

-
بسم الله الرحمن الرحيم
اما صاحب كتاب "الصناعتين: الكتابة والشعر" .. ابو هلال الحسن بن عبد الله العسكري قيقول في مقدمة كتابه الرائع:
اعلم علّمك الله الخير، ودلك عليه، وقيضه لك، وجعلك من أهله أنّ أحقّ العلوم بالتعّلم، وأولاها بالتحفّظ بعد المعرفة بعد المعرفة بالله جلّ ثناؤه علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعزف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحّة النبوة، التي رفعت أعلام الحقّ، وأقامت منار الدّين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشّك بيقينها.
وقد علمنا أنّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمّنه من الحلاوة، وجلّله من رونق الطّلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيّرت عقولهم فيها.
وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته، في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه. وقبيح لعمري بالفقيه المؤتمّ به، والقارئ المهتدي بهديه، والمتكّلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدّة شكيمته في حجاجه، وبالعربيّ الصّليب والقرشي الصريح ألاّ يعرف إعجاز كتاب الله تعالى إلاّ من الجهة التي يعرفه منها الزّنجي والنّبطي، أو أن يستدلّ عليه بما استدلّ به الجاهل الغبيّ.
فينبغي من هذه الجهة أن يقدّم اقتباس هذا العلم على سائر العلوم بعد توحيد الله تعالى ومعرفة عدله والتصديق بوعده ووعيده على ما ذكرناه، إذ كانت المعرفة بصحة النبوة تتلو المعرفة بالله جل اسمه.
ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة، منها أنّ صاحب العربية إذا أخلّ بطلبه، وفرّط في التماسه، ففاتته فضيلته، وعلقت به رذيلة فوته، عفّى على جميع محاسنه، وعمّى سائر فضائله، لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيّد، وآخر ردئ، ولفظ حسن، وآخر قبيح، وشعر نادر، وآخر بارد، بان جهله، وظهر نقصه.
وهو أيضاً إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينّشئ رسالة وقد فاته هذا العلم مزج الصّفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل، وعبرةً للعاقل
وقال بعض الأوائل: تلخيص المعاني رفق، والتّشادق من غير أهله بغض، والنظر في وجوه الناس عيّ، ومسّ اللّحية هلل، والاستعانة بالغريب عجز، والخروج عمّا بنى عليه الكلام إسهاب.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
ومما اقلوا في مديح اللسان .. قال الشاعر:
أرى النّاس في الأخلاق أهلَ تخلُّقٍ ... وأخبارُهم شَتَّى فعُرْف ومُنكَرُ
قريباً تدانِيهمْ إذا ما رأيتَهم ... ومختلفاً ما بينهم حين تَخْبُرُ
فلا تحمَدنَّ الدَّهرَ ظاهرَ صفحةٍ ... مِن المرء ما لم تَبْلُ ما ليس يَظهرُ
فما المرءُ إلا الأصغَران: لسانه ... ومَعْقُولُه، والجسم خَلْقٌ مُصَوَّرُ
وما الزَّين في ثوب تراه وإنَّما ... يَزِينُ الفتى مخبُورهُ حين يُخبَرُ
فإنْ طُرَّةٌ راقَتْك مِنه فرُبّما ... أَمرَّ مَذَاقُ العُود والعودُ أَخضرُ
وقال جرير:
وليس لِسَيفي في العظام بقِيّةٌ ... ولَلسَّيْفُ أشْوى وقعةً من لسانيا
وقال آخر:
وجُرحُ السَّيف تَدمُلُه فَيبْرَا ... ويبقى الدَّهرَ ما جَرَحَ اللِّسانُ
وقال الأعور الشَّنّيُّ:
وكائنْ تَرى مِن صامتٍ لك مُعجبٍ ... زيادتُه أو نقصُه في التَّكَلُّم
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه ... فلم يَبق إلاّ صورةُ اللّحمِ والدمِ
قال الحسن: لِسان العاقل مِن وراء قلبِه، فإذا أراد الكلامَ تفكَّر، فإن كان له قالَ، وإن كان عليه سكَت، وقَلْبُ الجاهل من وراء لسانِه، فإنْ همَّ بالكلام تكلَّم به له أو عليه
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في الصمت
قال: وكان أعرابيٌّ يجالس الشَّعبيَّ فيطيل الصَّمت، فسئل عن طول صمته فقال: أسمع فأعلم، وأسكت فأَسلم، وقالوا: لو كان الكلام من فِضّة لكان السُّكوت مِن ذَهَب، وقالوا: مَقتل الرّجُل بين لَحْييْه وفَكَّيْه، وأخذ أبو بكر الصّدِّيق، رحمه اللَّه، بطرَف لسانِه وقال: هذا الذي أوردَني المَوَارد، وقالوا: ليس شيءٌ أحقَّ بطول سَجْنٍ من لسان، وقالوا: اللِّسان سَبع عَقُور، وقال النبيُّ
: وهل يكُبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جَهنَّم إلا حصائد ألسنتهم
وكان سهلُ بنُ هارونَ يقول: سياسة البلاغة أشدُّ من البلاغة، كما أنّ التَّوقِّيَ على الدَّوَاء أشدُّ من الدَّواء، وكانوا يأمرون بالتبيُّن والتثبّت، وبالتحرز من زَلَل الكلام، ومن زَلَل الرّأي، ومن الرأْي الدَّبَريّ، والرأيُ الدَّبَرِيُّ هو الذي يَعرِض من الصَّواب بعد مُضيِّ الرأي الأوَّل وفَوتِ استدراكِه، وكانوا يأمرُون بالتحلُّم والتعلَّم، وبالتقدُم في ذلك أشد التقدُّم، وقال الأحنف: قال عمر بن الخطاب: تفقَّهُوا قَبل أن تسُودوا، وكان يقول رحمه اللَّه: السؤدد مع السَّواد، وأنشَدُوا لكثيِّر عزّةَ:
وفِي الحِلْمِ والإسلامِ للمرء وازعٌ ... وفي تركِ طاعات الفُؤادِ المتيَّمِ
بصائرُ رُشْدٍ للفتى مستبينةٌ ... وأخلاقُ صِدْقٍ عِلْمُها بالتعلُّمِ
الوازع: الناهي؛ والوزَعة: جمع وازع، وهم الناهون والكافُّونَ
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة ابوغسان في المنتدى اللغة العربية وأبحاثها
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 10-06-2012, 01:01 AM
-
بواسطة Rabi3 في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 24-11-2011, 03:21 AM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى اللغة العربية وأبحاثها
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 08-01-2010, 02:55 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى اللغة العربية وأبحاثها
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 18-12-2009, 02:24 AM
-
بواسطة فارس الحرية في المنتدى اللغة العربية وأبحاثها
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 13-03-2007, 12:28 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات