مناقب المنصور بن أبى عامر :


اهتم المنصور بن أبى عامر بالأوجه الحضارية كذلك فابتنى مدينة "الزاهرة" على غرار "الزهراء" ونقل اليها كل دوواين الحكم وجعلها عاصمة لملكه وفرغ من بناءها عام 370هـ وكانت آية فى البناء الجمال وجلب اليها المنصور بن أبى عامر غلمانه وحاشيته ووزراءه , ففرغت "الزهراء" منهم وملئت الزاهرة وكثر فيها الأسواق والقصور وامتازت بحسن حدائقها وجمال عمرانها واعتدال هواءها وفيها يقول صاعد اللغوىّ :



يا أيهـا الملكُ المنصـورُ من يمنٍ *** والمُبتنى نسبـاً غـير الذى انتسبا
بغزوة فى قلـوب الشـرك رائعة *** بين المنـايا تُناغى السُّمر والقُضُبَا
أما ترى العين تجرى فوق مرْمَرِها *** هوىً فتجرى على أخفاقها الطربا
أجريتها فطـما الـزاهى بَجرْيتها *** كمـا طمــوتَ فَسـُدْتَ العُـجْمَ والـعَرَبَا
تخــالُ فـيه جـنـودَ المــاءِ رافلــةً *** مستلئمـات تُـريـك الــدرع والـيَلَبـَا
تَـحِفـُّهـا مـن فنــونِ الأيْكِ زاهـرةً *** قــد أوْرَقـَتْ فضـة إذْ أَوْرَقَـت ذَهَـبا
بديعـــة المـلك مـا ينفكُّ نـاظـرها *** يتلـو على السمـعِ منها آيــة عَـجَبَا
ولا يُحْســن الــدَّهْرُ أن يُـنشي لـها مَثَلا *** ولـو تعنّت فـيها نفســه طَلَبـَـا



وأصحبت الزاهرة هى حاضرة الأندلس ونافست قرطبة فى جمالها وروعة بنيانها واتسعت وزادت مساحتها حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة , وبنى المنصور بمنطقة فيها مجموعة من قصوره وسماها (مُنية العامرية) وكانت بها أروع قصور المنصور وأحظى بيوته , دخل عليه يوما ابن أبى الحُباب فى بعض قصوره بمنية العامرية والورد قد تفتحت أوراقه وزاد جمال القصر وبهجته والشمس ساطعة تعكس أنوارها المياه الجارية بالقصر فكان المنظر بحق بديع , فقال فى ذلك :


لا يـوم كاليـوم فـى أيامــك الأُولِ *** بـالعامــرية ذات المـاء والظُـللِ
هـواؤها فى جميع الدهر معتدلٌ *** طيـبا وإن حــل فصلٌ غيـرُ معـتدلِ
ما إن يُبالى الذى يحتل ساحتها *** بالسعد أن لا تحلّ الشمسُ بالحملِ


كما أن المنصور بن أبى عامر جدد بناء قنطرة قرطبة التى تعد من عجائب الدنيا فى ذلك الزمن وأعاد بنائها سنة 378هـ واستغرق بناؤها سنة ونصف وأنفق لذلك مائة وأربعين ألف دينار !!!
وبنى كذلك قنطرة آستجة على نهر شنيل وكلفت كثير من الجهد والوقت لكنها سهلت الكثير على المسلمين , ولهجت العامة بالدعاء للمنصور بن أبى عامر – رحمه الله



قنطرة قرطبة فى أسبانيا التى جددها المنصور بن أبى عامر



ومن أعظم مناقبه كذلك وهى الزيادة والتوسعة التى وسعها فى جامع قرطبة العظيم الذى لم يبنى مثله فى الإسلام !! , فأضاف اليه مثل مساحته تقريبا , وكان يرسل أسرى النصارى للعمل فى البناء , وكان المنصور يشترك بنفسه أحيانا فى أعمال البناء , وكانت تلك هى أضخم وآخر التوسعات التى تمت لجامع قرطبة , فشرع فى البناء عام 387هـ واشترى المنصور البيوت والأملاك الواقعة ضمن منطقة التوسعة وحرص على إنصاف أصحابها , وتضاعف حجم الجامع جدا , وبلغ عدد سوارى المسجد ما بين كبيرة وصغيرة الى ألف وأربعمائة وسبعة عشرة 1417 سارية – عمود - , وبلغت كذلك عدد الثريات مابين كبيرة وصغيرة الى مائتان وثمانون 280 , وعدد الكؤوس سبعة آلاف وأربعمائة وخمس وعشرون كأسا 7425 , وكان يخدم الجامع من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسَدَنة ومُوقدين – يوقدوا الشموع والمصابيح للإنارة – وغيرهم أكثر من مائة وتسعة وخمسون 159 شخصاً , وفى رمضان يُوقد العود والطيب فى جميع أنحاء الجامع ......

ومن أهم مناقب المنصور هو عمله على إذلال الممالك النصرانية فى الشمال والعمل على تأديبهم المستمر حتى لا يفكروا إلا فى طلب ود وجوار المسلمين , ومن أجل ذلك أرسل ملك قشتالة "شانجة" ابنته جارية عند المنصور فى قرطبة لينال رضاه !!


وعندما جاء الى قرطبة بعد هزيمته مع المسلمين , وأثناء مروره بين صفوف العسكر والجند وأهل الخدمة انخلع قلبه من الرهبة والهيبة حتى ارتعدت فرائصه , ودخل مجلس المنصور فما إن وقعت عينه على المنصور بن أبى عامر حتى هوى على الأرض من فرط هيبيته وقبّل قدم المنصور ويده !!!


أى عزة هذه بالله عليكم !!!


اللهم أعد لنا عزتنا واكتب لنا النصر والتمكين !!


وللمنصور مناقب أخرى كثيرة ولو أخذت بحصرها ما انتهيت منها وأكتفى بما ذكرته ....

قطوف من أخبار المنصور ومآثره :-


الراية المنسية :


كان كلما غزا المنصور غزوة أخذو جنوده الرايات فيثبتونها على الأماكن العالية ثم يأخذونها حين يرحلون , وفى أحد الغزوات نسى أحد الجنود راية على أعلى التبة بين الحصون والقلاع بعدما فر أهلها وهرب جنود النصارى بين الشعاب والجبال , ورحل المسلمين ونسوا تلك الراية , فظل النصارى يرمقون تلك الراية فى رعب شديد وهم يظنون أن المسلمين مازالوا هناك ,وظلوا على ذلك زمن حتى علموا برجوع المسلمين منذ زمن !!


هكذا كانت العزة ..... راية واحدة منسية أرعبت جنود النصارى وعاشوا من أجلها فى ذعر ورعب وهلع !!


هذا طليق الله على رغم أنف ابن ابى عامر :

عُرض على المنصور بن أبى عامر يوما اسم أحد خدّامه ممن قد طال سجنه , وكان شديد الحقد عليه . فوقّع على اسمه أنه لا سبيل الى إطلاقه ابداً ويظل فى السجن الى أن يتوفاه الله , وعرف هذا الخادم ما وقّع عليه المنصور بن أبى عامر , فاغتم لذلك غما شديدا وأخذ يتوسل الى الله ويتضرع اليه , فجاء المنصور بن أبى عامر الأرق ولم يستطع النوم من أجل ذلك , وكان كلما حاول النوم آتاه رجل كريه الوجه عنيف الكلام يأمره أن بإطلاق الرجل ويتوعده , وظل المنصور على ذلك زمن لا يستطيع أن ينام بسبب ما يأته فى منامه , حتى علم المنصور أن هذا نذير من ربه فأخذ رقعة ودعا بالدواة فى مرقده وعلى فراشه فكتب : هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبى عامر ..!!!



وظل الناس يتحدثون بهذا زمانا ....



الأسيرة :


أرسل المنصور يوما رسولا الى بلاد البشكنش "اقليم الباسك حاليا" فى وقت السلم والمعاهدة , وكان من شروط المعاهدة أن لا يبقى أسير مسلم فى بلاد النصارى , عندما وفد هذا الرسول الى تلك البلاد استقبله ملكها أحسن استقبال وأكرمه وأحسن ضيافته , وسمح له أن يتجول فى بلده كما يحب , فدخل أحد أكبر كنائسهم وإذا هو بالداخل إذ وجد امرأة قد أقبلت عليه وقالت له : أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بؤسها !! , وأخبرته أنها أسيرة فى تلك الكنيسه ومعها امرأتين من المسلمين كذلك ومضى لهن سنين طويلة فى تلك الكنيسة , واستحلفته أن يخبر المنصور بشأنها ..



وعاد الرسول الى المنصور فى قرطبة يخبره بنتائج الزيارة وحكى له عن تجواله فى أراضى المملكة , فقال له المنصور : هل وقفت هناك على أمر أنكرته , أم لم تقف على غير ما ذكرته ؟ , فأخبره بقصة المرأة , فغضب المنصور وعاتبه ولامه وارتفع صوته على أنه لم يبدأ بها كلامه !!
فأصبح المنصور غازيا من فوره وجهز الجيوش ولم تطلع الشمس إلا والمنصور والمسلمين على ظهور خيولهم متوجهين الى بلاد البشكنش , لأن وجود تلك المرأة المسلمة الأسيرة مخالفة صريحة جدا لما اتفقوا عليه ...



وأقسم المنصور أنه لا يرجع عن أرضه حتى يكتسحها – اى الكنيسة – وجن جنون الملك عندما علم بقدوم المنصور بن أبى عامر وأرسل له يخبره أنه لم ينقض عهدا ولم يشق عصا الطاعة أنه على طاعة المنصور والمسلمين ابدا , فاستقبل المنصور رسل "ابن شانجة" – ملك البشكنش – أسأ استقبال وعنفهم وأخبرهم : أنه عاقدنى على ألا يبقى ببلاده مأسورة أو مأسور , وقد بلغنى بعدُ بقاء فلانة المسلمة فى تلك الكنيسة وواله لا أنتهى عن أرضه حتى أكتسحها !!



فأرسل الملك يخبره أنه كان لا يدرى بوجود تلك الأسيرة وأن أحد قواده هو من قام بأسرها , ثم أرسل له الملك يسترضيه ويستعطفه حتى أنه أخبره : أنه قد بالغ فى هدم الكنيسة – اى سواها بالتراب – وهنا توقف المنصور وأخذ المرأة وجلس معها وطيب خاطرها وأرسلها الى أهلها فى قرطبة ومعها الأسيرتيْن ......



وكأنى بهؤلاء النسوة الثلاث كدن أن يهلكن من شدة الفخر والسعادة والإباء , عندما شعروا بأن جيش المسلمين كله قد خرج من أجلهن وفى سبيل نصرتهن !!!



أين أنت ايها الحاجب المنصور الآن ...




لقد طابت لنا العيشة هنا :


ذكرها د/طارق السويدان فى كتابه "الأندلس التاريخ المصور"


فى إحدى غزوات المنصور لبلاد البشكنش دخل فيها فى أعماق بلادهم وتوغل فى أرضهم حتى صار وراء الجبال , فأخذ النصارى يسدون طريق العودة أمام المنصور وجيشه كمنوا له بين جبلين كان سيمر بينهما المنصور وجنوده , ومن أصعب أنواع القتال هو القتال فى ممر ضيق جدا , فماذا فعل المنصور !!

لم يقاتل ولم يقتحم الممر , بل اختار مدينة قريبة من ذلك المكان , فنزلها ووزع جنوده فى أرجائها , يعملون ويحرثون ويبيعون ويشترون ويقوم بكل متطلبات الحياة فيها , وبعث الحاجب المنصور الجند بالسرايا يمينا وشمالا يقتلون ويأسرون ويغنمون , حتى ضج القوط النصارى من غاراتهم , وأرسلوا اليه ان اعبر المضيق أنت وجنودك , إلا أن المنصور رفض قائلاً : لقد طابت لنا المعيشة هنا وإن هذه البلاد جميلة يطيب سكناها وسأبقى الى السنة القادمة لأغزو فى الصيف القادم إن شاء الله !!



وكان جنده يأتون بقتلى النصارى منهم ومن القرى فى السرايا والغارات ويلقونها أمام الوادى حتى ضج سكان المنطقة الى الذين هم فى الوادى ان دعوه يعبر , فأرسلوا اليه ثانية بذلك الى الحاجب المنصور الذى قبل أن يمر عبر المضيق برجاله بشرطين :



1- أن يحمل النصارى ما معه من الغنائم والأسلاب على دوابهم أمامه !!
2- وان يقوموا هم بإزالة الجثث التى ألقاها على الطريق بفم الوادى


الملك لا ينام اذا نامت الرعية :

كان المنصور بن أبى عامر كثير السهر جدا حتى أن أحد خدمه اسمه "شعلة" قال له فى ليلة : قد أفرط مولانا فى السهر , وبدنه يحتاج الى أكثر من هذا النوم , وهو أعلم بما يحركه عدم النوم من علّة العصب , فقال المنصور :



يا شعلة , الملك لا ينام اذا نامت الرعية , ولو استوفيت نومى لما كان فى دور – بيوت – هذا البلد العظيم عين نائمة ....



هكذا كان حرصه على دولة المسلمين واهتمامه بشؤونها !!



ومآثر المنصور لا تحصى ومناقبه وأخباره كثيرة ولكن حتى لا أطيل أكتفى بذكر ما سبق ...



[SIZE="5"]وفاة المنصور بن أبى عامر :-



أما آن هذا الجسد أن يستريح !![/
SIZE]



حكم المنصور بن أبى عامر الأندلس زهاء 27 سنة , وغزا أكثر من 54 غزة لم يهزم فى واحدة قط !! , كانت كلها عز للإسلام والمسلمين حتى قال عنه ابن الخطيب فى كتابه "اعمال الاعلام " :



( وعلى الجملة , فكان نسيج وحده فى صقعه , وقلّ أن يسمع بمثله فى غيره ... )



انصرف المنصور بن ابى عامر الى الغزو عام 392هـ (1002م) فسلم وغنم كعادته وكان عمره وقتها ناهز 65 عاماً , ووجد فى نفسه خفة وعلم بدنو الأجل , فأحضر جماعة بين يديه وهو كالخيال لا يبين الكلام وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع , وأوصى ألا يحمل فى تابوت , وأمر أن يدفن مكان موته وكان وقتها فى مدينة الثغر المنيع "مدينة سالم" فأمر أن يدفن رحمه الله فى صحن قصره بمدينة سالم وأمر أن يدفن معه غبار المعارك حتى تشهد له أمام الله بجهاده , وأمر أن يكفن بتلك الأكفات التى كان يحملها معه دائما فى المعارك وهى أكفان صنعت من غزل بناته واشتريت من خالص ماله الموروث .......



وفى ليلة الاثنين 27 رمضان من عام 392هـ / 11 أغسطس 1002م فاضت روح المنصور محمد بن أبى عامر الى بارئها ....



ونقشت على قبر المنصور محمد بن أبى عامر تلك الأبيات :




آثـــاره تنبيــك عــن أخبــاره **حتـى كأنـك بالعيـان تـراهُ
تالله لا يأتي الزمان بمثله **أبدًا ولا يحمي الثغور سواهُ





وظل قبر المنصور بن أبى عامر معروفا فى مدينة سالم حتى بعد أخذ النصارى تلك المدينة واحتلوها , وقد أوصى لسان الدين ابن الخطيب احد طلابه حين كان ذاهبا الى هناك لتأكيد عقد الصلح مع ملكها أن يزور قبر المنصور بن أبى عامر , وأخبره الطالب عند عودته أنه رأى قبر المنصور إلا أن رسومه من شعر منقوش وتاريخ مثبوت قد عفت ومحيت آثارها وكان هذا ما بين عامى 1361 – 1370م



وظلت سيرة المنصور بن أبى عامر مصدر عز وفخر ومجد للمسلمين حتى بعد هزيمتهم وأيام ملوك الطوائف , حتى أن مولى المستعين بالله ابن هود (دويلة بنى هود ) يقول :



لما توجهت الى ألفونسو وجدته فى مدينة سالم وقد نصب على قبر المنصور بن أبى عامر سريره , وامرأته متكئة الى جانبه , فقال لى : ياشجاع – اسم المولى – اما ترانى قد ملكت بلاد المسلمين وجلست على قبر مليكهم ؟ قال : فحملتنى الغيرة أن قلت له : لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه ! ولا استقر بك قرار ... , فهمّ بى , فحالت امرأته بينى وبينه , وقالت : صدقك فيما قال , أيفخر مثلك بمثل هذا ؟

تم بحمد الله ..... أسألكم الدعاء


منقووووول