

-
بلاغة الإدماج في قوله –سبحانه- :
(وليكتب بينكم كاتب بالعدل )
وهذه الجملة تفجر عدة أسئلة بلاغية , من أهمها :
1 – ما الإدماج ؟ ,وما موطنه في الآية ؟ , وما وجه جماله ؟
2 – لَمن الأمر في الجملة ؟ وما وجه العطف بينها وبين سابقتها ؟
3 – لِم تأخرت هذه الجملة عن سابقتها ؟
4 – أين مفعول الفعل " ليكتب " ؟ وما وجه تقييد الفعل بقوله : " بينكم " ؟ وبِم تعلق الجار والمجرور " بالعدل " ؟
5 – هل في الكلام كناية ؟
أما الإدماج : ففي اللغة يدل على " الانطواء والستر , يقال : أدمجت الحبل : إذا أدرجته وأحكمت فتله ..." ( 73 )
وفي الاصطلاح : " أن يُضَمَّن كلام سيق لمعنى معنى آخر لم يصرح به " ( 74 )
" والمعنى الآخر وهو المضمن المدموج يجب ألا يكون مصرحاً به ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله , وإلا لم يكن ذلك من الإدماج " ( 75 )
أما موطنه في الجملة القرآنية فيشير إليها الطيبي فيقول :
" الكلام هنا – يعني في قوله : " وليكتب بينك كاتب بالعدل " مسوق لمعنى , ومدمج فيه آخر بإشارة النص , وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب ؛ لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة , إلا من كان فقيهاً " ( 76 )
والناظر في الجملة يستطيع أن يلحظ بسهولة أنها جاءت لتحديد وتخصيص نوع خاص من الكُتَّاب ليقوم بهذه المهمة , أو إن شئت فقل : لتشترط أداءً خاصاً لهذه الكتابة المأمور بها سابقاً وهي أن تكون كتابةً عادلةً ضامنةً للحقوق , مانعة من التحايل ؛ ذلك لأن الأمر كما قال الطيبي : " خطير " , ولذلك جاز تعلق الجار والمجرور " بالعدل " بكلٍ من الفعل والفاعل , أعني : يجوز تعلقه بالفعل
" يكتب " , ويجوز تعلقه بالفاعل " كاتب " .
فإذا قدرنا تعلقه بالفعل " يكتب " يكون المعنى المدمج هو : وليكتب بينكم كاتب كتابة عادلة , تكون محل ثقة من أهل الاختصاص عند التنازع ؛ بحيث تخلو من الثغرات التي تمكن أحدهما من المراوغة , أو الانفكاك مما في ذمته ؛ فالعدل هنا ناتج عن موافقة الكتابة للشروط الواجب توافرها لضمان الحقوق ؛ فهي صفة للكتابة .
وقد يكون الجار والمجرور متعلقاً بالفاعل " كاتب " فيكون المعنى المدمج هو : وليكتب بينكم كاتب مشهور بالفقه والعدل وعدم الميل إلى هذا أو ذاك , وهذا يعرف من خلال كتاباته السابقة بين الناس ؛ " فالأصل ألا يكتب الوثيقة إلا العدل في نفسه , وقد يكتبها الصبي والعبد ... إذا أقاموا فقهها , أما المنتصبون لكتبها ؛ فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين , قال مالك –رحمه الله تعالى - : " لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها , عدلٌ في نفسه , مأمون ؛ لقوله تعالى : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " .
وعلى هذا فالجار والمجرور في موضع الصفة للكاتب " ) ( 77)
"ففقه الكاتب , ومعرفته بأنواع الوثائق معنى مدمج في الجملة ، مقصود منها في النهاية .
أما الأمر في الجملة فمتوجه إلى المتداينين , والسر في ذلك : " المبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب " ( 78 )
ولا أرى أن الأمر هنا للكاتب لأنه ليس منوطاً بالحكم , كما أنه إما أن يكون أجيراً أو متفضلاً , وفي كلتا الحالتين لا يمكن أمره وإرغامه على الكتابة , لكن الأقرب إلى الفهم هو توجيه الأمر إلى المتداينين أن يبحثا عن كاتب فقيه عدل ليقوم بكتابة الدين , وهذا ما جعل الألوسي – رحمه الله – يقول : " والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية , بكتابة عدلٍ , فقيهٍ , ديِّن ؛ حتى يكون ما يكتبه موثقوقاً به , متفقاً عليه بين أهل العلم " ( 79 )
وهو لا يعني هنا الكناية الاصطلاحية , وإنما أراد – كما أفهم – مخاطبة الكاتب وأمره بالكتابة عن طريق المتداينين .
ومن بلاغة ذلك إشعار الكاتب بأهمية الأمر , حتى يرفع الحرج عن المتداينين , ويلبي دعوتهما , ويكتب ؛ لأن رفضه قد يوقعهما في الحرج , لكنه على جميع الأحوال في حل من الأمر , وإن كان الأولى تلبية الطلب ؛ إذ ليس كل من كتب صالحاً لهذه المهمة ؛ لأن الجملة جاءت لتحديد الفقيه , وهذا بلا شك قيد آخر من القيود التي تكاد تعرقل إتمام مثل هذه المعاملات , وهو أمر مقصود , فوضع العقبات في هذا النوع من التعامل قُصد به التضييق عليه ؛ حتى لا يشيع , لما يترتب عليه من أضرار عند التساهل في ضوابطه .
ولقد جمعت الواو بين جملة " فاكتبوه " وجملة " وليكتب بينك كاتب بالعدل " ؛ لأنهما من باب التوسط بين الكمالين ؛ فكل منهما أمر لفظاً ومعنى , وهذا الربط بالواو يشير إلى أن كل جملة من الجملتين تمثل خيطا من خيوط هذا النسيج الواحد , وهي خيوط متشابهة , متشاكلة ترسم في النهاية صورة وغرضاً واحدا تتشابك ملامحه , وتتعانق جوانبه .
وأخرت جملة " وليكتب بينكم " عن جملة " فاكتبوه " ؛ لأنه لم يكن ثمة هاجس في تحديد الكاتب , إنما الهاجس الذي النفوس , ولا يزال هو :
هل نكتب الدين أم لا ؟
وهل إذا أمن بعضنا بعضاً في الحضر يكتب أيضاً أم لا ؟
هذا هو ما يشغل النفوس , ولا يزال يتردد في الأفئدة حتى صار محل خلاف ؛ لذا , كان تقديمه والتنصيص عليه أولاً قبل تعيين الكاتب .
وإن كنتُ أرى أن تعيين الكاتب ما هو إلا تأكيد للكتابة وفرضيتها , ولو كان الأمر في " فاكتبوه " للإرشاد لتُرك تعيين الكاتب للمتعاقدين ليختاروا مَن يرونه مناسباً ؛ إذ كيف يكون الأمر للإرشاد ثم يؤمرون بتعيين كاتب فقيه عدل ؟
وفي حذف المفعول من الجملة شمول وإحاطة لكل ما يتعلق بالدين من قيمة , وموعد سداد ..
وفي ذكر المفعول تضييق على هذه المعاني , وضياع لكثير من الضوابط , وفتح باب الخلاف في المقصود من الدين , هل هو قيمته أم ماذا ؟
فالحذف هنا وسّع المعنى , وتساوق مع الروح المهيمنة على الآية الداعية إلى أخذ كافة الضمانات .
وفي الوقت الذي حذف فيه المفعول من جملة "وليكتب بينكم كاتب " نجد في الجملة قيداً مذكوراً , وهو : " بينكم " , وجيء به " حتى لا ينفرد بالكاتب أحد المتعاملين , دفعاً للتهمة " ( 80 ) , ويقول الألوسي في علته : " إنما قال " بينكم " ولم يقل " أحدكم " ؛ لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين , وكذلك بالعكس شرع الله كاتباً غيرهما يكتب بالعدل , لا يكون في قلبه , ولا قلمه موادّة لأحدهما على حساب الأخر .."( 81 )
كما أن في هذا اللفظ " بينكم " ما يشير إلى اجتماع الأطراف : الدائن والمدين , وكذلك الشهود ؛ولو
اقتصر الاجتماع على الدائن والمدين والكاتب لقيل : وليكتب بينكما , لكن في صيغة الجمع ما يفيد حضور جميع الأطراف حتى الشهود , وفي ذلك إبلاغ في التوثيق والحيطة .
وفي مجيء لفظ " كاتب " نكرةً , ثم تعريفه بالصفة , وهي شبه الجملة " بالعدل " قصد إلى المعنيين ؛ أعني : النكرة والمعرفة المخصوصة , فمجيء لفظ " كاتب " نكرة قصد به عدم تحديد كاتب بعينه , أو باسمه , أو بقرابته , وهذا قد يُفهم إن عرِّف اللفظ بغير الصفة ؛ كأن يقال " وليكتب بينك كاتبكم , أو كاتب المسلمين , أو الكاتب , أو نحو ذلك ؛ فمجيء اللفظ – في ذاته – نكرة قُصد به البحث عن الوصف , وليس عن الشخص ؛ ولذلك جاء بعد اللفظ النكرة تعريف لها بالوصف , وهو قوله : " بالعدل " .
وفي هذا الوصف مجاز مرسل علاقته المسببية ؛ لأن المقصود هنا : " وليكتب بينكم كاتب فقيه , عالم بضوابط العقود , وهذا الفقه - بلا شك – سبب في حدوث العدل بين المتداينين .
لكن يبقى السؤال :
لمَ عبّر بالمسبب عن السبب ؟
الذي أراه أن وجه ذلك هو أن الفقه وسيلة للوصول إلى العدل , والعدل غاية , ولما كان الفقه لا يقتصر على معرفة الضوابط الشرعية , بل يشمل معرفة الزمان والمكان والأحوال , وكل ما يوصل إلى العدل عبر بـ " العدل " ليراعي الكاتب كل ذلك , وهذا إيجاز بديع يلفت النظر إلى الغاية من الكتابة , وهي ضمان الحقوق , فيدفع الكاتب إلى الأخذ بها ما دامت في إطار الشرع .
أوجه البيان في قوله تعالى :
" ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله "
وهذا حكم جديد متوجه إلى الكاتب , وليس إلى المتداينين , وحمله البعض على الوجوب والفريضة : فرضية عين على الوجوب, وآخرون على أنه فرض عين إذا لم يكن في البلدة غيره , فإذا كان فهو واجب على الكفاية , وحمله البعض على الوجوب حال فراغه .( 82 )
والسؤال الذي يلح على العقل هنا هو :
ما وجه توجيه النهي إلى الكاتب , وإشراكه في زمرة المتعاملين ؟
إن الجملة تجعل الكاتب فرداً من أفراد هذه المعاملة , حيث تشرط عليه , وتلزمه , وتأمره بالكتابة الحقّة , والكاتب في الواقع أجير يُستدعى لكتابة جميع المعاملات التي يُطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد , ولا أرى أن هناك خلافاً في أخذ الأجر ؛ لأن الكتابة عمل وحرفة يجوز أخذ الأجرة عليها , وهذا ما نص عليه القرطبي ؛ حيث يقول : " لو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها ؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة , ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة "( 83)
وكلام العلماء في الوجوب والندب والإرشاد بعيد - كما أرى – عن سياق الآية ؛ لأن المطلوب من الكاتب ليس الكتابة العامة , وإنما كتابة خاصة , موصوفة بقوله : " كما علمه الله " , وعلى هذا فالنهي ليس متوجهاً إلى عموم الكتابة , وإنما النهي متوجه إلى هذا القيد ؛ فالكاتب ليس منهياً عن الإباء عموماً , ولكن النهي توجه إليه عند كتابته , ومباشرته الفعل ؛ بمعنى : أن الكاتب إذا أخذ في الكتابة قيل له : لا تأب أن تكتب كما علمك الله ؛ لأن الخطر ليس متوقَعاً إن أبى الكاتب مباشرة الكتابة , بل العكس هو الصحيح ؛ لأنه سيوقف هذه المعاملة , ويرد المال إلى صاحبه , ويعيد السلعة إلى صاحبها , ولكن الخطر يُتوقع إن كتب الكاتب كتابةً تضيع معها الحقوق , تلك هي الخطورة , وهو ما حذرت منه الآية فنهت الكاتب – ليس الإباء عن الكتابة – بل عن عدم الكتابة الحقّة الموصوفة بقوله : " كما علمه الله " , وفرق كبير بين الأمرين .
ولعل أفعال الكثير من المحامين , وهم الذين يكتبون العقود في زمانناً غالباً , لعل أفعال الكثير منهم في بنود تلك العقود , وتغيير بعض الصيغ في العقد , وإضافة أو حذف بعض الكلمات مما يفوت الفرصة على صاحب الحق عند مطالبته بحقه , لعل كل ذلك يشرح لنا المقصود من النهي .
وكم من حقوق ضاعت بسبب هذه الثغرات التي تضمنتها تلك العقود ؛ لذا أدخلت الآية الكاتب في
زمرة هذه المجموعة _ مجموعة الدين _ حيث ناله قسط وفير من الزجر والتهديد ؛ لتوقُّف ثبوت أو ضياع الحقوق على كتابته ,.......
أدخلته لأن عليه عبئاً كبيراً مادام قد رضي الكتابة .
وعليه ؛ فالأمر المفهوم من قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " لا يحتمل إلا وجهاً واحداً وهو أنه فرض عين ؛ لأن ضد ذلك يعني أنه خان الأمانة , وكتب ليس كما علمه الله , وتلك جريمة تضيع بسببها الحقوق , ويشيع بسببها الفساد .
وقد توجه النهي إلى صيغة الغائب " لا يأب " , والأصل في النهي أن يكون لمخاطب , لكن لما كان الكاتب حاضراً في السياق من خلال قوله تعالى : " فاكتبوه " , وقوله تعالى " وليكتب بينكم كاتب " صح أن يُسند النهي إليه بعد حضوره البارز من قبل .
الصورة التشبيهية في هذه الجملة :
يرى بعض العلماء أن الكاف هنا للتعليل , ويقول : " كما علمه الله " ؛ أي : لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق , وتفضل به عليه , وهو متعلق بـ
" يكتب " , والكلام على حد قوله : " وأحسن كما أحسن الله إليك " , أي : لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته , لأجل أن الله تعالى تفضل عليه وميَّزه " ( 84 ) .
" والقول بدلالة الكاف عموماً على التعليل قليل عند النحاة وقيده جماعة بأن تكون الكاف مكفوفة بـ " ما " نحو : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ ) (البقرة:151)
ونحو : ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (البقرة:198)
وهؤلاء لم يقولوا بأنها للتعليل في –كما علمه الله - : لأن " ما " مصدرية ( 85 )
والذي أميل إليه : أن الكاف هنا ليست للتعليل , حتى وإن توقف ما قبلها على وجود ما بعدها ؛ لأن السياق ليس سياق منٍّ وتفضُّل على الكاتب , بل سياق أمر ونهي , بأن يكتب كتابةً موثقة ضامنة للحقوق , خالية من الثغرات ؛ فالأولى في هذا السياق تذكيره بهذه الضوابط , وتلك الشروط التي تعلَّمها ؛ حتى يجعلها في ذهنه عند الكتابة , ثم يجعل ما يكتبه مطابقاً ومشابهاً لما تعلمه .
وعلى هذا , ففي الجملة تشبيه , وهذه أركانه :
المشبه : الكتابة المأمور بها .
المشبه به : الكتابة التي علمه الله إياها .
والأداة : الكاف .
ووجه الشبه : الدقة والعدل , وذكرُ اسم الذي عليه الحق دون غيره , وتحديدُ قيمة الدين , وموعد أخذه ومكانه وزمانه , ثم تحديد صاحب الحق , وموعد السداد , وزمانه ومكانه , وغير ذلك مما تعلمه من أمور تحفظ الحقوق لأصحابها .
وجمال هذه الصورة ينبع من عدة أشياء :
منها : التذكير بنعمة الله تعالى على الكاتب ؛ حيث جعل ذلك جزءاً من الصورة , ومن
خطوطها الأساسية , ليكون ذلك دافعاً له , ومحرضاً , وحاجزاً عن الميل إلى شهوات
الدنيا , بالميل إلى طرف على حساب طرفٍ آخر .
ومنها :الإشارة إلى الدقة العالية , والالتزام الشديد بضوابط الكتابة ؛ لأنها منسوبة إلى الله تعالى
( كما علمه الله ) .
ومنها : حثُّ الكاتب على إخراج هذه الوثيقة في أبهى صورة ؛ لأن الله تعالى كتب الإحسان
على كل شيء .
ومنها : الترهيب من مخالفة الأصول , والقواعد الضابطة للحقوق , وذلك من خلال استعمال
اسم ( الله ) تعالى , الباعث على الرهبة ؛ ولذلك لم يقل : كما علمه ربه .
ومنها : الإشارة إلى أن ضبط هذه المعاملات لا يكون إلا بما شرعه الله تعالى وحدده , وأن
العدول عما أنزله الله تعالى يحمل الفساد , والإفساد للبشرية جميعاً .
كما أن من خيوط هذه الصورة التشبيهية تنكير كلمة " كاتب " لتعميم الحكم على كل
من تصدى لهذا الأمر , حتى وإن دان بغير الإسلام .
يقول أبو حيان : " و – كاتب – نكرة في سياق النهي فتعمّ ( 86 )
كما أن في اصطفاء هذا اللفظ [ كاتب ] تذكيراً للكاتب بأن منفعته , وسمعته , ومصداقيته في هذا العمل مرتبط بالعدل , والإنصاف ؛ ولذلك لم يقل : ولا يأب مؤمن , أو مسلم , وإنما قال : كاتب , وكأنه معروف بين الناس بمهنته , فإذا جار أو ظلم , أو مال إلى واحدٍ دون الآخر , فإن مهنته سوف تكون محل تهمة من الناس , فلن يكون كاتباً , بل سيصبح مخادعاً , وسيشتهر بين الناس بقلة ضبطه , أو فساد عمله ؛ فكأن كلمة [ كاتب ] تحذير له بأن مهنته وعمله , ودوام ذلك مرهون بعدله , وضبطه للكتابة , وهذا واضح .
أما اصطفاء المصدر المؤول _ ولا يأب كاتب أن يكتب _ دون الصريح , -كتابته – فلأن الكاتب يراعِي مقام كل حالة , ويعرف الشروط الضابطة لكل نوع , ولمَّا كانت أنواع المداينات ذات
أوصاف مختلفة كان الإلمام بكل حالة , وضوابطها على حدة من لزوميات الكاتب , وهذا يتواءم مع المصدر المؤول الدال على التغير , والتجدد والحدوث ,وكل ذلك مفهوم من المضارع " يكتب " , أما لو قيل : ولا يأب كاتب كتابة ما علمه الله , لظُنّ أن هناك صيغة واحدة لجميع العقود , ولَحفظها الجميع , ولاستُغني عن الكاتب , وهذا بعيد .
إذ إن لكل نوع ما يناسبه من صيغ , كما أن لكل حالة ما يتوافق معها من شروط , وضوابط , وأحوال تخالف غيرها .
ومع أن الفعل _ يكتب _ متعدّ إلا أن مفعوله حذف لدلالة السياق عليه .
وختام الجملة يحمل من التفضّل والتشريف للكاتب الكثير ؛ ذاك لأن الجملة جعلت عملية التعليم مباشرة من الله تعالى , فهو كالأنبياء من حيث دوره في الإصلاح , فإذا كان الأنبياء يصلحون عقائد الناس وعبادتهم , فإن الكُتّاب يصلحون أنواع المعاملات بين الناس , والتي قد ينشأ عنها خلاف أو نزاع .
أضف إلى ذلك : أن اسم الله تعالى في قوله : " كما علمه الله " يحمل من الرهبة والزجر ما يجعل الكاتب يلتزم , كما أنها تشير إلى أن العدول عن هذه الضوابط إساءة إلى هذا العلم , ومن بعد ذلك إساءة إلى المعلم – سبحانه وتعالى - .
وبعد ُ :
فإن هذه الجملة تسير في الطريق نفسه الذي بدأ بوضع القيود , والعوائق أمام هذا النوع من المعاملات , حتى لا يلجأ إليها إلا المضطرون , لما يترتب عليه من حرج , ومن خلاف متوقع بين الناس , فلا توجد نفس سوية تحب أن يكون لها أو عليها حق لأحد , وبخاصة الحقوق المالية , لذلك كثرت الأوامر والنواهي والشروط المعرقلة لهذه المعاملات , ليكون سبيلها سبيلاً حَزَنَاً ينبغي ويحسُن تجنبه , وهذا هو الأقرب إلى الفهم .
***
يـــــــــــــــتـــــــــــــــــــــــــبـــــــــــــــع
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 30-12-2008, 04:23 PM
-
بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
-
بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 27-01-2007, 04:05 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات