

-
الفصل الثالث
التحليل البلاغي للآية
التحليل البلاغي لأسلوب النداء في : }يا أيها الذين آمنوا {
( الخطاب هنا موجه للمؤمنين ؛ أي لمجموعهم , والمقصود منه : خصوص المتداينين , والأخص بالخطاب هو المدين ؛ لأنه من الحق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله , فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة , وإن لم يسألها الدائن .
ويؤخذ هذا مما حكاه الله تعالى في سورة القصص عن موسى وشعيب _ عليهما السلام _ ؛ إذ استأجر شعيب موسى , فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها , قال موسى : ( والله على ما نقول وكيل ) فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجرِه دون أن يسأله شعيب ذلك ) . ( 41)
وحرف النداء ( يا ) له من الخصائص ما ليس لغيره , فهو ( أصل حروف النداء , وأكثر حروف النداء استعمالا , ولا يُقدَّر عند الحذف سواه , ولا ينادى اسم الله _ عز وجل _ واسم المستغاث , وأيها , وأيتها , إلا به .
قال النحاة : ( يا ) أم الباب , ولها خمسة أوجه من التصرف :
أولها : نداء القريب والبعيد . وثانيها : وقوعها في باب الاستغاثة دون غيرها .
ثالثها : وقوعها في باب الندبة ورابعها : دخولها على أي .
وخامسها : أن القرآن المجيد مع كثرة النداء فيه لم يات فيه غيرها ) ( 42 )
ومن دلالة هذا النداء ( وخصائص نظمه , واصطفاء عناصره على هذا النحو يبدو فيه ما يدل على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعا من إيمان وتسليم ) ( 34 )
فهم الذين ارتضوا هذا الدين وآمنوا به وسلموا لأوامره ونواهيه , وكأن النداء تذكير لهم بما التزموا به , وارتضوا ؛ فقيل لهم : ( يا أيها الذين آمنوا ) ( 44 )
كما أن في اصطفاء لفظ ( آمنوا ) على هذا النمط _ حيث جاء فعلاً _ إشارة أخرى إلى ( أن إيمانهم لا يزال فعلاً , وأنه ما يزال فيهم بقية من غفلة ) (45 ) وليدخل فيه عموم من دخلوا في الإيمان , وليس خصوص المؤمنين ؛ لأنه مما لا شك فيه أن هناك فرقاً بين أن يقال : ( يا أيها المؤمنون ) و ( يا أيها الذين آمنوا ) ؛ فالمؤمنون أعلى منزلة , وأكثر إيماناً من الذين آمنوا ؛ ذلك لأن الإيمان في المؤمنين صار اسمًا لهم , وصفة ثابتة , أما الذين آمنوا ؛ فالإيمان لديهم لا يزال فعلاً , ولم يرق إلى مرحلة الثبوت , وفرق بين هذا وذاك .
وعلى كلٍّ , فإن النداء عليهم ( تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم )( 46)
وزد على ذلك أن النداء عليهم صادر عن الحق _ سبحانه وتعالى _ وليس هناك وسيط بينه وبينهم , وفي ذلك أيضا من التشريف ما فيه ( وهذا التكليف والتذكير , والتشريف المحتَضَن في رحم النظم متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد ) ( 47 )
ونخلص من كل ذلك أن هذا النداء يحمل عدة معانٍ :
1 – عموميته ؛ حيث يدخل فيه القريب والبعيد .
2 – تذكير المنادى بما التزم به من إيمان ؛ ليكون دافعاً له إلى التسليم والطاعة .
3 – الإلماح إلى نقص إيمانهم ؛ فما زالوا يُؤمرون ويُنهون ؛ ففي التزامهم إكمال لهذا الإيمان
, وإتمام لهذا البناء .
4 – إرفاق كل ذلك بالتشريف , والتقدير , فهم موصولون بالله تعالى ,لمباشرته ندائهم .
تلك بعض المعاني الملحوظة من خلال هذا النداء .
******
فقه دلالة أداة الشرط في قوله تعالى ( إذا تداينتم بدين )
يرى النحاة أن هذه الأداة ليست نصا في الشرط , ( والسبب الذي من أجله لا يستخدمونها في الشرط أنها تجيء وقتاٍ معلوماً , ومعنى ذلك أنها إنما تعيّن نقطة التقاء حدثين في المستقبل , دون أن تجعل حدوث أحدهما مشروطاً بحدوث الآخر , ولكنها في الشعر تضطلع بتلك الوظيفة الشرطية , فتجمع إلى تعيينها نقطة التقاء الحدثين في المستقبل ترتب حدوث أحدهما على الآخر . ( 48 )
( والنحاة يشعرون بأن الأصل في الأدوات الشرطية العمل , وأن الجزم سمة من سمات الأداة الشرطية , لذلك وصفوا الأدوات العوامل بأن ّ فيها معنى الشرط )( 49 ) .
وعلى هذا فإن ( إذا الشرطية تختص بالدخول على الجملة الفعلية , وما جاء على غير ذلك فمؤول ؛ محافظة على قاعدة الاختصاص (50) ( وفعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى , فإن جاء ماضياً كما هو الحال في الآية _ أُوِّل بالمستقبل ) ( 51 ) , كما أن من لوازم ( إذا ) الشرطية ( أنها تختص بدخولها على المتيقن , والمظنون , والكثير الوقوع , بخلاف ( إن ) فإنها تستعمل في المشكوك , والموهوم النادر ؛ ولهذا قال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ثم قال:( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة:6) فأتى بـ ( إذا ) في الوضوء لتكراره وكثرة أسبابه , و بـ ( إن )في الجنابة , , لقلة وقوعها , بالنسبة إلى الحدث .
وقيل( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) (لأعراف:131
وقيل : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) (الروم:36) .
أتى في جانب الحسنة بـ (إذا ) ؛ لأن نعم الله على العباد كثيرة , ومقطوع بها , و بـ ( إن ) في جانب السيئة ؛ لأنها نادرة الوقوع , ومشكوك فيها .
ولعل ( إذا هنا تصف واقعاً يعيشه المسلمون الآن , مع أن الأصل في الدَّين أن يكون استثناءً , واضطراراً , أو على الأقل يكون في منزلة أقل من البيع الناجز , لكن شيوع ( إذا ) في الآية يثبت العكس , وكأن القرآن الكريم يقول : إن الناس سيتخذون التداين أساساً للبيع والشراء , وهذا واقع
نحياه الآن ؛ فالمعاملات التجارية جلها الآن تقوم على الديون , حتى أصبح البيع الناجز هو الاستثناء , وهنا تكمن الخطورة .
البيان بالفعل: " تداينتم "
وهو فعل ماضٍ مبني على السكون ؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك , مع وجود الميم الدالة على الجمع , والفعل على وزن ( تفاعلتم ) , وهو بمعنى : " اداينتم " وكل منهما يأتي بمعنى الآخر , مثل : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:72) .
قال الزركشي : ( هو تفاعلتم , وأصله : تدارأتم , فأريد منه الإدغام تخفيفاً , وأُبدل من التاء دالٌ فسكن للإدغام , فاجتُلبت لها ألف الوصل , فحصل على " افّاعلتم " ) ( 52 ) .
والأصل في الصيغتين , أعني ( افّاعلتم , وتفاعلتم ) هي الثانية , وهي التي معنا في ( تداينتم ) ؛ لأن الأولى حدث فيها إدغام , وهو لاحق على عدم الإدغام , كما أن في ألف الوصل , وهي مجلوبة للنطق بالساكن ؛ ولذلك اوِّل المفسرون صيغة ( افاعلتم ) بـ ( تفاعلتم ) .
ومن ذلك قول الطبري في قول الله تعالى : ( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً َ) (لأعراف:38) .
: إنما هو تداركوا ) ( 53 ) .
وفي نحو: ( اثّاقلتُم ) يقول القرطبي : ( أصله : تثاقلتم ) أُدغمت الثاء في التاء لقربها منها , واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن , ومثله : ( اداركوا , وادّارأتم , واطّيرنا , وازّينت ) ( 54 ) .
وعند العكبري في التبيان يقول : ( قوله " فادّرأتم " أصل الكلمة تدارأتم , ووزنه : " تفاعلتم " , ثم أرادوا التخفيف , فقلبوا التاء دالاً ؛ لتصير من جنس الدال , التي هي فاء الكلمة ؛ لتمكن الإدغام , ثم سكّنوا الدال ؛ إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً , فلم يمكن الابتدء بالساكن , فاجتلبت له همزة الوصل , فوزنه الآن " افاّعلتم " بتشديد الفاء , مقلوب من " تفاعلتم " , والفاء الأولى زائدة , ولكنها صارت من جنس الأصل ؛ فيُنطق بها مشددة ,لا لأنهما أصلان , بل لأن الزائد من جنس الأصل ) ( 55 ) .
ومع كل هذا يبقى السؤال :
ما وجه اصطفاء " تداينتم " دون " اداينتم " ؟
إن صيغة " اداينتم " تشعر بأنهم الغُرماء , وأن المؤمنين جميعاً مدينون لغيرهم , وهذا غير مقصود ؛ لأن الدائن , والمدين في الآية من المؤمنين , وهذا مفهوم من الفعل " تداينتم " ؛ ولذلك قال ابن جريج : " من ادَّان فليكتب , ومن باع فليُشهد , ) ( 56 )
فاختيار صيغة " افتعل " لأن المقصود : مَنْ أخذ ديناً , أو اشترى بدين , فعليه الكتابة .
أما لو قيل : ( من تداين ) لفُهِم منه : من تعامل بدين , سواء أكان دائناً أم مديناً , وعليه فالصيغة الواردة في الآية توحِي بأن الأصل في المجتمع المسلم أن تكون حركة بيعه وشرائه وتعاملاته بينه وبين بعضه , وأنّ تعامله مع الآخرين يخرج عن الأصل إلى الضرورة .
كما أن وضع الفعل " تداينتم " في إطار الشرط يفيد هذا النوع من التعامل , فالديون والتعامل بها لابد أن يكون في إطار الضرورات , وليس العكس , مما يترتب عليه التضييق على هذا النوع من التعامل .
فإذا أضيف إلى كل ذلك معنى الدّين , وأنه يفيد الخضوع , والذل , لعلمنا أن الآية من بدايتها تحذر المؤمنين حتى يحُدُّوا من هذه المعاملات القائمة على الديون .
******
يـــــــــــــــــــــــتــــــــــــــــــــبــــــــــــــ ـــــــــع
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 30-12-2008, 04:23 PM
-
بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
-
بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 27-01-2007, 04:05 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات