فينص كتاب المشنا أنه قبل الشروع في شريعة البقرة بثماني سنوات يؤتى بنساء ذوات أحمال، ويقمن في أفنية مخصصة لهذا الغرض، فهي مقامة فوق صخور بينها فراغات لكي تكون بمثابة عازل بين أرضية تلك الأفنية وما قد يكون في باطن الأرض من قبور أو رفات، لكي يضمنوا طهارة تلك الأفنية!! وتضع النساء أحمالهن في تلك الأفنية ويقمن بتربية الأبناء فيها حتى يبلغوا ثمانية أعوام، ويقوم هؤلاء الأطفال بجلب الماء الجارِ اللازم لعملية التطهير من نهر (شيلوه)، ولكن لكي يبلغوا هذا النهر يجب ألا تطأ أقدامهم الأرض، خشية أن يتنجسوا لوجود رفات قديم مدفون في باطن الأرض، لذلك يؤتى بثيران توضع عليها ألواح خشبية (لتكون عازلاً) ليجلس عليها الأطفال، ويمسكون في أيديهم كئوسًا مصنوعة من الحجر، وإذا بلغوا النهر، اختلف الحكماء هل ينزلون ويملئون الكئوس؟ أم يدلونها وهم على ظهر الثيران؟. وهكذا تتمادى تشريعات المشنا في الغلو، فواضعو التشريعات يعتقدون أن سير الإنسان على الأرض من الممكن أن ينجسه، لاحتمال وجود رفات قديم في باطن الأرض، وهذا غلو من واضعي المشنا ولم يأت به نص في التوراة.
وقد اكتفينا بهذا القدر من تشريعات البقرة في المشنا، ولم نأت بها كاملة، لكي ننقل للقارئ مقدار ما في نص المشنا من مغالاة، ولكي نمهد القارئ للنتيجة المتوقعة، فقد تسبب حكماء المشنا بتطرفهم وتشددهم وغلوهم في عدم التزام الجمهور بهذه الشرائع وبالتالي توقفت هذه الطقوس قبل ظهور دعوة السيد المسيح عليه السلام وقبل تدمير الهيكل ـ راجع (المشنا، كتاب النساء، باب الجانحة 9/9).
فلا ارتباط بين وجود الهيكل أو غيابه بالتزام اليهود بالشرائع والطقوس،وهذا يفضح أغراض "دعاة إقامة الهيكل" السياسية التي يغفلونها بستار ديني، والدين براء منهم.
وكما ذكرنا في سياق الحديث عن المواصفات التي وضعها حكماء المشنا ويجب توافرها في البقرة الحمراء، لم تتمكن الجماعات الدينية المتطرفة للآن وعلى الرغم من ثورة الاتصالات، وسهولة تبادل الأخبار والمعلومات، وعلى الرغم من التقدم العلمي الهائل في علم الهندسة الوراثية، وعلى الرغم من التمويل السخي الذي ينهال عليهم من جميع أنحاء العالم.
كما رصد البحث، على الرغم من كل هذا لم يتمكنوا من تربية بقرة واحدة بمواصفات "المشنا".
الإشكالية الأولي:
وإذا كان الحال هكذا مع بقرة واحدة، فمن أين سيؤتى بالأعداد الهائلة من الحيوانات والطيور اللازمة للتقديم كقرابين يومية، والتي تخضع هي الأخرى لمواصفات وشروط مثل البقرة الحمراء.
الإشكالية الثانية:
إذا كانت الجماعات الدينية المتطرفة في طريقها إلى إحياء الطقوس والشعائر المرتبطة بالهيكل، والتي من بينها تقديم القرابين، فماذا سيفعلون بالصلاة؟ فموسى عليه السلام كان يتقرب إلى الله بالقرابين، لا بالصلاة، والصلاة في اليهودية من وَضْع الحكماء، اضطروا إليها أثناء السبي البابلي، وتأثروا فيها بالديانة الزرادشتية، وجعلوا كل صلاة من الصلوات بديلاً لقربان من القرابين اليومية وفى ميقاته، لذلك فالتفكير يدور الآن في هذه الأوساط اليهودية لمحاولة الوصول إلى حل يوفق بين وجود الصلاة، التي أصبحت تشكل جزءًا مهمًا في حياة اليهودي، وبين تقديم القرابين، ومازال البحث متواصلاً!! .
المفضلات