

-
الفصل الأول
النظرة الكلية الأولى للآية
أولاً : موقع سورة البقرة على مدرجة القرآن الكريم
غير خفي أن ترتيب السور في المصحف الشريف يخالف ترتيبها نزولا , وذلك لاقتران النزول بملابسات ووقائع في حياة الناس زمن البعثة .
والثابت أن سورة البقرة ظلت تتوالى أياتها نزولا سنوات عدة , وكان في أثناء نزول آياتها تنزل آيات سور أخرى , وكان جبريل -عليه السلام - ينزل بالآية , وموضعها من سورتها على النبي –صلى الله عليه وسلم فيأمر النبي عليه الصلاة والسلام كُتّاب الوحي بأن توضع آية كذا في سورة كذا , محدداً موضعها(1)
حتى إذا ماتم القرآن الكريم نزولاً كانت كل آية في كل سورة في موضعها المحكم , وكذلك كل سورة في موضعها من النسق الكلي للقرآن الكريم على النحو الذي هو عليه في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا ( 2)
وإذا كانت الفاتحة هي أم القرآن ( 3 ) ؛ فإن البقرة هي السورة البكر , وهي أول الذرية , وهي بداية التفصيل الذي جُمِع في الفاتحة .
كما أنها أطول السور القرآنية , ومن أعلاها قدراً ؛ ولذلك أطلق عليها رسول الله –صلى الله عليه وسلم ( سنام القرآن ) (4) .
والسنام هو أعلى شيء في الجمل , وهو الموضع الذي لا يلتصق أبداً بالتراب , وهو مع ذلك كله مخزن الغذاء عند الجوع .
وكما أن السنام هو أعلى الشيء مكاناً , فهو أعلاه مكانةً أيضاً ؛ حيث يقال: مجد مُسنّم ؛أي عظيم .
وعليه فإن السورة تجمع بين عظم المكان والمكانة .
ولما كانت سورة البقرة في بداية القرآن الكريم فقد جمعت أصول العلاج لمشاكل الإنسان , وهي :
( العقيدة –والشريعة – والمعاملات ).
وهكذا ؛ فموقع السورة يشير إلى هذا القدر الكبير من التكاليف ؛ فالولد البكر يحمل من الأعباء بقدر ما يحظى من الحب والتقدير .
وكأن القرآن الكريم أريد في بدايته ترسيخ جل هذه الأمور ؛ حتى تستقر في القلوب من أول وهلة , فلا يفتح المسلم كتاب الله تعالى , ويستفتح بالفاتحة , ثم يردفها بالبقرة إلا ويجد هذا التفصيل للأمور التي تدور في خلده – من عقيدة , وشريعة , ومعاملات ؛ فجاء موقع السورة متناغماً مع حال المؤمن الذي امتلأت السورة بالإشارة إليه والحديث معه .
فبعد انفتاح النفوس بالفاتحة , واستشرافها إلى الوحي السماوي , تأتي سورة البقرة لتكون الجرعة الأولى من الدواء الشافي لكل داء , تماما ً كما يعطى المريض أول جرعة , وغالباً ما تكون هي أكبر الجرعات وأكثرها تركيزا , ثم تقل حتى تكون أصغر شيء ؛ وهذا ما حدث في القرآن الكريم
********
ثانياً : المقاصد الكلية داخل سورة البقرة
يقول الشيخ دراز- رحمه الله – ما خلاصته : ( إن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من مقدمة , وأربعة مقاصد , وخاتمة :
المقدمة من الآية 1 _ 20 في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من هداية قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يتردد فيه ذو قلب سليم , وإنما يُعرض عنه مَن لا قلب له , أو من كان في قلبه مرض .
المقصد الأول : دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام من الآية ( 21 _ 40 ) .
المقصد الثاني : في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم , والدخول في هذا الدين الحق من ( 40 _ 162 ) .
المقصد الثالث : في عرض شرائع الدين الإسلامي مفصلاً من ( 163 _ 283 ) .
المقصد الرابع : آية واحدة , وفيها الوازع الديني الباعث على ملازمة الشرائع , والعاصم من مخالفتها , وهى الآية رقم ( 284 ) .
ثم الخاتمة : في التعريف بالذين استجابوا , وما أعد لهم من ( 285 _ 286 ) . ( 5 )
ويقول أستاذي محمود توفيق سعد_ حفظه الله _ ( الذي أذهب إليه أن تقسيم العلاّمة دراز أفضل من تقسيمات أخرى إلا أنني أميل إلى أن السورة مكونة من مقدمة وقسمين كبيرين وخاتمة .
المقدمة من الآية (1 _ 20 ) مثلما أبان عنه الدكتور دراز .
والقسم الأول : من الآية ( 21 _ 167 ) من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) إلى آخر قوله تعالى ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة:167)
وهذا القسم قائم بالحقائق والتكاليف العقدية الإيمانية .
القسم الثاني : من الآية ( 168 _ 283 ) من أول قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168) إلى آخر قوله تعالى
( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة:283).
وآيات هذا القسم معقودة لبيان أحكام الشريعة ؛ لتكتمل بها صورة الإسلام, وهديه ؛عقيدةً وشريعةً .
واستهلال هذا الشطر بدعوة الناس كافة إلى أن يأكلوا مما في الأرض حلالاً طيبا , ولا يتبعوا خطوات الشيطان ؛ فهو عدوهم المبين يتناغم مع ما عُقدت له آياته من بيان أحكام الشريعة , وأبرزها أحكام المطعم ؛ لأنها أساس الأعمال ؛ فإن كل جسم نبت من حرام فإن مآله إلى النار , ولا تقبل صلاته وصيامه ولا زكاته ولا حجه ولا جهاده إلى آخر تلك الشرائع التي فصلتها آيات هذا العقد .
فالتوحيد رأس الجانب العقدي .
وطيب المطعم رأس الجانب التشريعي .
فكانت الدعوة إلى الجانب الأول للناس كافة في مستهل آيات القسم الأول العقدي .
وكانت الدعوة إلى الجانب الآخر للناس كافة في مستهل آيات القسم الثاني التشريعي .
ثم توالت التشريعات ؛ ليحقق الأمن من طيب المطعم وأحكام الصيام والجهاد والحج والإنفاق والقتال في الأشهر الحرم , والخمر والميسر , وأحكام الأسرة , وأحكام المعاملات المالية من صدقة ورباً وقرض ورهن , فختم آيات هذا القسم بأطول آية : ( آية المداينة ) , فآية الرهن ؛ مؤكدا الدعوة إلى الأمانة والقيام بحق الشهادة .
ثم تأتي الخاتمة : في ثلاث آيات ( 284 _ 286 ) مقررة أن الكون كله لله وحده , وأن ما في الأنفس يحاسب عليه ؛ فيغفر لمن يشاء , ويعذب من يشاء , فكأن في هذه الآية تعقيباً على القسمين معاً ( العقدي والتشريعي ) , وفي الوقت نفسه توطئة لذكر الذين قاموا بحق هذين القسمين فكان فيه رد عجز السورة على صدرها ) ( 6 )
وهذا التقسيم يضع السورة _ على طولها _ في إطارين اثنين مع وجود مقدمة وخاتمة , وهذا أقرب إلى واقع السورة , وأكثر تحديداً لأركانها , وأضبط لمعاقدها .
وتحديد هذه الفصول والمعاقد يبتغي من ورائه الوقوف على وجه البلاغة في موقع الآية من السورة. .
ثالثا : وجه البلاغة في موقع الآية
لقد تبين أن آية الدين تقع في ختام القسم التشريعي , بعدما تكون النفوس قد هُذّبت , وترسخ فيها أصول التوحيد , وتمرست على أنواع العبادات _ من صلاة وصيام وحج وجهاد _ وكأن الدَّين أعلى قدراً من حيث حاجته إلى نفوس عالية , وهمم سامقة , وقلوب صافية ؛ حتى تمتثل لما فيه من ضوابط وقوانين .
وفرق بين أن تلقي خطاباً لنفس خالية من البواعث والمحرضات ، وبين أن تلقي الخطاب نفسه إلى نفوس تشبعت بالإيمان , واستحضرت الآخرة واستعدت لها بأنواع العبادات _ لا شك أن هذا الأمر سيكون محل استجابة وموضع قبول .... ومن أجل ذلك وضعت آية الدين بعد كل هذه الرحلة الطويلة من حديث عن العقيدة وموقف الناس منها , ومن حديث عن التشريع وأعمدته الرئيسة ؛ فالنفوس صارت مهيئةً ,والإيمان في أعلى درجاته , وهذا يصور أهمية استثارة النفوس لتلقي الأوامر والنواهي عامةً ؛ ومنها المتعلقة بالأموال .
ثم يأتي الختام الزاخر بما أعده للممتثلين الطائعين الطامعين في عطاء الله تعالى وعفوه .
وكأن ما تقدم من توطئة لا يكفي , فلابد من إحاطة هذه الأوامر والنواهي من جانبيها بسياج منيع ؛ حتى لا يترك للنفوس مخرج , أو محيص عنها ؛ فيذكر بعد آية الدَّين آيات الختام , وهي آيات باعثة ومحرضة أيضاً على الامتثال والطاعة , لما تحمله من جزاء الطائعين وثواب الممتثلين , بالإضافة إلى ترهيب المعرضين , والتنويه بما ينتظرهم من عذاب أليم .
*********
رابعاً : المقصود الأعظم لسورة البقرة وعلاقة آية المداينة به
-------------------------------------
الإيمان بالغيب – وبخاصة البعث – هو أقرب المعاني إلى مقصود سورة البقرة , وقد انتشر ذلك في السورة على نحو ظاهر ؛ فلقد بدأت السورة بقوله تعالى : ( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة 1 - 3)
• فكان أول صفات المتقين : الإيمان بالغيب .
• وفي قصة آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للملائكة (َ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)
• * وتقرّ الملائكة بهذه الحقيقة فتقول ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32) .
• ثم يقول مرة أخرى : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33) .
• ( وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:72) .
• (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (البقرة:77)
• ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )( البقرة 255)
وفي شأن البعث قيل
• ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28)
• ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46)
• ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:56)
• ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:73)
• (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (البقرة:243)
• ( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (البقرة:258)
• )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ٌ) (البقرة:260)
• وكانت آخر آية نزلت هي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) (البقرة:281)
كما أنه لا توجد سورة جمعت بين أركان الإسلام , والصلاة والزكاة والصيام والحج كما جاءت في سورة البقرة , وهي كلها مبنية على الإيمان بالغيب , والبعث , حتى الجهاد لا يُقدِم عليه إلا من آمن بالغيب , والبعث .
وإذا كان الإيمان بالغيب هو البرهان على صحة العقيدة , وسلامتها من الخلل ؛ فلا عجب في أن تجد سورة البقرة دائرة حول هذا المقصد العام , ومن مظاهر ذلك أنها ذكرت في مفتتحها تصنيف الناس من خلال عقيدتهم ؛ فهم : إما مؤمنون , أو كافرون , أو منافقون , وهذا تصنيف عقدي في المقام الأول .
وهنا يمكن القول إن ذكر آية المداينة في هذه السورة وتحت مظلة هذه الغاية إنما هو أحد مقومات الحفاظ على العقيدة الصحيحة , وهذا يشير إلى أهمية الشفافية في علاقات الناس المالية , وأثر هذه المعاملات على عقائد الناس .
علاقة الآية بالمقصود الأعظم للسورة :
لاشك أن هذا النوع من المعاملات يشترك فيه أطراف عدة : الدائن , والمدين , والكاتب , والشهود , وهؤلاء جميعا تلحقهم تبعات وتكاليف وقيود لايمكن القيام بحقها إلا إذا وجد باعث ومحرض قوي يدفعهم إلى الالتزام , وأداء ما يطلب منهم .
ولست أرى باعثًا ومحرضاً على التزام ذلك أقوى من تدبر أمر البعث والإيمان به ؛ فصاحب المال مشترياً كان أو بائعاً أو مقرضاً يحتاج إلى شحنة إيمانية ؛ كي يترك ماله فترة من الوقت عند الغير وهو مطمئن النفس .
والذي يأخذ الدَّين يحتاج أيضا إلى الإيمان بالبعث ؛ ليكون حاجزا له عن المماطلة أو الإنكار .
وكذلك الشهود والكاتب : لأنهم وسطاء بين متناكرين في الغالب , والأصل في الشهود أنهم لا يأخذون عوضاً عن شهادتهم ؛ فالذي يدفعهم إلى الشهادة غالباً إيمانهم بالبعث والحساب .
وهكذا اتصلت الآية بالإيمان بالبعث اتصالاً وثيقاً .
كما أن اسم السورة ( البقرة ) وهي حادثة حدثت بين موسى عليه الصلاة والسلام وقومه حين جادلوه في ذبح البقرة وقالوا : ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) (البقرة:67)
فكأنهم حين أنكروا الغيب أنكروا ذبح البقرة ؛ إذ لا علاقة _ في نظرهم _ بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل , ولو أنهم آمنوا بالغيب لما سألوا عن ماهيتها , ولونها , وتحديدها ..إلخ .
ومن هنا يتبين لنا أن قصة البقرة ذات علاقة وثيقة بالإيمان بالغيب ؛ ذلك لأن البقرة كانت سبباً في عدة أمور ؛ منها : إحياء الميت , وانفراج الغم الذي أحاط بالناس , والأهم من كل ذلك تعليم بني إسرائيل أن الإيمان بالغيب يستوجب التجرد من الأساليب الظاهرة .
كما أن هذا الاسم يحمل تحذيراً من منهج اليهود في المجادلة , وتنبيهاً على خطأ أسلوبهم الذي استخدموه مع رب العزة ومع أنبيائه .
أضف إلى ذلك أن حادثة البقرة كانت لإظهار الحق وحفظه من الضياع , كما هو حال آية الدين .
فالبقرة أظهرت الحق في الدماء ,
وآية الدين تظهر الحق وتحفظه في شأن الأموال والديون .
********
خامساً : وجه اختصاص سورة البقرة بآية الدين
---------------------------------------
في القرآن الكريم قد ترى المعنى الواحد مبثوثاً ومصروفاً في أكثر من سورة , لكن هناك معانٍ لم تذكر إلا في سورة واحدة ولا شك أن هذا المعنى الفريد له علاقة وثيقة بمقصود السورة الأعظم , بل إن هذا المعنى يعدُّ رافدا من روافد الوصول إلى هذا المقصود الأعظم .
يقول أستاذنا محمود توفيق- حفظه الله - : قصة البقرة مثلاً لم ترد في غير سورة البقرة وكذلك قصة هاروت وماروت , وقصة تحويل القبلة , وفريضة الصيام وبيان أحكامه , وقصة طالوت وجالوت , وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت , وقصة الذي حاج إبراهيم في ربه , وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها , وقصة إبراهيم والطير , وكذلك أحكام المداينة (7) .
والذي يعنينا هنا هو آية المداينة .
وبالنظر في تلك المقاصد التي اختصت بها السورة دون غيرها يلحظ أنها وضعت في إطار القصة عدا الحديث عن الصيام وعن المداينة ؛ فقد جاءا في إطار قوله ( كُتب عليكم ) .
أما الصيام فقد كتبه الله تعالى علينا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) .
وأما المداينة فلقد أُمرنا بكتابتها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ) (البقرة:282) .
أما وجه اختصاص السورة بآية المداينة فيقف من ورائه عدة أسباب :
منها : أن السورة جمعت بين الكليات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها , وهي ( الدِّين _ والنسل _ والعقل _ والنفس _ والمال ) وحفظ المال يشمل وضع الضوابط للتداين حتى لا يضيع بعجز المدين أو مماطلته .
ومنها : أن المعاني التي حوتها سورة البقرة تمثل الركائز التي يقام عليها بنيان الأمة , ومن أخطرها المعاملات المادية ؛ فكان البدء بها في أول سورة قرآنية من الضرورة بمكان .
******
سادساً : السياق العام والخاص للآية
لكل آية قرآنية عدة سياقات : سياق مباشر يتعلق بالمعاني الجزئية المحيطة بالآية .
وسياق أشمل داخل السورة يستعرض المعاني التي تناولتها , وعلاقاتها بالآية محل البحث .
ثم سياق عام قد يمتد ليشمل القرآن الكريم كله وبهذا يتحقق مقصود العلماء في أن القرآن الكريم كالكلمة الواحدة .
( وكلما ضاقت دائرة السياق كان أثره _ في النظم البياني أولاً وفي فقهه ثانياً _ أكثر جلاءً , وكان إدراكه أيسر , ومن ثم خفَّت مؤنة فقهه على الكثيرين .
وكلما كانت دائرة السياق أوسع كان أثره في النظم أعمق , وكان فقهه أخفى , وإدراكه أعسر فثقل على كواهل الكثيرين , فقلّتْ الدراسات التي تعنى بسياق السورة , وسياق القرآن الكريم كله ) ( 8 )
والنظر البلاغي في السياق القرآني ليس مجاله الدائرة الصغرى من دائرة السياق , ومَن اقتصر عليه يكون قد غبن الدرس البلاغي .
بل رسالته الفريضة أن يمد نظره إلى سياق السورة كلها , وسياق القرآن الكريم كله , إن استطاع ؛ ذلك لأنه يستشرف إلى ما يؤدي تمام المعنى القرآني في دقائقه , ورقائقه , ولطائفه , وذلك لا يتحقق إلا في سياق السورة , ثم في سياق القرآن الكريم كله .
( وأهل العلم يدركون قيمة البناء البياني للسورة ؛ إذ هي وحدة التحدي الصغرى الذي جاء به القرآن الكريم , وتمام المعنى لا يدرَك في سياقه الجزئي , وإنما يُدرك في سياق السورة كلها التي هي وحدة التحدي .. وكل درس لآية خارج سياق سورتها هو درس خداج , عاجز عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآني التي تُغزو الروح , والقلب ) ( 9 )
وفي سياق سورة البقرة تُعدّ آية الدين حلقة من حلقات الحديث عن الاقتصاد الإسلامي , والتي قامت على أساس الحلال , والحض عليه , ونبذ الحرام , والتحذير منه .
فالجذر الذي بنيت عليه كل المعاملات هو قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168).
فهذا هو أصل المعاملات , وهو بداية القسم التشريعي في سورة البقرة , بعد القسم العقدي , والذي بدأ بقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) .
فكأن السورة يمكن جمعها في سطرين ؛ حيث جاءت نداءً للناس كافة بأمرين :
الأول : عبادة الله تعالى , والآخر : أكل الحلال .
وفي السياق التشريعي جانب كبير يتعلق بالأموال , والمكاسب المالية , ثم جانب آخر يتعلق بالإنفاق , ودار السياق على هذين المحورين :
1 – مصدر المال
2 – إنفاق المال .
والملاحظ أن هناك خطابين :
الأول : للجميع بلفظ ( الناس ) وهو ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168) .
والآخر : جاء للمؤمنين , وقد فصل هذا الأخير إلى قسمين : ( أمر ونهي ) .
فقيل في الأمر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:172)
وقيل في النهي : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) (البقرة:188) .
وهذه دعائم ثلاث توضح المرتكزات التي تُبنى عليها القواعد الاقتصادية , وقد صيغت في قالب الجمع , ثم التقسيم : الجمع في قوله ( يا أيها الناس ) .
والتقسيم في قوله ( يا أيها الذين آمنوا كلوا ) , ثم , ( ولا تأكلوا أموالكم ) .
ثم جاء بعد ذلك حديث عن الإنفاق , وهو الركيزة الثانية , أو الجناح الآخر للاقتصاد .
فالاقتصاد ( كسب , وإنفاق ) ؛ فقيل أولاً : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195) .
ثم يتصاعد هذا الحديث عن وجوه الإنفاق , فيذكر مرة أن الإنفاق ( َلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (البقرة:215) .
ثم وجوه الإنفاق على النكاح ومستتبعاته , ثم الصدقات , ثم تحديد نوع المال المنفق , وأنه لابد أن يكون من الطيبات , ويظل الإلحاح على النفقة , وتهذيبها وتحري الطيبات منها , والتوجه بها إلى الله تعالى وحده ......إلخ
وهذا يوضح أن الحديث عن الإنفاق زاد بكثير على الحديث عن الكسب , فَلِمَ ؟
في نظري لأن القصد من الكسب هو الإنفاق , ولم يكن الكسب يوماً غايةً لذاته .
ثم تعاود السورة الحديث عن ضرب آخر من الكسب , وهو الكسب الربوي , وبينت خطورته , وإثم من يتعاطاه ........
ثم جاءت آية المداينة , لكنها فصلت عن الحديث عن الربا بآية تحذيرية , وهي آخر آية نزلت من القرآن الكريم , وهي قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281) .
ووضعها بين آيات الربا وآية الدين يفيد أنها تحذر من الربا وما يؤدي إليه .
أما الربا فقدّم عليها , وأما ما يؤدي إليه فتأخر عنها , فكأن الآية توسطت بين الربا وبين الديون , وهي الباب المؤدي إلى الربا غالباً .
وهذا الترتيب _ أعني وضع آيات الربا , ثم التذكير بالرجوع إلى الله تعالى , ثم آية المداينة _ هذا الترتيب يعد من أبلغ ألوان التحذير ؛ لأن النفوس مازالت في خوف وترقب , واستشعار الغضب الإلهي بسبب الربا .
وحين تأتي آية المداينة في هذا الجو المفعم بالخشية , والرعب , والحذر , والترقب ؛ فإن النفوس تضفي على المداينة , وأنواعها ألواناً من التحذيرات التي مازالت عالقة بها من الربا الذي هو حرب لله تعالى ورسوله , ومن مشاهد القيامة التي تجعل الولدان شيبا , ولا شك أن آية المداينة حين صاحبت آيات الربا قد أصابها من وعيدها , وتهديد أصحابها , والمبالغة في إنذارهم الكثير .
ولم لا والديون بوابة الربا , ومفتاح من مفاتيحه ؟ !
ولم لا وأكثر الخصام بين الناس يكون بسبب تلك المعاملات ؟!
ولم لا وآية المداينة قد امتلأت بالأشواك التي تحتاج إلى حذر شديد عند التعامل بها ؟ !
فإذا توجه البحث إلى النظر في وجود آية االمداينة في خواتيم سورة البقرة لتبين أنها جاءت بعد طريق طويل , سلكت فيه السورة كل سبيل لترسخ قواعد التوحيد , وتفصل شرائع الإسلام , وتربط كل ذلك بالبعث والنشور والرجوع إلى الله تعالى .
وهذا يعني أن النفوس في تعاملاتها المادية تحتاج إلى توطئة طويلة من الأوامر الدينية , كما تحتاج إلى ضوابط صارمة من الأوامر والنواهي , في هذا المضمار ؛ ولذلك لا توجد آية قرآنية حوت من المحاذير ما حوته آية المداينة .
إن الحديث عن الاقتصاد الإسلامي من الأهمية بمكان ؛ لأنه ركيزة من ركائز ثبوت الدين , ودوامه , وانتشاره ؛ ولذلك وضع في أول سورة قرآنية بعد الفاتحة .
والبدايات دائماً تكون كالأسس والدعائم لكل بنيان , فإذا نظرنا إلى الإسلام كبنيان نلحظ أنه يقوم على ركيزتين :
الأولى : عقيدة راسخة تثمر عبادة وأخلاقاً .
والأخرى : قوة ٌ تحمي هذه العقيدة وتلك العبادة , وتضمن بقاء الأخلاق وانتشارها , ومن أجل ذلك كان محور سورة البقرة يدور حول هذين الأمرين ؛ لأن الخلل فيهما هدمٌ لمعالم الأمة المسلمة وتفتيت لأركانها , ولا يقوى أحدهما إلا في قوة الآخر ؛ فالأمة التي تُعنى بالعقيدة ولا تعنى بالقوة التي تحمي هذه العقيدة لابد أن يأتيها عدو يزلزل هذه العقيدة .
ومن هنا تتبين علاقة هذه الآية بالسورة عامة , وبالمقصود الأعظم منها , وهذه العلاقة تتضح , وتنكشف في مواضع , وتخفى وتستكن في مواضع أخرى , لكن في النهاية تظل علاقة الآيات كعلاقة الأنساب في عالم الإنسان , وكأن السورة في الذكر الحكيم قبيلة في أمة يربطها أصل واحد , وإن اختلفت صور أفرادها وأشكالهم , وألوانهم , لكنهم جميعا إلى رجل واحد ( 10 )
*******
سابعا: علاقة الآية بأول سورة البقرة وآخرها
لاشك أن آية المداينة خيط من خيوط السورة , وعنصر من عناصرها , وهذا العنصر يستقي ماءه من جذر السورة , أو المقصود الأعظم , ويرتبط بالباقي برباط يدق في موضع , ويعظم في آخر .
والذي لابد من الالتفات إليه هو النظر إلى الآية على أنها ختام آيات التشريع في سورة البقرة , والتشريع ما هو إلا رافد كبير من روافد النهر الذي أشارت إليه المقدمة .
كيف هذا ؟
إن الجمع بين آية المداينة وأول سورة البقرة يلحظ فيه مايلي :
أولاً : حدثتنا السورة في بدايتها عن عدة معان :
* الكتاب * نفي الريب عنه * هداية المتقين * الإيمان بالغيب
وهذه المعاني شاخصة في آية المداينة ,فأول شيء في الآية بعد النداء هو قوله تعالى ( فاكتبوه ).
ثم تتابعت هذه اللفظة بصور متعددة فقيل :( وليكتب- كاتب – كاتب –يكتب –فليكتب –تكتبوه – كاتب )
وهذه الكثرة في مادة الكتابة ليست إلا لحفظ وضمان الحقوق من الضياع أو النسيان أو الإنكار , وكل ذلك يتصل بالكتابة اتصالاً وثيقا .
ثانيا : تحدثت الآية عن الغاية من الكتابة , والتوثيق ؛ وهي نفي الريب , وذلك في قوله تعالى :
( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) (البقرة:282) .
وكذلك أول البقرة حيث قيل : ( لا ريب فيه هدى ) .
فكأن نفي الريب عن الكتاب اشتق منه نفي الريب عن الكاتبين للديون .
ثالثاً : تحدثت الآية عن أن هذا التشريع يؤدي إلى تقوى الله تعالى ؛ فقالت : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282) .
وكذا أول البقرة قيل فيه : ( هدى للمتقين ) .
ففي آية المداينة يحقق التوثيق تقوى الله تعالى , وفي أول البقرة يحقق الكتاب تقوى الله تعالى .
وهكذا نجد لُحمة النسب , والماء الجاري بين الآيات ماءً واحداً وإن اختلفت مجاريه .
علاقة الآية بختام سورة البقرة
جاء في ختام سورة البقرة قوله تعالى ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (البقرة:284)
وهذا تذكير بأن أخذ الديون وردها أو أكلها سحتاً لن يخرج عن ملكوت الله تعالى وتقديراته .
ثم إن ختام السورة تعرض لما يجول في نفوس الناس وهذه الخواطر وتلك الخلجات لها علاقة وثيقة بالديون : من حيث نية الأداء , أو نية الإتلاف , كما جاء في الحديث : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّ الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) (11 )
فالنية وما يدور في النفس هو ما عليه مدار الحساب .
أضف إلى ذلك امتلاء الآية بهذه الأوامر وتلك النواهي , والشروط , مما يستوجب السمع والطاعة , كما جاء في ختام البقرة : ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
ثم إن الدَّين وهو عبء ثقيل , بل هو هم بالليل وذل بالنهار لايبعد عن قول الله تعالى: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ َ) (البقرة:286
وهكذا تتشابك الخيوط وإن بعدت المسافات بين الآية وأول السورة , وختام السورة مما يزيد من وحدة الهدف , وهذا يقوي معني أن السورة القرآنية شبكة واحدة يجمعها نمط من الخيوط المتوازية تارة , والمتقابلة تارة أخرى , والمتجانسة تارة ثالثة .... إلخ
*****
ثامناً : وجه البلاغة في طول الآية
لا يشك أحد في أن تحديد فواصل الآيات , ورؤوسها توقيف من الله تعالى ( حيث تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن رب العزة جل وعلا )(12)
والسؤال الذي يطرح نفسه :
ما وجه جمع كل هذه المعاني والأغراض في آية واحدة , وقد كان من الممكن _ عقلاً _ أن تُجزّأ هذه الآية إلى عدة آيات ؟
لكن هذا لم يحدث ؛ حيث احتلت الآية صفحة كاملة من المصحف الشريف , وضم بعضها إلى بعض , حتى صارت آية واحدة .
والذي أراه أن هذا الطول لون من ألوان التحذير ؛ لأن طريق الديون طريق طويل , مليء بالعقبات , كما أن آثار الديون لا تزول سريعا , بل تبقى عالقة بالنفوس ,مثل الألم الذي لا يزول حتى بعد العلاج , وكأن طول الآية يوحي بأفضلية عدم التداين ؛ لأنه بابُ خطرٍ ؛ فالصبر أولى منه لمن يريد الاقتراض .
وهكذا تحاول الآية أن تصرف الناس عن دروب التداين إلى طريق آخر ؛ فطالت ؛ ليشق عليهم جمعها وقراءتها .
وأمر آخر :
وهو أن الآية جمعت شروطا وضوابط لضمان الحقوق , فموضوعها واحد , فلما اتحد موضوعها جُمعت في آية واحدة .
فإن قيل : فإن الآية التي بعدها موصولة بها , قلت : إن الآية التي بعدها في شأن الرهن , وهو باب آخر , حتى وإن كان فيه تداين , لكنه خاص بما يكون أثناء السفر حالة عدم توفر الكاتب , وآية الدين في أثناء الإقامة , فلما كان هناك نوع اختلاف فصلت هذه عن تلك .
ووجه ثالث :
وهو أن الآية بطولها هذا أصبحت من الشهرة بمكان , مما جعلها موطن حضور في حديث المسلمين , وتدارسهم للقرآن الكريم , وهذا يستتبعه استحضار ما فيها من قيود دائما .
فإذا ضم هذا المعنى إلى ما بين الناس من تعاملات مالية , وأغلبها في ميدان الديون لعرفنا أن هناك علاقة وثيقة بين طول الآية وما شاع بين الناس من تعاملات ؛ حيث وضع القرآن الكريم أشهر آية لتكون علاجاً لأشهر المعاملات .
فالمشهور الشائع في القرآن علاج للمشهور الشائع في المعاملات , وهذا توافق عجيب .
ووجه رابع :
وهو أن هذه الآية ذكرت في أطول سورة في القرآن الكريم , فهناك مناسبة بين طول الآية وطول السورة , وبخاصة أنها من آيات الأحكام , ومن سمات هذا الضرب من الآيات التفصيل والإسهاب ؛ حتى لا تكون المعاملات موضع اجتهاد أو أخذ ورد وبخاصة أن الآية تتحدث عن المعاوضات المالية التي هي أصل كثير من النزاعات بين الناس , ولما كانت هذه المعاوضات متنوعة إلى ديون وتجارات , استلزم ذلك الإسهاب ؛ استقصاءً لهذه الحالات المشار إليها .
وزاد من ذلك : أن الآية سلكت في معالجتها سبيل درء الشبهات , وسد الذرائع المؤدية إلى المنازعات , وأخذ الحيطة , وذلك كله يستلزم الإسهاب والإطناب في العرض ؛ ليواكب زخم هذه الأساليب العلاجية التي حوتها الآية .
***
تاسعاً: آية المداينة بين التثقيف والتكليف
إن القرآن الكريم - والذي تمثل آية المداينة لبنة من لبناته- معنيٌ بتثبيت الحكم , كما أنه معنيٌ في الوقت نفسه بتهيئة القلوب لتقبّل هذا الحكم ؛ ولتقتنع به , وتقبل عليه إقبال الشغوف , وليس من البلاغة بيان الحكم دون تهيئة النفوس لاستقباله , كما أنه ليس من البلاغة أيضاً الكشف عن المعاني الوجدانية الآسرة للقلوب الباعثة على الأريحية دون تحديد المراد .
والمقصود من الكلام أن البلاغة العالية هي التي تمزج بين الرافدين : بين أحكام الشريعة الضابطة لحركة الحياة , والمعاني الروحية الباعثة على النشاط للتمسك بهذه الأحكام .
( من هنا كان المعنى القرآني مزيجا متفاعلاً من عنصرين : التشريعي – وينطوي فيه العَقَدي – والروحي ؛ الماثل في غرس القناعة الفكرية , والطمأنينة الوجدانية بهذا العنصر التشريعي في قلب المكلَّف .
ولا تكاد تجد معنى قرآنيا إلا وهو وليد التفاعل بين هذين العنصرين , على اختلاف في مقادير هذين العنصرين ودرجات ظهورها .
وقد يظن أن ثم ما هو مشغلة الفقهاء وحدهم , وهو المسمى بآيات الأحكام , ولا سبيل للبلاغي إلى تدبره إذ إن مشغلة البلاغي عندهم المعاني الروحية , وأن ثمة ما هو مشغلة البلاغيين دون الفقهاء كالقصص القرآني .
وذلك نهج خاطئ , إن لم يكن آثما ؛ فما من آية إلا قد تَشكَّل معناها من الشرع والروح معاً , ومنزلها من السياق الكلي للسورة هو الذي يبرز عنصرا على آخر , وبناؤها اللغوي هو الذي يمنح عنصرا جلاءً وقرباً إلى الإدراك دون الآخر . ( 13 )
وفي جميع الأحوال يظل ارتباط الحكم بالمحرضات على قبوله , وارتباط الشرع بالدوافع المؤثرة في قبوله ,يظل هذا الارتباط قائماً لا ينفك في جميع آي القرآن ؛ يقول المرحوم سيد قطب في قيام هذا الرابط في آية المداينة : ارتباط التشريع بالوجدان الديني في الآية ارتباط لطيف المدخل , عميق الإيحاء , قوي التأثير , دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية , وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد , وموقف الشهود والكتاب , فينفي هذه المؤثرات كلها , ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها .
إن الإعجاز هو صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء , والتوجيه , بل هو أوضح وأقوى ؛ لأن الغرض هنا دقيق يُحرِّفه لفظ واحد , ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ ) ( 14)
وعلى سبيل المثال : لقد صُدّرت الآية بذلك النداء : ( يا أيها الذين آمنوا ) وفي خصائص نظمه واصطفاء عناصره على هذا النحو دلالة على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعاً من إيمان وتسليم , وإشارة إلى أن إيمانهم لا يزال فعلاً , وأنهم ما يزال فيهم بقية من غفلة , لكن أيضا فيهم تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم , وتشريفهم بمباشرة الحق _ عز وجل _ نداءهم دون قوله : - قل يا أيها الذين آمنوا - , وهذا التكليف والتذكير والتشريف المحتضن في رحم النظم , متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد ) (15)
هذا نمط واحد يحمل التشريف والتكريم , كما يحمل التذكير بالغفلة , والحث على نقضها , وهكذا تفاعلَ في العنصر الواحد عاملان من عوامل الحض والتهيئة لاستقبال الأوامر والنواهي القادمة في : ( فاكتبوه _ وليكتب _ واستشهدوا ..إلخ )
ثم تعاود الآية ذكر ما يهيج النفوس وُيزجي أوارها , فيقال للكُتّاب : ( كما علمه الله ) , هذا عنصر من عناصر التثقيف المحرضة على قبول الأمر ...
ثم يؤتى بالتكليف فيقال : ( فليكتب وليملل الذي عليه الحق ) ثم يأتي تثقيف آخر , أو محرض آخر فيقال : ( وليتق الله ربه ) فيتبعه تكليف وهو ( ولا يبخس منه شيئا ) .... وهكذا تظل الآية تراوح وتمازج بين التكليف والتثقيف على نحو بارز ؛ لتُقبل النفوس على التكاليف إقبال رغبةٍ وشغف , وتلذذ , فترى فيما كلفت به من شرائع لذة ومتعة واسترواح ...
بل إن هذا المزج لا تحس معه أي نفس مرهفة بأي شيء من التباين والتفاضل , على الرغم مما قد يظن أن البيان التكليفي يقتضي غير ما يقتضيه البيان التثقيفي , ألفاظاً وتوقيعاً صوتياً ...إلخ ( 16 )
وهذا المزج ( الذي لا يكاد يفصل بعضه عن بعض ) بين الخطاب التكليفي والخطاب التثقيفي يشير إلى حرص القرآن الكريم على إحاطة التكاليف بالبواعث التي تضعها موضع التنفيذ السريع , وذلك ضرب من ضروب علاقات المعاني , وهي لب البلاغة ومعدنها , والذهب الإبريز الذي يتطلب البحث عنه والتعب من أجله ؛ يقول الإمام عبد القاهر : ( واعلم أن غرضي من هذا الكلام الذي
ابتدأته , والأساس الذي وضعته , أن أتوصل إلى بيان أمر المعاني , كيف تختلف وتتفق , ومن أين تجتمع وتفترق , وأفصل أجناسها وأنواعها , وأتتبع خاصها و مشاعها ...إلخ ) (17 )
أضف إلى ذلك أن قمة الجمال اللغوي أن يأتي الكلام موافقاً لطبيعة النفس البشرية , ومنسجماً مع مداخلها , ومخارجها .
ولاشك أن النفس البشرية تنفر من التكاليف المجردة , وتتأبى على الأوامر العارية من النصح , ومن المثيرات والمحرضات , لكنها في الوقت نفسه تحب المقدمات وتُثار للمحرضات , وتسرع إلى كل شيء كانت قد هُيئت له , وكما قال عبد القاهر : ( إن إعلامك الشيء بغتة ليس كإعلامك له بعد توطئة ) ( 18)
تلك فطرة النفس البشرية التي لم يغفلها القرآن الكريم , حيث وضع المحرضات قبل , أو بعد , أو في أثناء التكاليف حتى ترغب في أدائها النفوس .
والعجيب أن آية الدين جمعت بين الأصناف الثلاثة ؛ حيث سُبقت بأبلغ آية_ وآخر الآيات نزولاً _ وأكثرها دفعاً وتحريضا ً إلى الامتثال , وهي قول الله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281)
ثم جاءت بعد آية المداينة عدة آيات أخرى باعثة ومحرضة , وذلك قوله تعالى : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:284)
كما اختلطت الآية بالبواعث والمحرضات من مثل : ( وليتق الله ربه ) ومثل ( ذلكم أقسط عند الله ) ومثل ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) .
وهذا يعني : أن الدَّين حمل ثقيل على كلا الطرفين , بل على جميع الأطراف : الدائن والمدين والشهود والكاتب , بل على الأمة كلها , وهذا يفسر وجه استعاذة النبي _ صلى الله عليه وسلم _ منه , حيث يقول ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ بك من الجبن والبخل , وأعوذ بك من غلبة الدين , وقهر الرجال ) ( 19 )
***
عاشراً : مصطلحات وحدود
الواقع أن هذه الآية لها اتصال وثيق ببعض المصطلحات الفقهية , منها ما هو قديم مثل [ السَلَم ], ومنها ماهو حديث مثل [ البيع بالتقسيط ] , ولقد رأيت من المناسب أن أشير إلى هذه المصطلحات , وأُعرِّف بها تعريفاً موجزاً يكشف النقاب عنها , وبالقدر الذي يتناسب مع طبيعة هذه الدراسة البلاغية , مع الإشارة إلى أن جميع هذه المصطلحات متصل بدائرة الديون من قريب أو من بعيد .
( قال الشافعي – رحمه الله - : قول الله تعالى : " إذا تداينتم بدين " يحتمل كل دين , ويحتمل السلف خاصة , وقد ذهب فيه ابن عباس إلى أنه في السلف .....وإن كان كما قال ابن عباس في السلف قلنا به في كل دين قياساً عليه لأنه في معناه ) ( 20)
ويقول القرطبي : ( قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلم خاصة , معناه : أن سَلَم أهل المدينة كان سبب الآية , ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً ) ( 21)
وأول ما ينبغي الوقوف عنده هو مصطلح :
الدَّيْن
( وحقيقته : عبارة عن معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً , والآخر في الذمة نسيئة , فإن العين عند العرب ما كان حاضراً , والدين ما كان غائباً , قال الشاعر :
لترمِ بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحُفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ًوناراً فذاك الموت نقدا غير دَيْن
وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى في قوله سبحانه ( إلى أجل مسمى ) (22)
ويستعمل الفقهاء كلمة الدَّيْن بمعنيين : أحدهما أعمّ من الآخر .
أما بالمعنى الأعم فيريدون به مطلق الحق اللازم في الذمة ؛ بحيث يشمل كل ما يثبت في الذمة من أموال, أياً كان سبب وجوبها , أو حقوق محضة كسائر الطّاعات : من صلاة , وصوم , وحج ...إلخ .
وأما بالمعنى الأخص – أي في الأموال – فهو ما يثبت في الذمة من مال في معاوضة , أو إتلاف , أو قرض (23)
ومن صفات الله تعالى الديان , وقيل من أسمائه , وفي معناه يقول ابن منظور : ( هو القهار , وقيل : هو الحاكم , والقاضي , وهو فَعَّال من : دان الناس ؛ أي : قهرهم على الطاعة , يقال : دنتهم فدانوا ؛ أي قهرتهم فأطاعوا .. ومنه : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت , أي : أذلها واستعبدها , وقيل : حاسبها , وفيه : ثلاثة حق على الله عونهم _ منهم : المدين الذي يريد الأداء , والمديان : الكثير الدين , الذي علته الديون , وهو مفعال من الدَّين للمبالغة ) ( 24)
القرض:
( وهو نوع من السلف , وهو جائز بالسنُّة والإجماع وقيل : هو كل ما يضمن بالمثل عند الاستهلاك , وقيل : هو في اللغة : ما تعطيه لتتقاضاه , وقيل : هو دفع المال لمن ينتفع به على أن يرد بدله )(25)
ويصح القرض بلفظ السلف , والقرض ؛ لورود الشرع بهما .
أما الفرق بين القرض والدين : فهو أن القرض أكثر ما يستعمل في العين والورق , وهو أن نأخذ من مال الرجل درهماً لترد عليه بدله درهماً , فيبقى ديناً عليك إلى أن ترده ؛ فكل قرض دين , وليس العكس , وذلك أن أثمان ما يشترى بالنسئ ديون وليست بقروض , فالقرض يكون من جنس ما اقترض وليس كذلك الدين ) (26 )
ويجوز أن نفرق بينهما فنقول : قولنا : يداينه , يفيد أنه يعطيه ذلك ليأخذ منه بدله , ولهذا يقال : قضيت قرضه , وأديت دينه , وواجبه , ومن أجل ذلك أيضاً يقال: أديت صلاة الوقت , وقضيت ما نسيت من الصلاة ؛ لأنه منزلة القرض . (27)
السلم :
بالتحريك : السلف , وأسلم في الشيء , وسلم , وأسلف , بمعنى واحد , والاسم : السلم وهو أن يعطي ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أمد معلوم , فكأنك قد أسلمت الثمن , بمعنى السلف , ويقول : الإسلام لله عز وجل , كأنه ضن بالاسم الذي هو موضع الطاعة , والانقياد لله عز وجل عن أن يسمى به غيره , وأن يستعمل في غير طاعة الله , ويذهب به إلى معنى السلف . ( 28 )
وعند القرطبي : ( حدّ علماؤنا السلم فقالوا : هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة , بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم . فتقييده بـ ( معلوم في الذمة ) يفيد التحرُّز من المجهول , ومن السلم في الأعيان المعيَّنة مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي _ صلى الله عليه وسلم _ فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعينها , فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر ؛ إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا .
وقولهم : ( محصور في الصفة ) تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة .
وقولهم : ( بعين حاضرة ) تحرز من الدين بالدين .
وقولهم : ( أو ما هو في حكمها ) تحرز من اليومين , أو الثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه ؛ فإنه يجوز تأخيره عندنا , ذلك القدر , بشرط , وبغير شرط لقرب ذلك ....
وقولهم : ( إلى أجل مسمى ) تحرز من السلم الحال ؛ فإنه لا يجوز على المشهور ....
ووصف الأجل ( بالمعلوم ): تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه(29)
وقيل في السلم : ( أن يسلم عوضا حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل مسمى , ويسمى سلماً وسلفاً , يقال : أسلم , وسلّف , وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع , ... ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع , وهو جائز بالكتاب والسنة , أما الكتاب , فقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ.... )
وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه , ثم قرأهذه الآية .
ولأن هذا اللفظ – أي الدين –يصلح للسلم , ويشمله بعمومه .
وأما السنة , فروى ابن عباس عن الرسول _صلى الله عليه وسلم _ أنه قدم المدينة , وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث , فقال ( من أسلف في شيء , فليسلف في كيل معلوم , ووزن معلوم , إلى أجل معلوم ) متفق عليه .
وروى البخاري عن محمد بن أبي مجاهد قال : أرسلني أبو بردة وعبد الله بن أبي شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى , وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا : كنا نصيب المغانم مع رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فكان يأتينا أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب , فقلت : أكان لهم زرع , أم لم يكن لهم زرع ؟
قال : ما كنا نسألهم عن ذلك .
وأما الإجماع : فقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنهم من أهل العلم على أن السلم جائز ؛ ولأن الثمن في البيع أحد عوضي العقد ,فجاز أن يثبت في الذمة , ولأن بالناس حاجة إليه ؛ لأن أرباب الزروع , والثمار , والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم , وعليها لتكمل , وقد تعوزهم النفقة , فجوّز لهم السلم ليرتفقوا , ويرتفق المسلم بالاسترخاص ( 30)
السلف :
(سلف يسلُف سلفاً وسلوفا ً, يجيء على معان :
السلف : القرض , والسلم , والسلف أيضا كل عمل قدمه العبد ...
وأسلف في الشيء : سلم , والاسم منها : السلف , وهو نوع من البيوع يعجل فيه الثمن , وتضبط السلعة بالوصف إلى أجل معلوم .
والسلف : القرض , يقال : أسلفته مالاً ؛ أي : أقرضته .
قال الأزهري : كل مال قدمته في سلعة مضمونة اشتريتها بصفة فهو سلف وسلم , وروي عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : ( من سلّف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) .
أراد : من قدم مالاً , ودفعه إلى أجل في سلعة مضمونة ....
والسلف في المعاملات له معنيان :
أحدهما : القرض الذي لامنفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر , وعلى المقترض رده كما أخذه
والعرب تسمي القرض سلفاً كما ذكره الليث .
والمعنى الثاني : هو أن يعطي مالاً في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف ؛ وذلك منفعة للمسلف , ويقال له سلم دون الأول ؛ وفي الحديث ( أنه استسلف من أعرابي بَكْراً ؛ أي : استقرض )( 31) .
وقيل : السَلَف بفتحتين هو : السلم وزناً ومعنىً , قيل هو لغة أهل العراق , والسلف لغة أهل الحجاز .
وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّ الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى ) ( 32)
والتعبير بأخذ أموال الناس يشمل أخذها بالاستدانة , وأخذها لحفظها , والمراد من إرادته التأدية : قضاؤها في الدنيا , وتأدية الله تعالى عنه يشمل تيسيره لقضائها في الدنيا , بأن يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه , وقضاؤها في الآخرة : بإرضائه غريمه بما شاء الله تعالى ....
وقوله : ( يريد إتلافها ) : الظاهر أنه من يأخذها بالاستدانة فعلاً , لا لحاجة , ولا لتجارة , بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه ولا ينوي قضاءها .
وقوله ( أتلفه الله ) : الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه , وهو يشمل ذلك ويشمل إتلاف طيب عيشه , وتضييق أموره , وتعسر مطالبه , ومحق بركته , ويحتمل إتلافه في الآخرة _ بتعذيبه : (33) .
وقد يلحظ فرق آخر بين السلف والسلم ؛ ذاك أن ( السلف أعم , فالسلف : تقديم رأس المال , والسلم : تسليمه في المجلس ) ( 34) .
العينة :
هي في اللغة السلف , يقال : تعيَّن فلان من فلان عينه ؛ أي : تسلف , وقد فسر الفقهاء العينة بأن يبيع المرء شيئا من غيره بثمن مؤجل , ويسلمه إلى المشتري , ثم يشتريه بائعه قبل قبض الثمن بنقد حالٍ أقل من ذلك القدر .
وحقيقة العينة : قرض في صورة بيع لاستحلال الفضل مقابل الأجَل ؛ إذ تؤول العملية إلى قرض عشرة لرد خمسة عشر , والبيع وسيلة صورية إلى تلك الزيادة , وقد قيل لهذا البيع : عينة ؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها من البائع عيناً ؛ أي نقدا حاضراً , واستحسن الدسوقي أن يقال : ( إنما سُميت عينة لإعانة أهلها للمضطر على تحصيله مطلوبه التحليل بدفع قليل في كثير ) (35 ) .
وهكذا تتشابك هذه المعاملات وتدخل في زمرة الديون , وهذا يعني أن كل معاملة بين اثنين يبقى شيء منها في ذمة الآخر تنطبق عليها الآية ؛ فالآية من إعجازها أنها شملت الكثير من أوجه التعامل , ولعل ذلك من أسباب طولها وكثرة التفصيل فيها .
البيع بالتقسيط :
(وهو لون من ألوان بيع النسيئة , فهو : بيع يُتفق فيه على تعجيل السلعة , وتأجيل الثمن كله , أو بعضه , على أقساط معلومة لآجال معلومة , وهذه الآجال قد تكون منتظمة المدة في كل شهر , أو في كل سنة , أو غير ذلك .
كما أنها قد تكون متساوية المقدار , أو متزايدة , أو متناقصة (36)
_ وهذا كله يجوز متى كان ثمة تراهن بين المتبايعين ، وإذا كان الثمن مؤجلا , وزاد البائع فيه من أجل االتأجيل جاز ؛ لأن للأجل حصة من الثمن ) (37)
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 30-12-2008, 04:23 PM
-
بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
-
بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 27-01-2007, 04:05 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات