ختمنا اللقاء السابق بالجملة الهامة التالية:

والحقيقة الجلية أنّ تكذيب القرآن لصلب عيسى كان من شأنه أن يصنع أعداءً لرسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يمكن أن يصنع له أصدقاء.
وهذا دليلٌ حاسم في أنّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مُبلّغا عن ربّه ليس إلا، لا يرجو مصلحة خاصّة من ذلك.

ونعود لاستكمال الموضوع بإذن الله تعالى

معالجة القرآن الكريم لمسألة الصلب

من الأشياء التي تشدّ انتباه المحقّقين في مثل هذه المسائل، نجد أنّ ما تعتبره الكنيسة جوهر العقيدة والذي أطنب في تفسيره سبع وعشرون سفرا في الإنجيل لم يَرُدّه القرآن الكريم إلا بآية وحيدة في سورة النساء 157.

ما هي الدروس المستخلصة؟

ـ أمّية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وهذا هو الدرس الأوّل .

ليس من منطق البشر إذا أرادوا تفنيد شيء أن يكتفوا بالقول:" هذه القضية لم تحدث"، بل عليهم أن يأتوا بالبيّنات والدلائل على صدق ما يدّعون.

ولو سألنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دليلك على أنّ عيسى لم يُقتل ولم يُصلب فسيقول أخبرني العليم الخبير. ونِعمَ بالله، فلا علم ولا تاريخ ولا منطق يعلو فوق كلام الله تعالى.

ـ عدالة القرآن: وهو الدرس الثاني.

والمسلم لمّا يستند إلى القرآن الكريم في تفنيد صلب المسيح عيسى عليه السلام سيُواجه من قِبَلِ المسيحي بنصوص إنجيلية تثبت العكس.

وأمام هذه المعضلة سيحاول المتجادلان البحث عن مصدر مستقلٍّ يحتكمان إليه، لكن لا توجد وثائق تاريخية ذكرت أو حتّى أشارت إلى اسم يسوع عليه السلام، ولمفاجئة الجميع سنرى أنّ الأناجيل التي بين يدينا هي التي تفنّد صلبه.

وبهذا تتحقّق عدالة القرآن الكريم في إقامة الحجّة على المنكرين من كتُبهم التي يطمئنون إليها.

ولن يجد المسيحي خيرا له من نصوصه المقدّسة في علاج هذه المسألة، وهذا أسلوبٌ ربّاني، فقد احتجّ الله تعالى على اليهود بتوراتهم.

قال تعالى: [ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقي] وقد قال تعالى:[ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن].

فلا شيء أحسن ولا أمضى حجّة من نصوص الكتاب المقدّس عند محاورة إخواننا أهل الكتاب.

ـ معجزة القرآن:

من تصفّح ردود المسلمين في مسألة الصلب يتّضحُ جليا أنّ المسألة تتجاوزُهم، فلم يفهموا لماذا رفض القرآن الكريم صلب عيسى عليه السلام ولا أتوا بشيء جديدٍ يدعم إيمانهم..

ماذا يستهدف القرآن الكريم بنكرانه صلب المسيح

أنّ القرآن الكريم يستهدف التالي:

• عيسى عليه السلام ليس ملعونا بل نبيا مُباركا، وهذا ردّ على اليهود.

• نفي عقيدة الخلاص وإقرار أن كلّ أمريء بما كسب رهين، وهذا ردّ على النصّارى.

• نفي عقيدة التجسّد القائلة ببنوة عيسى لله تعالى .

• نفي نسخ عيسى عليه السلام لشريعة التوراة.

• نفي أنّ الإنجيل هو العهد الجديد، بل هو آخر أسفار العهد القديم.

• أنّ عيسى لم يؤسّس مملكة الله ، بل بشّر بها فقط.

• عيسى عليه السلام ليس هو خاتم الأنبياء.

• إثبات أنّ الإنجيل عبثت به أيدي الضّالين.

كلّ هذه الأفكار التي عدّدناها تفسّرها حادثة الصلب، فإذا انهارت عقيدة الصلب ستنهار كلّ هذه الأفكار تباعا لها.

السياق السياسي و الدّيني الاجتماعي زمن عيسى عليه السلام

لفهم المسألة فهما جيّدا فعلى القارئ أن يستحضر جملة من القضايا السيّاسية الإدارية والدّينية والحالة النفسية لشعب إسرائيل التي شكّلت مضمار المعترك الذي عاش فيه النبي عيسى عليه السلام مع شعبه.

1ـ كانت فلسطين آنذاك مستعمرة رومانية مقسمة إلى ولايتين:

ولاية الجليل في الشمال تحت حكم هيرودس أونتيباس.. وولاية اليهودية في الجنوب و يحكمها بيلاطس البنطي وعاصمتها أورشليم.

وقد كانت السلطة الرومانية قد اتّفقت مع اليهود إثر أزمة ثورة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد على أن تحترم معتقداتهم الدينية وأعيادهم وختانهم وسبوتهم وأن يُنصّبوا كاهنا عليهم ممن يرضونه في مقابل ألا يطلبوا الاستقلال وألا يُجنّدوا في الجيش الروماني وأن يدفعوا الضريبة لقيصر وألا ينفذّوا وحدهم قرارات كبيرة من شأنها المساس بالأمن والاستقرار كتنفيذ حكم الإعدام مثلا.

2ـ الحالة النفسية لشعب إسرائيل: كان شعب إسرائيل يعتقد أنّه شعب الله المختار. لكن الواقع يكذّب المعتقد، فقد كان يعيش تحت السلطات الوثنية منذ 600 سنة، وكانوا يسمّون الأمم بالكلاب و الخنازير. فكان الشعب يغتلي شوقا لوعد الله بأن يرسل إليهم المسيح المخلّص الذي يبيد الظالمين ويردّ لهم سلطانهم ومجدهم المسلوب.

لقب المسيح و معناه في الثقافة الإسرائيلية: تنبّأ أنبياء إسرائيل منذ إبراهيم عليه السلام على أنّ الله تعالى وعد شعبه بأن يرسل إليه المسيح.والمسيح لشدّة قربه ومكانته عند الله تلقّبه الأسفار المقدّسة " ابن الله" مجازا. ومن معانيه السياسية المَلِك.

جاء في متى 1 :16 ( 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ ).

ومن المعلوم أنه يطلق اسم المسيح على كل حاكم يهودي، صالحاً كان أو فاجراً.
ورد في مزمور 18 :50 (50بُرْجُ خَلاَصٍ لِمَلِكِهِ، وَالصَّانِعُ رَحْمَةً لِمَسِيحِهِ، لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ.).

وأطلق مزمور 132 :10 لفظة المسيح على داود، وهو من الأنبياء والملوك الصالحين. وورد في 1صموئيل 24 :6 قول داود في حق شاول: » 6فَقَالَ لِرِجَالِهِ:
«حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هذَا الأَمْرَ بِسَيِّدِي، بِمَسِيحِ الرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ، لأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ». « وكذلك ورد في 1صموئيل 24 :10 وفي 1صموئيل 26 وفي 2صموئيل 1 :14.

وأُطلقت كلمة »مسيح« في إشعياء 45 :1 على الملوك والوثنيين »1هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ: 2«أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ وَالْهِضَابَ أُمَهِّدُ. أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ، وَمَغَالِيقَ الْحَدِيدِ أَقْصِفُ. ).

جاء عيسى عليه السلام وكان اسمه المسيح( وهذا مجرد اسم ولم يكن عيسى عليه السلام لا أوّل ولا آخر من تسمّى به).

وكان عليه السلام وُلد من غير أب وهذا من شأنه أن يترك التباسا يسهل استغلاله من طرف خصومه. فسهل جدّا أن يُلفق ضدّه أنّه يدّعي أنّه ابن الله بالمعنى الحقيقي.

4ـ الصدام بين تعاليم عيسى عليه السلام و كبرياء إسرائيل:

أول شيء رفض عيسى عليه السلام هو الثورة ضد روما وقال قولته الشهيرة:" أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله " ويعنى أنّه على إسرائيل الصبر فوقت الخلاص لم يحن بعد.

ثانيا: "قال سيؤخذ منكم ملكوت الله ويُعطى لشعب آخر" ويعني هذا أنّ الله قرّر ألا يكون إسرائيل شعبه بعد اليوم.

ثالثا: وصف السلطات الدينية بالمنافقين والمرائين والجشعين واليهود ككل بسلالة الأفاعي قتلة الأنبياء.

لكن هذا العدّو الجديد لإسرائيل ما فتئت تزداد شعبيته يوما بعد يوم لأنّه يحيي الموتى ويبرأ الأكمه والأبرص ويقيم المفلوجين والمقعدين ويطرد الأرواح الشريرة ويسكت الرياح ويٌكثّر الطعام.

فما السبيل إلى التخلّص منه ومن بدعته ؟ كان أمام اليهود خياران:

والحديث موصول إن شاء الله تعالى