الفصل الخامس
إعادة التركيب



















بعد هذا التحليل , وبعد الوقوف أمام العناصر بأشكالها المختلفة ؛ من كلمات وجمل , وتراكيب , وصور , وعلاقة كل ذلك بالغرض العام , والسياق الكلي , والجزئي , وبعد رؤية النص من خلال السورة , وموقعه , وعلاقاته المتشابكة , ونغماته , وربط كل ذلك بغرض الآية الكلي .....
بعد كل هذا يبقى إعادة جمع هذه العناصر من منظور آخر ؛ ليكتمل المنهج الكلي .
وذلك بالنظر إلى الأسلوب الذي بنيت عليه هذه الآية : أعني الأسلوب الأعلى , والأكثر شيوعاً , والذي هو عمود الآية ومحورها , ثم النظر إلى علاقات الأساليب الأخرى به , وكيف
انعطفت عليه انعطاف الفرع على الأصل , وكيف دارت في فلكه , وتجمعت حوله ؟
والذي لا يخفى بعد التحليل أن الأسلوب المهيمن على الآية هو :
[ الأمر بالكتابة ] .
فهو عمود الآية , وقطب رحاها , ومحور بنيانها ؛ فإنك تلحظه صريحاً ومفهوماً .
فهو مثلاً صريح في نحو :
• إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه .
• وليكتب بينكم كاتب بالعدل .
• ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله .
• فليكتب .
• ولا تسأموا أن تكتبوه .
• فليس عليكم جناح ألا تكتبوها .

وهو مفهوم في نحو :
• وليملل الذي عليه الحق ؛ لأن الإملال للكتابة .
• واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ أي : على المكتوب .
• ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ؛ أي : إلى توثيق الكتابة ...... وغير ذلك كثير .
أما الأساليب وعلاقاتها بأسلوب الأمر بالكتابة فتتضح فيما يلي :
1 – بين النداء والأمر : " يا أيها الذين آمنوا ..... فاكتبوه ... "
فعلاقة الأمر بالنداء جد وثيقة ؛ إذ إن الأمر بعد النداء من مظاهر العظمة , كما قال الإمام في آية : " ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) (هود:44)
يقول : [ ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت . ] ( 181 ).
ذلك لأن النداء توطئة للأمر , وفتح للعقول , حتى تستقبله استقبال المتوثب للامتثال , فهو في الأصل تنبيه .
2 – بين الشرط والأمر :
وكلاهما قيد ولكن الملاحظ أن أسلوب الشرط في الآية قد اقترن بأسلوب الأمر في أكثر من موضع
نحو : " إذا تداينتم ... فاكتبوه ." ونحو : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاًً ... فليملل . "
ونحو : " وأشهدوا إذا تبايعتم " .
وكأن هناك صلة رحم بين كل منهما , وامتزاج ؛ مما أباح تقديم كل منهما على الآخر , مع أن الأصل تقدم الشرط .
3 – بين الأسلوب الخبري والأمر :
تكاد تكون أساليب الخبر في الآية استرواحاً بعد الأوامر , أو استنهاضاً للهمم , لِتُواصل سماع التكاليف من جديد , بعد الأوامر في : " واستشهدوا ... "
والأمر المفهوم من النهي في : " ولا تسأموا أن تكتبوه .. " حيث قيل :
" ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ... "
فكأن الإخبار بذلك لقبول الأمر أيضاً .
4 – بين الأمر والنهي :
إن أسلوب النهي هو الوجه الآخر لأسلوب الأمر – غالباً - ؛ فالنهي عن شيء أمرٌ بضده , أو العكس في الغالب ؛ فقوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله .. " نهيٌ أريد به الأمر ؛ أي : فليكتب كما علمه الله .
والنهي في قوله : " ولا يبخس منه شيئاً " : أمرٌ بالوفاء , كانه قيل له : لتكتبه كاملاً .
والنهي في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا .. " أمرٌ بتلبية الدعوة ؛ كأنه قيل : وليلبِّ الشهداء الدعوة .
والنهي في قوله : " ولا يضارّ كاتب ولا شهيد .. " : أمرٌ بضده , والمعنى : أحسنوا إلى الكاتب والشهيد ... وهكذا .
ومن هنا تتبين علاقة الأساليب بأسلوب الأمر , وأنها تتصل به من خلال السياق اتصالاً وثيقاً؛ لتكوّن في الختام منظومةً واحدة دافعة إلى اتجاه واحد وهو حفظ الحقوق , وإغلاق أبواب الشقاق قبل أن تفتح ....