

-
ولا بُدَّ لي هنا قبل أن أنكبّ على دراسة هذا الموضوع بصورة مجملة وألمّح إلى هذين الأساسين، أن أشير إلى عامل التقليد، أي الترديد الببغاوي الذي أصبح شيئاً مألوفاً في مجتمعاتنا ولا سيما حين يكون هذا الترديد التقليدي متفقاً مع بعض ما تشرّبت به عقولنا من غير إثبات أو دليل أكيد. فالأغلبية الساحقة التي تهاجم بولس الرسول وتتهمه بأشنع التهم، تعجز أن تقدّم برهاناً واحداً على صدق دعواها، وحتى لو كانت هذه الدعوى صادقة. ولسوء الحظ، عندما تشيع مثل هذه الأراويج في مجتمع ما، وبالأخص، حين يكون مصدرها شخصية معروفة، أو لها مكانة اجتماعية، أو علمية، فإن الألسنة تتناقلها وكأنها آيات منزلات حتى لو كان صاحبها متحيِّزاً يستهدف من إشاعة هذه الأخبار تحقيق أغراض مشوبة بالريبة. ويبدو لي أن مثل هذه المواقف تقوم على التعصُّب الديني وليس على البرهان العقلي والدليل المنطقي. وعندما تصبح هذه الشائعات أو الاتهامات عامة، تتحوّل في مخيلة الجماهير من شائعات واتهامات إلى حقائق ذات قواعد مقررة راسخة. وإذا أراد أي باحث أن يتقصَّى مصدرها الأصيل فإنه، في معظم الأحيان، يكتشف أن مُتَفَقِّهاً ما، أبدى رأياً من غير دعم أو إسناد، فانتشر قوله بين الناس، وغدا الرأي، بحكم الترديد الببغاوي، حقيقة مُسَلّماً بها.
والآن، ما هما الأساسان اللذان قامت عليهما هذه الادعاءات؟
أولاً: الخلاف بين النصّ القرآني والنص الإنجيلي
نحن هنا أمام حقيقة تتميَّز بالحساسية وتقوم على الإيمان على أقلّ تقدير. فالنص القرآني ينكر ألوهية المسيح وصلبه وقيامته في اليوم الثالث، بينما النص الإنجيلي يؤكد على ألوهية المسيح وصلبه وقيامته، بل يجعل من هذه العقائد محور الإيمان المسيحي، والبناء الذي شُيِّدت عليه المسيحية. إن المسيحيين والمسلمين يتفقون على وجود هذا الخلاف، بل إن هذا الخلاف كان وما زال مدار جدل بين الطائفتين منذ نشوء الإسلام في الجزيرة العربية. ويعتمد هذا الجدل على دعامتَي العقيدة والإيمان. غير أن هناك فارقاً هاماً بين الموقفين. وما سأشير إليه في ما يلي لا علاقة له بالتعصب أو التحيز، بل يمليه المنطق، والأدلة التاريخية، والأثرية التي أثبتت الحق الإنجيلي في حين أن النص القرآني قد عمد إلى النفي فحسب. فمن هنا نجد أن النص الإنجيلي يستند إلى الأدلة التاريخية إذ أن مؤلفات أعداء المسيحية من رومانية، ويونانية، ويهودية، وحتى غنوصية قد أشارت إلى قصة الصلب، وإلى قصة القيامة. كما أن الآثار التي تم اكتشافها حديثاً ألمعت إلى الأماكن التي جرت فيها أحداث المحاكمة إن كانت في الهيكل أو خارجه. إن مثل هذه الأدلة لا بُدَّ للمرء أن يتوقف عندها - بل أن يتساءل أيَّ دليل أثبت، أَعِبَارَةُ نفي مجردة من كل برهان، أم تقارير تدعمها الأسانيد والأدلة القاطعة؟ لا شك إن الإيمان المؤيّد بالشواهد والبراهين هو أرسخ في النفس وأكثر إقناعاً من إيمان معلق في الهواء. وفضلاً عن ذلك إننا نجد أن كافة رسل المسيح قد كرزوا بصليب المسيح وقيامته، وجعلوا منهما المحور في خطة خلاص الله للجنس البشري. فالقضية هنا لم تتوقّف على بولس وحده، وعلى أي شخص بمفرده، بل تلك كانت بشارة الكنيسة الأولى للعالم. وأكثر من ذلك، فقد أشار المسيح نفسه، مستشهداً بنبوءات العهد القديم إلى آلامه وصلبه وقيامته، وحدّث بذلك تلاميذه، وأعدهم إعداداً نفسياً، وعقلياً، وعاطفياً لهذا الحدث المنتظر. فالموضوع لم يكن رهناً ببولس الرسول، بل كانت هذه دعوة الكنيسة جمعاء. ومن ثم، فالرسل كلهم الذين كانوا شهود عيان لهذا الحدث الجلل لم يترددوا لحظة عن التبشير به، بل عرّضوا حياتهم للموت والاضطهاد، والسجن، فلم يثنهم ذلك عن المواظبة على إعلان هذا الحق الإلهي. إن تاريخ الكنيسة يخبرنا أن جميع رسل المسيح قد استشهدوا باستثناء يوحنا الحبيب الذي قضى بقية حياته منفياً في جزيرة بطمس. فهل جميع هؤلاء اشتركوا مع بولس في مؤامرته ضد المسيحية؟ هل هذا معقول؟ الواقع إن بعض الرسل، وبوحي من الروح القدس، قد أشاروا في رسائلهم إلى ما كان يكرز به بولس، مؤيدين كلامه، وعلى رأس هؤلاء الرسول بطرس بالذات! فلماذا لم ينكر رسل المسيح على بولس تعاليمه إن كان حقاً متآمراً؟ لقد عاصروه، وعرفوه، واختبروه، واشتركوا معه، واطّلعوا على تعاليمه وأفكاره، فلم يجدوا عليها أي مأخذ، بل إننا إذا قارنا تعاليمهم ورسائلهم بتعاليمه ورسائله لا نجد أي تعارض أو تناقض.
ثانياً: اتهام بولس بالخداع
أما الأساس الثاني الذي بنوا عليه ادّعاءَهم هو أساس وهمي يرفضه العقل. وملخص هذا الادّعاء هو أن بولس بعد أن أخفق في القضاء على المسيحية بالطرق الشرعية، وعلى الرغم من التأييد الشامل الذي حصل عليه من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، والسلطة التي فُوِّضَت إليه كي يقبض على المؤمنين ويجرهم بالأغلال، وجد نفسه عاجزاً عن إبادة هذه الحركة الجديدة، فالمسيحيون يتكاثرون، والدعوة تزداد انتشاراً، والدعاة أضحوا أكثر جرأة، فلا الموت يخيفهم، ولا السجون ترهبهم، ولا الاضطهاد يثني من عزيمتهم، فماذا عساه أن يفعل؟ لا بدّ من طريقة أكثر فعالية تفسد عليهم دينهم، وتحرّف تعاليمهم، وهكذا تظاهر بولس باعتناق المسيحية، واخترع قصة الرؤيا التي ظهرت له في أثناء طريقه إلى دمشق، فاستطاع بذلك أن يتسلل إلى صفوف المسيحيين، ويقنعهم بصدق إيمانه، ومن ثم شرع يعمل بكل مكرٍ ودهاء على تسريب عقائد باطلة إلى الدين المسيحي فنجح بذلك أيَّما نجاح.
هذه هي القصة الوهمية التي أخذ يرددها معارضو العقيدة المسيحية. ولكن ما هي البراهين التي حملتهم على الاقتناع بهذه القصة؟ وما هي التعليلات التي تمسكوا بها؟
الجواب: لا شيء. فكل ما ادّعوه كان من وحي تخيلاتهم التي أخذت تنسج أسطورة وراء أسطورة حول بولس الرسول، وقد اغفلوا جميعاً أن تعاليمه هي نفس تعاليم المسيح والرسل. الشيء الوحيد الذي اختلف فيه بولس عن التلاميذ أنه في زمن حياة المسيح الأرضية لم يكن بولس واحداً منهم، ولكن الحقيقة أن المسيح قد اختار بولس الرسول بطريقة معجزية عجيبة، وأظهر له ذاته ودعاه لكي يكون له تلميذاً. والغريب في الأمر أن هؤلاء الناقدين والمتهجمين على بولس يتقبّلون قصة الوحي الإسلامي واختيار نبيهم لكي يكون خاتمة الأنبياء والرسل من غير وجود شاهد واحد على هذا الحدث، بينما يرفضون قبول ما يقوله الوحي الإنجيلي عن بولس على الرغم من وجود الشهود معه الذين كانوا يرافقونه إلى دمشق. إن التغيير الذي طرأ على حياة بولس لم يكن وليد مؤامرة أو محاولة منه لهدم صرح المسيحية والقضاء عليها بإفسادها، ولم تكن محاولة دينية قام بها بولس ونجح. ولو صحَّ هذا الكلام لكان الله نفسه قد أخفق في المحافظة على وحيه وعلى رسالته التي حملها المسيح إلى العالم كله، ولأضحت مؤامرة بولس أكبر من قدرة الله جل جلاله.
بقي علينا في ختام هذه المقالة أن ننوِّه إلى الموضوع الخطير المتعلق بألوهية المسيح. فالدعوة إلى ألوهية المسيح هي، حسب ما يرتئيه المتهجمون، هي من اختلاق بولس أيضاً، وبذلك حوّل المسيح من مجرّد نبي إلى إله. غير أن المتأمل في سيرة المسيح نفسه، وفي جملة حواره مع تلاميذه وغيرهم من الجماهير التي حاولت أن تكتشف حقيقة المسيح، تؤكد أن المسيح نفسه لم ينكر أنه ابن الله وأنه والله واحدٌ.. فتوما بعد قيامة المسيح ولقائه به يهتف قائلاً: ربي وإلهي. وبطرس أجاب عن سؤال المسيح: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. وعندما سجدوا له - والسجود لله وحده - لم يستنكر المسيح ذلك. والمسيح نفسه أعلن في أكثر من موضع، وبصورة رمزية، أنه الابن الذي في حضن الآب. والحقيقة أن النصوص الإنجيلية بالإضافة إلى تعاليم الرسل على اختلاف شخصياتهم قد شدّدوا على هذه الحقيقة، فهذه العقيدة لم تكن قط من صنع بولس ولا من اختلاقه أو إبداعه، بل إننا نراه يؤكدها لأنها كانت جزءاً لا يتجزأ من تعليم الكنيسة. والمعروف أيضاً أن بولس كان قد اجتمع بالرسل في أورشليم قبل أن يوسِّع تخوم خدمته وعرض عليهم ما كان يبشر به فأقرّوه على تعاليمه وباركوه، وحمَّلوه رسائل إلى الكنائس المتعددة التي أخذت تنتشر في مناطق مختلفة من العالم.
أجل، إن بولس لم يكن متآمراً، بل كان رسولاً مختاراً من الله ليحمل رسالة الإنجيل إلى الأمم كما حملها الرسل أيضاً، وكل ادّعاءٍ آخر هو محض خيال وزعم باطل.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Abou Anass في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 06-09-2018, 05:46 PM
-
بواسطة Abou Anass في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 06-10-2008, 05:04 PM
-
بواسطة dinhodinho في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 23
آخر مشاركة: 16-03-2007, 06:06 PM
-
بواسطة النرجسي في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 29-09-2006, 04:09 PM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى الأبحاث والدراسات المسيحية للداعية السيف البتار
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 25-08-2006, 12:09 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات