

-
وجه اصطفاء النفي بـ" ليس" في قوله تعالى :
( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا )
جاء في القرآن الكريم النفي بـ" لا " والنفي بـ " ليس " فما الفرق ؟
لقد جاء النفي ب " ليس " تسع مرات في حين ورد النفي ب " لا " ست عشرة مرة .
وأول ما يُلحظ من خلال سياقات الآيات أن النفي بـ " لا " كائن في الأمور التكليفية ؛ التي يظن فيها المكلف أن عليه جناحاً إذا فعلها ؛ مثل قوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة:158) .
كما أنه كائن أيضاً في نفي الجناح المفيد للإباحة في مقابل الحظر , فكل ما يصدق عليه أنه جناح يكون منفياً ؛وذلك نحو : " ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ (الأحزاب:51) .
ونحو : " ( لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ.. ) (الأحزاب:55) .
هذا بالإضافة إلى أن النفي ب " لا " للجناح كائن في الغالب في الأمور التكليفية شديدة الحكم ؛ أي التي يكون الحكم فيها واجباً في مقابل محرَّم ؛ كما في إقامة حدود الله تعالى , أو ركن في مقابل باطل , كما في السعي بين الصفا والمروة , أو مباح في مقابل محرم ؛ كما في التعريض بخطبة النساء .
النفي بـ" ليس " :
أما النفي بـ " ليس" : فهو كائن فيما ليس بذنب أصلاً , وعليه فإن نفي الجناح عنه لكمال التنزيه ؛ نحو:(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)(الأحزاب:5
والخطأ معفوُّ عنه في الأصل كما أنه كائن فيما لم يرد في مقابله نفي يُنهى عنه غالباً .
هذا بالإضافة إلى أن " ليس " تنفي الوحدة , ولا تنفي الجنس مثل " لا " , ومن ثم فهي أضعف في النفي منها , وعليه يمكن فهم أن الجناح في قوله " فليس عليكم جناح ألا تكتبوها " غير مقصور , أو غير متأكد في نفوسهم ؛ لذلك جاء نفيه بـ " ليس " دون " لا " .
وعند عرض الأسلوبين لبيان الفرق بينهما من خلال السياقات المتنوعة تبين أن جملة :
" لا جناح عليكم " تأتي في سياق الأحكام والفرائض .
أما قوله : " وليس عليكم جناح " فإنها تأتي في سياق المباحات , وما يستحسن من الأمور .
فمن الأولى كتابة التجارة الحاضرة الدائرة بين المسلمين , وإن كان الحرج مرفوعاً .
بلاغة التقديم في قوله تعالى :
( وأشهدوا إذا تبايعتم )
وهذه الجملة : [ تشريع للإشهاد عند البيع , ولو بغير دين ؛ إذا كان البيع تجارة حاضرة ...
وهي إكمال لصورة المعاملة ؛ فإنها إما تداين , أو آيل إلى التداين؛كالبيع بدين وإما تناجز في تجارة , وإما تناجز في غير تجارة ؛ كبيع العقار , والعروض في غير التُجْر ]( 160 ) .
والجملة هنا جملة شرطية تقدم فيها جواب الشرط علي الفعل والأداة ، وهذا النمط من التركيب يفيد التوكيد للجواب ؛ أعني التوكيد للإشهاد ، لكن هذا التوكيد يحمل في معطفه شيئاً آخر ، وهو الإشارة إلي كثرة التبايع ، وشيوع ذلك بين الناس ؛ فنََّبه بالتقديم على الإشهاد وأهميته وذلك نحو : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ ) .
والأمر في ( وأشهدوا) : قال الطبري رحمه الله ـ بوجوبه ، فعنده [الإشهاد علي كل مبيع ومشترى حقٌ واجب وفرضٌ لازم ؛ لأن كل أمر لله فرض ، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد ] ( 161) .
ولقد قال بالوجوب أيضاً جمعٌ من الصحابة والتابعين : ومن أشهرهم في ذلك عطاء ؛ حيث قال : أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم ، أو أقل من ذلك ؛ فإن الله عز وجل يقول : "وأشهدوا إذا تبايعتم " ...
وقال الطبري أيضاً : " لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشتري إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفًا كتاب الله عز وجل ] ( 162 ) .
وهذا التوجه قد يكون مقبولاً في زمان آخر ، لكن حركة البيع الآن والشراء يستحيل معها الإشهاد في كثير من الأحيان ؛ إذ ليس من المعقول عند شراء قلم مثلاً أو كتاب أن أشهد اثنين، فهذا أمرٌ عسير ،ولا أظن أن الآية ترمي إليه .
لكن الإشهاد قد يكون لازماً عند مظنة النزاع ، أو عند بيع الأشياء الثمينة التي يكتنفها الطمع .
وجاء الفعل الماضي بصيغة التفاعل ؛ حيث قيل : " تبايعتم " وتلك الصيغة تحمل بعض الإيحاءات ومنها :
أن المجتمع المسلم عند تبايعه ينبغي أن يكفي نفسه أولاً ،ولا يلتفت إلي المجتمعات الأخرى إلا بعد الاكتفاء الداخلي ؛ لأن الفعل قال : " تبايعتم " وهذا توجيه إلي إقامة سوق إسلامية .
ومنها : الإشارة إلي تراضي الطرفين [ وقد ذكر الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمّه حدثه
ـ وهو من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم ابتاع فرساً من
أعرابي ، فاستتبعه النبي صلي الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبطأ الأعرابي , فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومون في الفرس , ولا يشعرون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد ابتاعه , حتى زاد بعضهم في السوم على ثمن الفرس , فنادى الأعرابي النبي – صلى الله عليه وسلم , فقال : إن كنت مبتاعا ً هذا الفرس فابتعه ’ وإلا بعته .
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – حين سمع نداء الأعرابي : أوليس قد ابتعته منك ؟ !
فقال الأعرابي : لا والله ما بعتك .
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – بل قد ابتعته منك .
فطفق الناس يلوذون بالنبي – صلى الله عليه وسلم – والأعرابي وهما يتراجعان .
فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيداً يشهد أن بعتك .
قال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بعته .
فأقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – على خزيمة فقال : بم تشهد ؟
فقال بتصديقك يا رسول الله .
فجعل رسول الله شهادة خزيمة بشهادة رجلين . ] ( 163 )
وفي هذا ما يؤكد أهمية الشهادة في الأمور التي يمكن النزاع فيها .
******
بلاغة التوجيه في قوله تعالى :
" ولا يضار كاتب ولا شهيد "
[ لما أمرت الآية بالكتابة , ثم أمرت بالإشهاد انتقلت إلى معنى آخر متصل به , وهو النهي عن الإضرار بهما , ولم يُقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني , وهذا عند علماء البلاغة يسمى الاستطراد ( 164)
وهو مشعر بامتداد الغرض ......وكل ذلك يدل على خطورة الديون , وكثرة تبعاتها .
والمضارَّة هي : إدخال الغير بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرج والخسارة , أو ما يجرّ إلى العقوبة ](165)
والفعل " يضار " يجوز أن يكون مسنداً إلى الفاعل , كأنه قال لا يُضارِر....
وأن يكون مفعولاً , أي : لا يضارَر , بأن يُشغل عن صنعته , ومعاشه باستدعاء شهادته ..
بمعنى أنه يحتمل البناء للمعلوم , والبناء للمجهول , ولعل اختيار هذه المادة هنا مقصود , لاحتمالها حكمين ] ( 166)
وعليه ؛ ففي الكلام توجيه , والتوجيه هو : " إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين "؛ كقول الله تعالى حكاية عن المشركين : " واسمع غير مسمع وراعنا " .
قال الزمخشري : [ غير مسمع : حال من المخاطب ؛ أي : اسمع وأنت غير مسمع , وهو قول ذو وجهين , يحتمل الذم , أي اسمع منا مدعواً عليك بـ " لا سمعت "
أو اسمع غير مجاب ماتدعو إليه ] ( 167)
فقوله : " ولا يضار " على معنى إدخال الشاهدين والكاتب في الحرج , والخسارة , أو إيذائهما لشهادتهما الحقة .
وقد يفهم منه معنى آخر,وهو أن يتواطأ الشاهدان والكاتب في التوثيق فيضيعا حق الدائن أو المدين
[ لكن الأولى بالسياق مخاطبة المتداينين بألا يضارُّوا الكاتب أو الشهيد ؛ لأنه لو كان خطاباً للكاتب أو الشهيد لقيل بعد : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ] ( 168)
وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرع عن الإضرار :
ومنها: ركوب الشاهد من المسافة البعيدة .
ومنها : ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنة النسيان .
ومنها : استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب .
ومنها : أنه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود , وإقامتهم في غير بلدهم , وتعويض ما سينالون من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلتهم ؛ إعانةً على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة ] ( 169 ) .
وفي تقديم الكاتب على الشهيد إشعار بأن الأصل في التوثيق هو الكتابة ,. وأن ضبط هذه الديون واقع في المقام الأول على الكاتب .
أما إفراد اللفظين [ الكاتب والشهيد] مع تنكيرهما ؛ فلقصد التعميم , بمعنى : أي كاتب,وأي شهيد .
كما أن هناك ملمحاً آخر , وهو ترغيب كل منهما في تلبية الأمر دون النظر إلى وجود كاتب آخر , أو شاهد آخر , فتلبية الأمر – وبخاصة الشاهد – ضرورية , حتى وإن ذهب وحده , حتى وإن لم يحضر غيره .
أما اصطفاء صيغة البناء للمجهول في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " فإنه مشعر بأن ذلك مترسخ في الفطر السليمة , حتى وإن لم تكن في دين الإسلام .
فبناء الجملة يضعها في قالب الحِكَم , والأمثال , وكأنه ليس تشريعاً للمسلمين , بل إخبار ببديهة تفرضها العقول الصحيحة , وهذا يُكسب المعنى قوة ولزوماً , وحرصاً من الجميع على الالتزام به , ويؤيد هذا قراءة : " ولا يضارُّ " بالرفع ؛ إذ إن المعنى على أنه خبر , وليس إنشاءً , وكأن قراءة الرفع والنصب تشير إلى أن الجملة خبرٌ غُلِّف في صورة الإنشاء ليحمل من كلٍّ خصائصه , وميزاته .
فهو يحمل من الخبر لزومه وثبوته .
ويحمل من الإنشاء فريضته ووجوبه , وإثم من يخلفه .
وهذا ما أكدته الجملة التالية , وهي : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " .
*******
البناء التركيبي لجملة :
" وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم "
هذه الجملة تثير عدة أسئلة : ومنها :
1 – ما وجه البلاغة في إيثار الفعل " تفعلوا " دون " تضاروا " ؟
2 – ما وجه حذف المفعول للفعل " تفعلوا " ؟
3 – لم بني جواب الشرط على الجملة الاسمية ؟
4 – لم أضيف الفسوق إليهم ؟ وكان يمكن أن يقال : فإنه فسوق , وكفى .
وبدايةً :
فالجملة تحذير من إضرار الكاتب , أو الشاهد بإلحاق حكم الفسوق بكل من يرتكب ذلك .
وبناء الجملة على الشرط يفيد احتمال وقوع هذا الإضرار , لكن الأصل , أو الشائع انتفاء هذا , كما أن اصطفاء أداة الشرط " إنْ " يشعر بندرة حدوثه .
أما بلاغة ذكر الإضرار بلفظ " تفعلوا " فإنه يكمن في تقبيح من يفعل ذلك , وأنه ارتكب أمراً لا يمكن ذكره أو وصفه , وهو إضرار الكاتب أو الشاهد , وما هما إلا وسيلتان لحفظ الحقوق , ولا يعقل أن يقابل الإحسان إلا بالإحسان , فلما حدث هذا الإضرار عبَّر عنه بلفظ الفعل ؛ استبشاعاً له وتهويلاً , كما قيل لموسى – عليه الصلاة والسلام – " وفعلت فعلتك التي فعلت " – الشعراء 19-
كما أن إيثار صيغة المضارع " تفعلوا " يشعر بأن المضارة أضحت عادة في الناس تتجدد , وتتكرر كثيراً بينهم .
أما حذف المفعول من قوله "وإن تفعلوا " ؛ فلكي تذهب فيه العقول كُلّ مذهب ، حتى يدخل فيه كل نوع من الإضرار ، سواء في النفس أو المال أو الولد أو غير ذلك .
وجاء جواب الشرط جملةً اسمية مفتتحة بإنّ ؛للإشارة إلي مضمون الجملة ، وهو ثبوت الفسوق
بكل ما يضر الكاتب أو الشهيد ؛ لأن في ذلك إغلاقاً لبابٍ أباحه الله تعالي ، وفي ذلك تضيق علي الناس أو دفعاً لهم إلي الربا أو ما حرم الله ...
وجاء اسم " إنّ " ضميراً للشأن , ولضمير الشأن شأنٌ في بلاغة العرب ، فلقد مضي العلماء علي أن [ فائدته الدلالة علي تعظيم المخبر عنه ، وتفخيمه بأن يذكر أولاً مبهما ًثم يفسَّر وكذلك يسمَّي ضمير المجهول , وهو عائد على ما بعده لزوماً إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم عليه ] ( 170 )
وعليه فتقدير المعنى : فإن الفسوق بكم .
وكون ضمير الشأن مفخماً, ومعظماً للمخبر عنه يعني أن التفخيم للفسوق , وأن المبالغة في الفسوق . وهذا لون من ألوان التنفير , وزجر لكل من تسول له نفسه الإضرار بالكاتب أو الشاهد , لأن فسقه سيكون مؤكداً ومبالغاً فيه , أو أن الضمير يعود على الإضرار المفهوم من قوله :" ولا يضار " , ويكون المعنى : فإن الإضرار فسوق .
ثم إنه كان يمكن أن يقال : فإنه فسوق وكفى , لكنه زاد النسبة , فقال [ بكم ] لإشعارهم بأن ضرراً وأذى قد لحق بهم , فعليهم الإسراع للتخلص منه , وكأن الفسوق يتعلق بهم حال إضرارهم بالكاتب , أو الشهيد , وليس المراد هنا لزومه لهم , أو أنهم لا ينفكون عنه كما قال البعض ] ( 171 )
ولقد جاء في الحديث : " سباب المؤمن فسوق , وقتاله كفر " ولا يمكن حمل المعنى على أن من سب مسلماً لزمه الفسوق , ولا ينفك عنه , بل المعنى : على أن الفسوق لاحق به حال سبه , وأن الكفر لاحق به حال قتاله لأخيه المؤمن , ويزول عنه إذا كف عن ذلك .
أما قوله " بكم " وكان يمكن أن يقال – لأنه فسوق _ فوجهه إرادة الحكم على الفاعل تنفيراً من الإضرار , وزجراً له عن الوقوع فيه .
*****
بلاغة التكرار في قوله تعالى :
( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
وهذه ثلاث جمل جاءت في ختام الآية , والواو في الجملة الأولى استئنافية ؛ لختم التكاليف السابقة بالبواعث والمحرضات , على قبول ما سبق , والامتثال له ؛ ذلك لأن التكاليف السابقة فيها من الثقل ما فيها , والنفس حين يثقل عليها العبء تحتاج إلى ما ينشطها , فذكرتها الآية بتقوى الله تعالى ؛ [ لأنها ملاك الخير , وبها يكون ترك الفسوق ] ( 172 ) .
أما تكرار , [ وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث , فلقصد التنويه لكل جملة ؛ حتى تكون مستقلة الدلالة , غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على مُعاد ضميرها , حتى إذا استمع السامع لكل واحدة منها حصل له علم مستقل , وقد لا يسمع إحداها فلا يضره ذلك في أخراها, ونظير هذا قول الحماسي :
اللؤم أكرم من وبر ووالده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
واللؤم داء لوبرٍ يُقتلون به لا يقتـلون بداءٍ غيـره أبـدا
فإنه لما قصد التشنيع بالقبيلة , ومن ولدها , وما ولدته أظهر " اللؤم " في الجمل الثلاث , ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها .
هذا ولإظهار اسم الجلالة , وتكراره نكتة أخرى , وهي التهويل , وللتكرير مواقع يحسن فيها , ومواقع لا يحسن فيها .
قال عبد القاهر في خاتمة دلائل الإعجاز [ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها , وأن بعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل , ومن ذلك ما حُكي عن الصاحب أنه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي , ويُنقِّط على ما يختاره , قال الصاحب , فدفع إليَّ القصيدة التي أوّلها :
أتحت ضلوعي جمرة تتوقد على ما مضى أم حسرة تتجددُ
وقال لي : تأملها , فتأملتها , فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقط عليه , وهو قوله :
بجهل كجهل السيف والسيف منقض وحلم كحلم السيف والسيف مغمدُ
فقلت : لم ترك الأستاذ هذا البيت ؟
فقال : لعل القلم تجاوزه , ثم رآني من بعدُ فاعتذر بعذر كان شراً من تركه , فقال : إنما تركته ؛ لأنه أعاد السيف أربع مرات .
قال الصاحب : لو لم يُعده لفسد البيت .
قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب .... ثم قال :
إن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف , لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى:"وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"وقوله : قل هو الله أحد الله الصمد " عمل لولاه لم يكن .
وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :
• فما للنوى جُدّ النوى قُطع النوى *
حتى قيل:لو سلط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النوى , ثم قال : إن التكرير المستحسن : هو تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير , في جمل متواليات , كل جملة منها مستقلة بنفسها , والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة , أو في جمل في معنى .... ولم يكن في معنى التعظيم أو التحقير .
فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد , وعبد القاهر موافق للصاحب بن عباد ...
قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد :
لما رأيت الشيب لاح بياضه بمفرق رأسي قلت للشيب مرحباً
كان الواجب أن يقول : قلت له : مرحبا لكنهم يكررون الأعلام , وأسماء الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم . ] ( 173)
وسواء أطلق العلماء على هذا مصطلح : وضع الظاهر موضع المضمر , أو الخروج على خلاف الأصل , أو التكرار ؛ فإن القصد هو التعظيم , [ وإدخال الروعة وتربية المهابة في النفوس ] ( 174) .
وعليه فتكرير اسم " الله " في ختام الآية حيث قيل " واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " إنما قصد به تربية المهابة في القلوب الدائنة , والمدينة , والشاهدة , والكاتبة , وكذا تربية المهابة في قلوب المجتمع الإسلامي ليحتاط في هذه المعاملات , ويسمع لأوامر , ويطيع .
تعلق العلم بالتقوى :
ذهب البعض إلى التلازم بين العلم والتقوى: تلازماً شرطياً , بمعنى: أن العلم متعلق بالتقوى , فمتى حدثت التقوى حدث العلم وترتب عليها اعتماداً على قوله تعالى:" واتقوا الله ويعلمكم الله "
يقول القرطبي:[ إن الآية وعد من الله بأن من اتقاه علَّمه,أي : يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه ]( 175)
ويقول الصابوني : [ العلم نوعان : كسبي ووهبي .
أما الأول : فيكون تحصيله بالاجتهاد والمثابرة والمذاكرة .
وأما الثاني : فطريقه التقوى , والعمل الصالح , كما قال الله تعالى : " واتقوا الله ويعلمكم الله " وهذا العلم يسمى العلم اللدني : " وآتيناه من لدنا علما " – الكهف 65-, وهو العلم النافع الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده المتقين , وعليه أشار الإمام الشافعي بقوله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبـرنـي أن العلم نـور ونـور الله لا يهدى لعاص
لكن الزركشي – رحمه الله – خالف هذا , فقال [ وأما قول الله تعالى " واتقوا الله ويعلمكم الله " فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم , والمحققون على منع ذلك ؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط , فلم يقل " واتقوا الله يعلمكم الله " ولا قال " فيعلمكم الله " ..... وإنما أتى بواو العطف , وليس فيه ما يقتضي أن الأول سبب للثاني , وإنما غايته الاقتران والتلازم , كما يقال : زرني وأزورك , وسلم علينا ونسلم عليك ... ونحوه مما يقتضي اقتران الفعلين , والتقارض من الطرفين , كما لو قال عبد لسيده : اعتقني ولك عليّ ألف , أو قالت امرأة لزوجها : طلقني ولك ألف , فإن ذلك بمنزلة قولها : بألف , أو على ألف .
وحينئذ يكون متى علّم الله العلم النافع اقترنت به التقوى بحسب ذلك , ونظير الآية قوله :
( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود:123) .
ولا أظن أن هناك خلافاً على العلم اللدني , لقوله تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65) .
فالعلم الوهبي علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم , وإليه الإشارة في الأثر : " من علم بما علم ورثّه الله علم ما لم يعلم ]( 178 )
هذا ....وإن كان العلم الوهبي لا يختلف عليه أحد إلا أن سياق الآية في شأن تعليم المسلمين الضوابط الحافظة للديون , ولا علاقة لها بالعلم اللدني .
ولعل من أقحم هذا الأمر نظر إلى ورود قوله تعالى " ويعلمكم الله " عقب قوله تعالى : واتقوا الله " وهذا بعيد – كما أرى - .
أما جملة ":" والله بكل شيء عليم "
فقد ختمت بها الآية , وهي مكونة من مبتدأ وخبر , ووضع بينهما الجار والمجرور " بكل شيء " لأن ما سبق كان تعليماً للمسلمين قواعد , وأصول الضبط , فأحاط المبتدأ والخبر ( الله عليم ) بكل شيء يتعلق بالديون ,
وقدم الجار والمجرور على الخبر لأن الآية في شأن التعليم والتوجيه ووضع الضوابط فقدم كل ذلك على الخبر , ولو كان السياق في تمجيد الله تعالى لقيل : " والله عليم بكل شيء .
وهذا الختام تذكير للمسلمين بأن ما وضعه الله تعالى من ضوابط إنما جاء من علم محيط بما قد ينشأ في النفوس من ريب عند ترك هذه الضوابط , أو مخالفتها مما يحتم عليهم الأخذ بها والإذعان لكل جزئياتها .
*******
يـــــــــــــــــــتبـــــــــــــــع
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 30-12-2008, 04:23 PM
-
بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
-
بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 27-01-2007, 04:05 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات