يوم يفيض فيه الكيل ويتخذ الإنسان عندئذ من الإجراءات ما يُسْكِت عنه المجرمين المتوحشين ليتنفس الصُّعَداء، وإلا فلْنُلْغِ الشرطة والنيابة والقضاء والمحاكم والحكومات كما قلنا من قبل ساخرين! وهذه بعض من النصوص التى تحث المسلم على الصبر ومقابلة السيئة بالحسنة، وإن كان القرآن لا يوجب عليه ذلك، بل يؤثر فقط العفو والصفح فى كثير من الظروف على رد العدوان بالعدوان:
"وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" (الشورى/ 43)،
"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" (النحل/ 126- 128)،
"وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فُصِّلَتْ/ 34- 35)، "فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ* وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ" (ق/ 39- 40)،
"وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً" (المزَّمِّل/ 10)...
وما أكثرهـــــــــــا
ومع ذلك نجد فى القرآن عقوبة لكل جريمة يرتكبها الشخص فى حق الأفراد أو فى حق المجتمع ككل، وبغير هذا فلا قيام ولا استمرار لأى كيان جماعى فى دنيا البشر، اللهم إلا إذا أمكن مثلا إلغاء نظام المرور وترك سائقى السيارات والقطارات والدراجات
والطائرات يفعلون ما يحلو لهم، وهو ما لا بد أن تكون نتيجته التوقف تماما
عن الحركة فى كثير من الحالات أو البطء الشديد فى الانتقال من مكان إلى
مكان، فضلا عن الحوادث والمصائب المرورية التى لا تعد ولا تحصى.
فهل هذا ممكن؟ وعليه فقِسِ النظام الاجتماعى كله بمؤسساته وهيئاته
وإداراته وقوانينه ومحاكمه وسجونه. تصور مجتمعا يحاول أى شخص
فيه أن ينجز شيئا، وهو يعرف أنه لا ضمان لحصوله على ثمرة كده،
ولا أمان له إن خرج إلى الشارع لأن السفلة ينتظرونه على باب الدار ليشتموه، والمجرمين يتربصون به ليضربوه ويسرقوه، والقتلة يمسكون بسكاكينهم أو
مسدساتهم ليجهزوا على حياته وإلى القبر يشيعوه، والعَهَرة يتمترسون على
الناصية حتى إذا خرجت واحدة من نساء بيته هتكوا عرضها وأهانوه
وفضحوه ودمّروه! هل يستطيع مثل ذلك الشخص أن يكون عنده
نفس للعمل والإنتاج؟
قل له من هنا للصبح:-
"تسامح يا أخى الكريم! يا أخى الكريم من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن قتلك مرة فقم من موتك وتعرض له كى يقتلك مرة أخرى فيكون لك مكان بارز فى ملكوت السماوات"، لكنه لن يأخذ حرفا واحدا مما تقول على سبيل الجِدّ، فأرح نفسك إذن، بل اسألها:-
أأستطيع أنا فلانًا الفلانىّ أن أفعل هذا؟ والجواب معروف سلفا،
فلا تضيع وقتك إذن، بل تَحَلَّ بالعقل،
وكُلْ وعِشْ وقُلْ: يا باسط، واحمد ربك أن هناك شرطة وسجونا
ومحاكم وقوانين وحاجة اسمها
"عيب" و"حرام" و"ممنوع" "وضد القانون"، وإلا كانت حياتك كارثة بكل المقاييس!
مُغلَق للتَحديث
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Doctor X في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 07-07-2014, 11:28 AM
-
بواسطة نيو في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 31-12-2012, 02:49 PM
-
بواسطة abcdef_475 في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 15-01-2011, 08:24 PM
-
بواسطة abcdef_475 في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 02-01-2011, 02:41 PM
-
بواسطة المهتدي في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 30-12-2010, 05:20 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات