حكم المرتد

الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو قتل المرتد عن الإسلام ـ رجلاً أو امرأة ـ مما قد يقال معه: أنه لا يتفق مع ما تقرر من حرية العقيدة الدينية وعدم الجبر على البقاء في عقيدة لا يؤمن بها صاحبها.
ونجيب عن ذلك بالجوابين التاليين:

أولاً: ، أن من الواضح أن قتل المرتد لا يمكن أن يكون عقوبة على الفكر في ذاته وتركه للدين الإسلامي، بدليل أن غير المسلمين من اليهود والمسيحيين الأصليين قد كفل لهم الإسلام حرية العقيدة وحمايتها، من غير إكراه ولا تضييق. ويتعين حينئذ أن يكون هذا القتل عقوبة على الخيانة الكبرى والمكيدة الدينية التي قام بها المرتد حين أدعى الدخول في الإسلام زوراً وبهتاناً ثم أعلن خروجه منه قصداً للإساءة إليه، والطعن فيه، وانضم إلى صفوف أعدائه الماكرين الذين يحاربونه بجميع الوسائل، ومنها الدعاية أو ما اصطلح على تسميته في العصر الحاضر بالحرب النفسية والمعنوية.


وهذا هو ما يقرره القرآن الكريم ويحكيه عن اليهود في صدر الدعوة الإسلامية، إذ كانوا يتخذون من إعلان الدخول في الإسلام، والانضمام ـ نفاقاً ـ إلى صفوفه، ثم المسارعة إلى الخروج منه، وسيلة للكيد والأضرار بالدعوة الإسلامية، ومحاولة لصد الناس عن الأيمان به، ولا خراج المسلمين منه ورجوعهم عنه.

: (وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل أن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (سورة آل عمران/ 72-73).


ويُروى في سبب النزول عن ابن عباس أن عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف، قال بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بها انزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن دينهم فأنزل الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون، وقالت طائفة من أهل الكتاب..) (سورة آل عمران/71-72).

كما يُروى أن بعض أهل الكتاب قالوا: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار واكفروا آخره فأنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم فيها ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.

ثم يُروى أن أحبار قرى عربية ـ وكانوا اثني عشر ـ قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمداً صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا أنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمداً كاذب وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون فيقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟! بل أنهم فعلوا ذلك ولم يقفوا عند القول فقط، فقد روى ابن جرير أن بعض اليهود صلوا مع النبي صلاة الصبح وكفروا آخر النهار، مكراً منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منا الضلالة بعد أن كانوا قد اتبعوا1.

يقول الإمام محمد عبده: هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر، وهي أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه، فقال أبو سفيان: لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لو لا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه، بعد أن دخلوا فيه، وأطلعوا على بواطنه وخوافيه إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب فأن قيل: أن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ولا مكيدة كما كاد هؤلاء فماذا نقول في هؤلاء؟ والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له، لا لاعتقاده أنه حق في نفسه، فأذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فانه يترك ذلك الشيء.

ثم يقول: ويظهر لي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فأنها قد تخدع الضعفاء كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم، وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له.. وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي..."2.


نعم لا يكاد يوجد مسلم حقيقي يرتد عن دينه بعد أن ذاق حلاوته وسمو مبادئه، سواء أكان إسلامه أصلياً أم طارئاً، واستقراء الحوادث قديماً وحديثاً يؤيد ذلك.

ولا تثور قضايا الردة ـ في العصر الحاضر ـ إلا بالنسبة لصورة أخرى من صور الخداع والتحايل، ففي بعض البلاد الإسلامية لوحظ أن بعض الناس يعلنون إسلامهم، لدنيا يصيبونها، أو امرأة يتزوجونها، أو يطلقونها، فيعلن أحدهم الإسلام حتى يطلق زوجته التي لا يسمح له دينه بطلاقها، أو رغبة في الزواج بامرأة لا يسمح لها دينها بالزواج منه مع البقاء على دينه، أو جريا وراء ميراث، حيث يعتبر اختلاف الدين مانعاً من موانعه بين المسلمين وغيرهم"3.

ويجري العمل قضاء على الاعتداء بهذا الإعلان، عملاً بالظاهر، والله وحده هو الذي يتولى السرائر، فقد روي أن أسامة ابن زيد قتل في ميدان الحرب رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله، فقال أسامة: لقد قالها تحت حر السيف، فقال الرسول: هلا شققت عن قلبه؟

وهؤلاء يتخذون الأديان هزواً ولعباً إذ يستمرون على ولائهم لدينهم الأصلي، ثم يعلنون العودة إليه بمجرد تحقيق أغراضهم وشهواتهم، أو يأسهم من تحققها، آمنين من العقاب على هذا العبث والتحايل4.
ثانياً: أن قتل المرتد حينئذ، وهو عدو للدولة الإسلامية التي تستند إلى الرابطة الدينية الإسلامية بين أهلها، وتظل بلوائها أهل الأديان الأخرى الأصليين ـ لا يتعارض مع الحرية الدينية، كما أن المعاقبة على جريمة الخيانة الوطنية لا يتعارض مع الحرية المكفولة للمواطنين بمقتضى الدساتير، ففي الحرية التزام بالنظام العام الذي تقوم عليه الدولة وعدم الخروج عليه5.

والله اعلم