وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فهناك من علماء المسلمين من يفسرون "ابنة عمران" التى توصف بها مريم عليها السلام
فى القرآن الكريم تفسيرا مجازيا على هذه الشاكلة جوابا على اعتراض النصارى على هذا الوصف القرآنى لها عليها السلام. وإذا أردنا أن نبحث فى الكتاب المقدس عن مثل هذا الاستعمال فسوف نجد مثلا فى
الإنجيل المنسوب إلى متى نقرأ أن عيسى عليه السلام
هو "ابن دواد بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام".
ولا يمكن أن يكون عيسى هو ابن داود ولا أن يكون داود
هو ابن إبراهيم إلا على المجاز، إذ بين كل ابن من
الابنين وأبيه أجيال وأجيال.
كذلك ففى مادة "أب" من "دائرة المعارف الكتابية" نجد أن هذه الكلمة "ترد بهذا اللفظ والمعنى في العبرية والآرامية وغيرها من اللغات السامية كما هي في العربيـــة. وتستعمل مفردا أو جمعا للدلالة على الوالد أو الجد أو ما قبله من أسلاف
(انظر مثلاً إرميا 35: 15 و16). فأبو الشعب أو القبيلة هو مؤسسها ،
وليس من المحتم أن يكونوا جميعا من صلبه ، وبهذا المعنى قيل عن
إبراهيم إنه أبو الإسرائيليين (تك 17: 11- 14 و57) كما كان إسحق ويعقوب
ورؤساء الأسباط آباء بهذا المعنى. كما أن مبدع أو مؤسس حرفة يعتبر
أبا لمن يعملون في تلك الحرفة (تك 4: 20- 22). ويستخدم سنحاريب
لفظ "آبائي" للدلالة على من سبقوه على عرش أشور مع أنهم لم يكونوا
من أجداده (2 مل 19: 12). كما تستخدم الكلمة للدلالة على التوقير والاحترام
بصرف النظر عن رابطــــــة الدم (2 مل 13: 14). أما كلمة
"أب لفرعون" (تك 45: 8) ، فهي كلمة مصرية معناها "مراقب" أو "وزير"
لفرعـــون.
وقد نقلها الكاتب إلى العبرية بلفظها، وحسنًا فعل، لكن المترجمين إلى
الإنجليزية وكذلك إلى العربية ترجموها كما لو كانت كلمة "أب"
العبرية بدلاً من نقلها كما هي أو ترجمتها إلى "وزير"...".
وبالمثل نقرأ فى مادة "ابنة/ بنت" من الموسوعة ذاتها أن تلك الكلمة
"تستخدم فى كلمة الله فى أكثر من معنى: 1-بالمعنى الحرفي
المعروف (تك 46: 25، خر 1: 16).
2-بمعنى "كنّة" أي زوجة الابن (راعوث 2: 2).
3-بمعنى "حفيدة" مباشرة أو غير مباشرة (لو 1: 5، 13: 16).
4-بمعنى الانتساب إلى بلدة أو مكان معين، مثل: "بنات أورشليم" (لو 23: 28)، أو إلى ديانة معينة مثل "بنت إله غريب" (ملاخى 2: 11)، أو إلى سبط معين مثل: "بنات يهوذا" (مز 48: 11).
5-بمعنى سكان موضع معين كجماعة، وبخاصة فى الأنبياء والأسفار الشعرية كما فى "ابنة صهيون" (مز 9: 14، إش 23: 10، إرميا 46: 24، مت 21: 5).
6-فى مخاطبة أي فتاة أو امرأة، مثلما فى "ثقي يا ابنة"
(مت 9: 22، مرقس 5: 34، لو 8: 48)،
أو "اسمعي يا بنت" (مز 45: 10).
7-بمعنى جنس النساء عموما، كما فى "بنات كثيرات" (أمثال 31: 29).
8-تستخدم مجازيا فى مخاطبة المدن
(إش 47: 1، خر 16: 44و 46).
9-تطلق على القرى والضواحى التابعة لمدينة أكبر
(عد 21: 25، قض 1: 27).
10-تستخدم للدلالة على العمر، مثل: "وهى بنت تسعين سنة" (تك 17: 17)
أو "بنت ليلة كانت، وبنت ليلة هلكت" (يونان 4: 11)،
أو للدلالة على الوظيفة مثل: "بنات الغناء" (جا 12: 4)".
ويجد القارئ ذلك فى
"The International Standard Bible Encyclopedia:
الموسوعة الكتابية النموذجية العالمية"
حسبما وضحنا.
فهل نقول إن وصف القرآن لمريم بأنها "ابنة عمران" يجرى هذا المجرى؟
الواقع أن هذا التوجيه كان يمكن أن يكون وجيها لو أن المسألة توفقت
عند هذا الحد. أما والقرآن يصف أم مريم عليها السلام
بأنها "امرأة عمران" فإن
المسألة تتخذ بذلك اتجاها آخر يمنعنا من استعمال الحجة السابقة.
صحيح أن الشيخ عبد المتعال الصعيدى
(فى مقال له بمجلة "المنار" عنوانه: "مريم أم عيسى عليهما السلام- أُخُوّتها لهارون وبُنُوّتها لعمران"/ مجلة "المنار"/ م 33/ ج 10/ ص760/ ذو الحجة 1352هـ- أبريل 1934م ) يفسر "امرأة عمران" هى أيضا تفسيرا مجازيا، إلا أن هذا غير مقبول عندى، فمن الصعب جدا أن يؤكد القرآن بنوة مريم لعمران من خلال وصف أمها بأنها "امرأة عمران"، ثم نأتى نحن فنقول إن الاستعمال فى الحالتين استعمال مجازى، وبخاصة أن القرآن فى هاتين العبارتين لم يكن حاكيا كلام اليهود كما هو الحال فى عبارة "يا أخت هارون"، بل كان منشئا لما قال.
تنبيه : من هنا فإنى أرى بكل قوة أن "عمران" هو اسم والد مريم - عليها السلام-دون جدال.
وليس للنصارى حق فى الاعتراض على هذا، إذ لا يوجد فى أناجيلهم الأربعة
المعترَف بها لديهم أنها ابنة يواقيم، الذى على أساسه يجأرون بتكذيب القرآن
، بل لا يوجد مصدر أكيد يقول إن أبا مريم هو هذا اليواقيم، بل الذى قال ذلك
هو أحد الأناجيل التى لا تعترف بها الكنيسة، وهو إنجيل يعقوب. على أن
المسرحية لما تتمّ فصولا، إذ يقولون هم أنفسهم إن مريم عليها السلام
هى بنت هالى
(انظر مادة "Heli" فى "WebBible™ Encyclopedia"
حيث نقرأ ما نصه:
"Heli: father of Mary and father-in-law of Joseph in the line of Jesus Christ s royal ancestry".
وانظر كذلك أواخر مادة "Joseph" والجزء الخاص بمريم أم المسيح من مادة "Marie" فى
"Dictionnaire de la Bible:
معجم الكتاب المقدس"
لجون أوجستين بوست (Jean Augustin Boste, Librairie Protestante, Paris, 1849)، ومقال
الشيخ عبد المتعال الصعيدى الآنف الذكر: "مريم أم عيسى عليه السلام
- أُخُوّتها لهارون وبُنُوّتها لعمران"/ مجلة "المنار"/ م 33/ ج 10/ ص760/ ذو
الحجة 1352هـ- أبريل 1934م). و
العجيب المريب أن "هالى" فى إنجيل لوقا، الذى أشارت
إليه المادة المخصصة له فى "WebBible™ Encyclopedia"
بوصفه المرجع الذى ذكر أنه والد مريم، ليس هو والد مريم عليها السلام،
بل والد يوسف النجار. إلا أنهم يقولون إن نسبة يوسف هذا
إلى يعقوب هى النسبة الصحيحة، أما هالى فرغم أن لوقا
ذكر بصريح العبارة أنه أبوه تراهم يقولون إنه أبو زوجته.
أى أنه ليس "Helison of "، بل "son-in-law of Heli" (انظر مادة "Mary mother of Jesus" فى نفس الموسوعة).
أتدرى، أيها القارئ العزيز، لماذا يصنعون هذا؟ لكى يكون عيسى
عليه السلام منتسبا إلى داود. وبما أنه ليس له أب ينتسب إليه
عن طريقه، وبما أن الانتساب إلى داود إنما ينحصر فى يوسف النجار،
الذى لم يكن لعيسى بأب، وإلا لقلنا إنه رغم عدم زواجه بمريم آنذاك قد
أنجبه منها، بما يترتب على هذا الكلام من كوارث، بما أن الأمر كذلك لم
يجدوا مفرا من لىّ كلام لوقا والزعم بأن المقصود هو بنوة مريم لا يوسف
للمُسَمَّى: هالى. وبمكنة القارئ الرجوع إلى
" Commentary Critical Explanatory on the Whole Bible and"
فى تفسير الفقرة 23 من الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا،
ولسوف يجد عرضا للخلاف بين علماء الأناجيل ومفسريه حول هذه النقطة
وكيف يلوى فريقٌ منهم النصَّ بغية الوصول إلى ما يريدون من نسبة المسيح
إلى داود عن طريق هالى حفيد داود، وذلك من خلال العذراء عليها السلام.
كما نراهم يلجأون إلى حيلة أخرى لنسبته إلى داود من خلال القول بأن
يوسف النجار هو أبوه الاعتبارى (انظر مادة "Joseph, St." فى الطبعة الثانية من "The New Catholic Encyclopedia")، ومن ثم فله الحق فى الانتساب إلى النبى داود (وانظر كذلك مادة "Joseph" فى "A Dictionary of Christ and the Gospels": تحرير James Hastings، ونشر T. & T. Clarkبإدنبره عام 1906م، حيث تقرأ ما يلى عن يوسف النجار: "He was of Davidic descent; and, though Mt. and Lk. Differ in the genealogical details, they connect Jesus with Joseph and through him with David (Mt l1ff., Lk323ff.) "). وهذا، كما يلاحظ القارئ، من الغرابة بمكان!
ولكى يقدر القارئ مدى الارتباك بين مفسرى العهد الجديد فيما يخص نسب السيد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام هأنذا أحيله على مادة "سلسلة نسب السيد المسيح" من "دائرة المعارف الكتابية" ليقرأها بنفسه. وها هى ذى كاملة، وكل دورى هو إيرادها كما هى: "يقدم لنا العهد الجديد قائمتين لسلسلة نسب الرب يسوع المسيح حسب الجسد، وكلتاهما تثبتان أن يسوع المسيح جاء حسب الجسد من نسل داود، وهي حقيقة يؤكدها العهد الجديد مرارا (مت 21: 29، مر 10: 17، رو 1: 3). فقد كان يوسف، الأب الشرعى ليســـوع، "من بيت داود وعشيرته" (لو 2: 4). فككل اليهود في عصره، وفي كل تاريخهم كان يوسف يحتفظ بسجلات عائلته، فقد كانت هذه السجلات تُحْفَظ بكل عناية لأهميتها لإثبات انتسابهم لإسرائيل، ولإثبات الحقوق الشرعية في المواريث والزواج والحالة الدينية. فمنذ قرون عديدة، كما في أيام عزرا ونحميا، كانوا يرجعون إلى هذه السجلات للتحقق مما يدعيه الشخص (عز 2: 62، 8: 1، نح 7: 5). وفى حالة "يوسف النجار" كان انتسابه إلى داود أمرا هاما لارتباطــــه بالمســــيا الموعـود (إرميا 23: 5 و6، حز 34: 23).
وتشير كلتا القائمتين إلى أن يوسف كان يعتبر الأب الشرعى، وليس الفعلي، ليسوع. وقد تتبع متى السلسلة من إبراهيم إلى داود إلى يوسف في إحدى وأربعين حلقة. بينما عكس لوقا هذا الترتيب راجعا من يوسف إلى داود ومنه إلى إبراهيم ثم إلى آدم، ذاكرا 77 اسما (مت 1: 1 - 17، لو 3: 23 - 38). وبالمقارنة بين القائمتين نكتشف وجود اختلافات واضحة. وأصعب ما فى الأمر هو أن القائمتين تنتهي إحداهما بيوسف بينما تبدأ الأخرى بيوسف نفسه، ومع ذلك فإن الأسماء من داود إلى يوسف تكاد تختلف كلية فى إحدى القائمتين عنها في الأخرى.
أ- سلسلة النسب فى إنجيل متى: كتب متى إنجيله أساسا لليهود، ولذلك كثر استشهاده بالنبوات. وتبرز في هذه السلسلة بعد الخصائص المميزة، فهى تشتمل على شخصيتين من أهم شخصيات العهد القديم: إبراهيم وداود، ولكليهما صلة وثيقة بعهود الله لشعبه القديم. وقد وضع متى سلسلة نسب يسوع فى مقدمة إنجيله، في مكانة الشرف. وقد قسم القائمة إلى ثلاثة أقسام، كل منها من أربعة عشر جيلا. وفى سبيل ذلك أسقط بعض الأسماء، مثل الكثير من القوائم في العهد القديم
(انظر مثلا 1 أخ 6: 1 - 15، عز 7: 1 - 5)،
ولعله أراد بذلك أن يجعل من السهل أن تحتفظ الذاكرة بالأسماء
دون التضحية بالدقة التاريخية. فقد أسقط أسماء ثلاثة ملوك هم أخزيا ويوآش وأمصيا، بين يورام وعزيا. والأرجح أن ذلك كان لأن أولئك الملوك الثلاثة ارتبطوا بعثليا ابنة أخآب وامرأته الشريرة إيزابل. وكان ذلك عقابا لبيت يورام، تنفيذا لقول الرب: "أفتقد ذنوب الآباء فى الأبناء في الجيل
الرابع من مبغضيَّ" (خر 20: 5). كما أسقط اسم يهوياقيم بن يوشيا،
لأنه كان ملكا شريرا، كما كان ألعوبة في يد فرعون نخو ملك مصر
(2 مل 23: 34 و35 و2 أخ 36: 4).
ولعل متى أراد بذلك التقسيم، إلى ثلاثة أقسام، كل منها من أربعة عشر جيلا، أن يكون من السهل على الذاكرة الاحتفاظ بالأسماء دون التضحية بالدقة التاريخية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ولعله أيضا اختار عدد "أربعة عشر"
لأنه يتفق مع القيمة العددية للحروف التى يتكون منها
اسم "داود" فى العبرية، كما أن العدد 14 هو مضاعف
العدد 7 عدد الكمال. ولكن كل هذه افتراضات ليس
من يستطيع الجزم بها.
المفضلات