في واقع الأمر لا توجد أدنى صلة لموسى عليه السلام بأرض كنعان فقد مات ودُفن في أرض موآب ولم تطأ قدماه أرض كنعان (سفر التثنية 33/49 ـ 50، 34/5 ـ 6) وليس لموسى عليه السلام صلة بهذا الهيكل أو بعقيدة الخلاص التي يؤمن بها اليهود الآن.
ففكرة "الخلاص" أخذها اليهود عن الزرادشتية أثناء السبي في بابل (586 ق.م) حين دفعتهم محنة السبي واليأس الذي انتابهم إلى التفكير في الغيبيات، فأضفوا على فكرة الخلاص
الزرادشتية، وهى فكرة لاهوتية، طابعًا ماديا سياسيا، للخروج من محنتهم، ومع الحوادث الجسام التي تعرض لها اليهود إبان السبي البابلي، وما كان قد سبقه من فساد في ملوك إسرائيل ويهوذا، أصبح حلم الأنبياء والمصلحين والكثرة الكثيرة من اليهود أن يأتي ملك فذ من نوعه، مخلّص، معه القوة والبركة، يعيد الأمجاد السالفة، فيكون هو الملك بحق، وهو "المسيح"، ولا تظهر هذه الفكرة في أسفار التوراة الخمسة، ولكن الباحثين، واليهود منهم بوجه خاص، تأولوا ذلك من خلال جملتين في كل التوراة، مع كثير من التكلف والتعسف، الأولى وردت في (تكوين 49/10):(10لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ.).
والثانية وردت في (العدد 24/17): (17أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ، فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى.).
وهى ليست أقل غموضًا عن سابقتها، ولم يرد فيهما ذكر المسيح أو الخلاص صراحة.
أما الهيكل فقد ارتبط بناؤه بمفهوم "العودة أو الإعادة" الاستعماري، فالملك قورش الفارسي هو الذي أصدر الأمر بإعادة بناء الهيكل (بيت الرب) الذي كان قد دمره نبوخذ نصر الملك البابلي، كما قرر قورش إعادة آنية وأدوات "بيت الرب" التي نهبها نبوخذ نصر من أجل إعادة عبادة الإله "يهوا" وهو المعبود القديم الذي كان يعبد في أورشليم.
كما قرر إعادة سبايا اليهود من بابل إلى أورشليم، ومهما كان الشعب الذي نُقل أو أُعيد إلى فلسطين، فهم بالتأكيد لم يكونوا من بني إسرائيل، ورغم ذلك اعتبرتهم المرويات التوراتية التي ظهرت، كما اعتبروا أنفسهم سكان إسرائيل العائدين "إليها" من منفى مرير بعد أن خلصهم منقذهم الملك قورش(راجع: توماس ل. طومسون: التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ص 289.).
ولقد قوبل هذا الاستيطان الاستعماري الذي زرعه قورش في هذه المنطقة بين سكان وشعوب مستقرة منذ زمن، بمقاومة شديدة، مما دفع "العائدين" إلى التركيز منذ ذلك التاريخ على دور الهيكل في الطقوس والشعائر من أجل تثبيت أقدام هذا الاستيطان الغريب، فاستبدل حكماء "المشنا" الهيكل بخيمة الاجتماع في التوراة، وغالوا في العنت والتشدد، فشريعة البقرة الحمراء التي شغلت إصحاحًا واحدًا في التوراة (العدد/ 19) أفرد لها كتاب المشنا بابًا كاملاً يتكون من اثني عشر فصلاً ويتضمن خمسًا وتسعين تشريعًا وتشددوا في كل طقوسها.
ونظرًا لارتباط الاستيطان اليهودي في فلسطين، في العصر الحديث، بالمخططات الاستعمارية أيضاً، لذلك نراه يستخدم مفهوم "العودة" أو الإعادة، فالمهاجر إلى فلسطين هو "عائد إلى أرض الآباء" وإقامة الهيكل هي "إعادة بناء بيت الرب" أو "إعادة المقداش" أي إعادة المكان الذي تسكن فيه القداسة.
لذلك فليس غريبًا أن تلتزم الجماعات الدينية المتطرفة في إسرائيل، في إحياء الطقوس والشعائر، بالتشريعات التي وضعها حكماء "المشنا" لتثبيت الاستيطان، على الرغم مما تتسم به من عنت وتشدد، فالبقرة يجب أن يتراوح عمرها من ثلاث إلى أربع سنوات، ويجب ألا يكون بها لون يخالف لونها الأحمر الداكن، فإذا ظهرت شعرتان بيض أو سود في بصيلة واحدة تعد البقرة غير صالحة وهذا هو ما حدث في "كفار حسيديم" في مارس 1997م .
فقد ولدت بقرة حمراء من تلقيح صناعي تم أخذه من ثور أمريكي أحمر ووُضع في رحم بقرة إسرائيلية ولكن بعد عدة أشهر ظهر في ذيلها شعرتان بيضاوان، وبالتالي فلا تصلح لإقامة الفريضة، وغيرها من المحاولات، التي تكلفت مبالغ طائلة.. ولكنها جميعًا باءت بالفشل).
وقرر كتاب "المشنا" ألا تكون تلك البقرة الحمراء قد جاءت إلى الحياة عن طريق شق بطن البقرة الأم، أي بولادة غير طبيعية، ويجب ألا يكون قد ركب عليها أحد، أو استند إليها، أو تعلق بذيلها ليعبر نهرًا، أو لفّ الحبل ووضعه فوق ظهرها، أو وضع وشاح الصلاة الخاص به فوق ظهرها. ويجب ألا تكون عشارًا.
كما فرض كتاب المشنا على الكاهن الأكبر أن يعتزل بيته قبل حرق البقرة بسبعة أيام، وهذا ما لم تنص عليه التوراة، وإنما من تأويل الحكماء، وألزم الكاهن أن يقيم طوال هذه الأيام في حجرة إلى الشمال الشرقي من الهيكل، وكلها مصنوعة من الحجر بما فيها من أدوات وأواني لأنه لا يتنجس. ويجب أن ينثر على الكاهن طيلة تلك الأيام السبعة من ماء التطهير المخلوط بتراب بقر قديم.
ويبلغ كتاب المشنا ذروة الغلو والتزمت عندما يحدد مَنْ الذي سيأتي بالماء الجارِ الذي سيخلط بتراب البقرة؟ ومن أين سيأتي به؟ وكيف؟ ..