آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


-
أما أنا العبد لله الضعيف فأقول مع احترامى الكامل لرَسِلْ، الذى كلما نظرت إلى صورته وقد أصبح عجوزا جدا، وفى فمه المتغضن غليونه المشهور يخفف به قليلا من شعوره بالشقاء الذى وصفه لنا فى سيرته الذاتية، لا أملك نفسى من العطف عليه رغم اختلافى الشديد معه فى موقفه من الألوهية، وإن كنت لا أختلف معه كثيرا حول وجود الشقاء فى العالم، ومن ذا الذى يجرؤ على أن ينكره أو يجادل فيه؟ لقد قالها القرآن نفسه بكل وضوح لآدم والسيدة حَرَمه منذ البداية: إياكما أن يخرجكما إبليس من الجنة، وإلا شقيتما، بما يفيد بمنتهى الصراحة أن الدنيا ليست دار سعادة كاملة، وإن لم تكن أيضا دار شقاء تام، بل هى، حسبما نرى، مزاج من هذا وذاك. ولم نذهب بعيدا؟ إننى، أثناء كتابتى هذا الرد على رسل، لأشعر بنشوة عجيبة وأنا أحاور عقلا كبيرا كعقل رَسِلْ فى موضوع كبير كموضوعنا ذاك. فهذا إذن لون من السعادة الدنيوية لا شك أيضا أنه كان يستمتع به وهو يعد محاضرته التى نحن بصددها، وكذلك وهو يلقيها، مثلما كان يحس بالسعادة حين اهتدى، أو فلنقل دون أن نقصد إغاظته: حين هداه الله إلى إديث فينتش، زوجته الرابعة التى أهدى لها "سيرته الذاتية"، والتى تقول كلمة الإهداء إنه يدين لها بشىء غير قليل من السعادة فى دنياه تلك التى يحاول أن يقنعنا أنها مفعمة تماما بالشقاء بحيث لا يوجد فيها ولا ثَقْب إبرة يمكن أن ينفذ منه بصيص من البهجة. أمعقول يا فيلسوفنا أنك لم تذق مثلا مع أى من زوجاتك لذة الفراش ولو مرة، وأن دنياك كانت خالية معهن من كل نشوة؟ ودَعْنا من غير زوجاتك يا رجل يا نِمْس! ألم تستمتع مثلا بزوجة تى إس إليوت، الذى يقلده القِرَدة عندنا تقليدا أعمى مباهين بهذا التقليد، شأن كل قرد أقرع؟ وهذه مجرد حلقة واحدة فى سلسلة عشيقاتك يا عفريت! وحتى حين دخلتَ السجن (ولأعترف هنا أننى لا أحبه، ولا أريد أبدا أن أذوقه) ألم تكن تشعر بالرضا والسكينة لأنك استطعت، بمعونة الله طبعا رغم إنكارك وجوده، أن تتحمل متاعبه وما تجره هذه المتاعب وراءها من ألوان الحرمان والعناء المختلفة فى سبيل مبدئك؟ هكذا ترى يا فيلسوفنا الكبير، الذى أشعر والله بالعطف عليه وعلى نفسى معه أيضا، أن الدنيا، حتى فى أشد ظروفها حلوكة، يمكن أن تمد صاحبها بكِفْلٍ غير قليل من السعادة والرضا.
والآن إلى المناقشة، التى أرجو ألا تفسد للود بينى وبين الفيلسوف البريطانى أية قضية، فأقول: لنفترض أن الأمر كما قال رَسِلْ بناء على نظرية داروين، وأن الكائن هو الذى يتكيف مع بيئته، وليست البيئة هى التى خُلِقَتْ مناسبة له، فهل ينال هذا من قيمة الدليل التصميمى؟ لا إخال ذلك أبدا. كيف؟ أليست المحصلة النهائية أن الكائن ينجح فى التعايش مع بيئته؟ بَلَى والله وأَلْفُ بَلَى. فهذا هو دليل التصميم، ولكن على شكل آخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى، حين أبدع مخلوقاته، جعلها مهيأة للعيش فى كل الظروف، واهبا إياها المقدرة على التكيف معها. فما المشكلة إذن؟ أما كلام رَسِلْ فمَحْضُ تحكُّم لا معنى له، وهو ما يذكرنى بما يقوله العامة عندنا: أَكْل وتبريق! وهذا إن كان الأمر على ما يقول، وهو ليس كذلك فى الواقع، وإلا فلماذا لم يوزع الله كل الكائنات على كل الأمكنة فى العالم دفعة واحدة، وعلى كل منها أن تتأقلم مع ظروف كل مكان؟ لماذا مثلا لم يضع الله عز وجل الإنسان فى قلب لهيب الشمس؟ أو لماذا لم يجعل معيشته فى باطن الأرض مغروسا فى الطين كما هو حال كثير من الديدان مثلا؟
واضح أن التكيف البيئى الذى يشير إليه رَسِل استنادا إلى داروين ليس معناه أن الكائن يغير نفسه تغييرا جذريا ليتلاءم مع بيئته، وإلا لرأينا للإسكيمو مثلا جلودا سميكة كجلود الدِّبَبَة القطبية حتى يستطيعوا تحمل البرد الرهيب هناك، وهو ما لا وجود له، بل كل ما هنالك أنهم قد عملوا على تحوير آلاتهم وأدواتهم ومرافقهم بحيث تعينهم على مواجهة مصاعب تلك البيئة، فكانت أحذيتهم ووسائل مواصلاتهم وبيوتهم مختلفة فى التصميم والمواصفات عما لدينا من أحذية ومواصلات وبيوت... وهكذا. أما هم أنفسهم فلا يفترقون عنا فى شىء، إذ ما زالت لهم عينان كعينينا، وأنف كأنفنا، ويدان كيدينا، وذَكَرٌ كذَكَرنا، واسْتٌ كَاسْتِ القُمَّص المنكوح، إلا أنهم ليسوا مناكيح مثله، ويأكلون من فمهم كما نأكل نحن من فمنا، ولهم فى كل فم ست وثلاثون سِنًّا كما لنا، ويحتاجون إلى الحمام كما نحتاج نحن أيضا، ولهم طموح وآمال ومخاوف وقلق وحزن وملل، وفيهم لصوص وقتلة وناس طييون وكتاب وقراء، ولديهم مطاعم وفنادق، كما لنا وفينا ولدينا بالضبط... إلخ.
أما بالنسبة إلى الأرانب ذات الذيول البيضاء التى ضربها رَسِلْ مثلا على التعاسة فما أكثر ما تستمتع رغم هذا بالشمس الدافئة والهواء الطلق والعشب الغزير والجرى فى الغابة تمرح كما يحلو لها. نعم إن ذلك كله مصيره إلى انتهاء، وقد تكون النهاية ذبحها وأكلها، لكن ألم تستمتع هى قبل ذلك؟ بلى لقد استمتعت، ونعم لقد انتهت فى كثير من الأحيان إلى المصير المذكور. لكن أتراها فى هذا تختلف عمن صادوها؟ ألا يستمتعون هم أيضا، ثم ينتهون إلى الموت، وربما القتل، كما تنتهى هى؟ سيقول رَسِلْ: ومع هذا فإن فى الدنيا شقاء وتعاسة. لكن هل خالفناه فى هذا؟ إن كل ما نخالفه فيه هو أنه يركز فقط على ألوان الشقاء، وكأن الدنيا كلها حالكة السواد، فلا لقمة شهية ولا منظر جميل ولا شذى حلو ولا ملمس ناعم ولا رقدة هنية ولا يقظة بهيجة ولا جماع لذيذ ولا أولاد يملأون البيت على الأب والأم سعادة ونورا وأنغاما ولا كتاب مثير للعقل والوجدان ولا صلاة تبعث السكينة فى النفس ولا تضحية من أجل مبدإ جليل ولا أبناءٌ لطافٌ ولا رحلة بهيجة ولا تأمل فكرى لذيذ. إننى لأتألم غاية الألم حين تصيبنى بَلِيّةٌ من بلايا الدنيا، وما أكثرها! وأتقلب على جمر الحرقات ساعتئذ تقلبا، إلا أننى سرعان ما أفىء إلى الواقع من حولى قائلا لنفسى: لِمَ تنسى كذا وكذا وكذا مما حباك الله به (أو فلنقل كى نضحك قليلا مع رَسِلْ: مما حبتك به الطبيعة) يا فلان، وهو كثير، والحمد لله؟
ولكى أبين للقارئ أن حياة الأرانب والعجماوات جميعا ليست كلها شقاء كما يحاول رسل أن يقنعنا أذكر له أننى، فى صيف عام 1976م، ذهبت فى بعثة إلى بريطانيا للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى، فبدأنا نأخذ دروسا فى الإنجليزية بلندن، ثم انتقلنا إلى ميناء هيستنج لنكمل أخذ هذه الدروس، فكنت فى الفسحة التى تفصل درسًا عن درسٍ آخر النهار أجلس فى ردهة المدرسة، وقد اكتست الدنيا فى الخارج عَتَمَةً، وبدا كأن المغرب قد جاء، فأنظر عبر النافذة إلى منارة صغيرة على الشاطئ متوهما فى كل مرة أنها مئذنة وأن أذان المغرب سوف يرتفع بعد قليل. على أن هذه ليست النقطة التى أريد الحديث فيها، بل النوارس التى كانت تحوم على الشاطئ قريبا منا والتى، وهذا هو بيت القصيد، كنت أحسدها على ما تتمتع به من حرية وقدرة على التحليق فى أجواز الفضاء، على حين أجد نفسى مقيدا بجاذبية الأرض لا أملك طيرانا. أما حسدى إياها فلأنى كنت أتصور أننى لو رُزِقْتُ مثلها المقدرة على الطيران لكان باستطاعتى أن "آخذ بعضى" طيرانا على مصر، التى كنت أشعر آنئذ بحنين جارف مؤلم نحوها، ودون الحاجة إلى تذكرة سفر أو تأشيرة أو إجراءات معقدة فى الخروج والدخول. خلاصة القول أن العجماوات ليست تعيسة الحياة تماما كما يخيِّل لنا كلام رسل، إذ هى تتمتع بكثير مما حُرِمْنا نحن البشر منه حتى إننا لنحسدها على كثير مما حباها الله (أو كما يقول رَسِلْ وأشباهه: مما حبتها الطبيعة) به.
وبعد الأرانب ذات الذيول البيضاء يأتى ونستون تشرشل وأضرابه من ذوى القلب السوداء، ذلك الاستعمارى البغيض الذى ضربه رَسِِلْ مثلا على أن الحياة كلها شقاء وتعاسة. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان رَسِلْ يناصر الحركة الاستعمارية فى مطلع حياته، ثم انقلب معاضدا لحركات التحرر الوطنية ضد بلده وضد العالم الغربى عموما، وهو ما يُشْكَر عليه. لكن هل كان تشرشل، رغم أننا فى عالمنا العربى والإسلامى قد اصطلينا نار نزعته الاحتلالية وشقينا بها أيما شقاء، خلوا تماما من أى نفع؟ لقد كان كاتبا سياسيا وأديبا قوى الأسلوب. ولا شك أنه، بهذا الاعتبار، كان ذا فائدة لبعض البشر. كذلك قرأت ذات مرة أنه كان يصدر أوامره لمجلس الحرب بوصفه رئيسا للوزراء وهو فى بيت الأدب (أو إذا شئتم: بيت قلة الأدب والقيمة!) يقضى حاجته كيلا تفوت الفرصة إذا انتظر حتى ينتهى مما هو فيه فيَصْدُر الأمر بعد خراب بصرة. فلو لم يكن له إلا هذا التصرف الذى أضحكنى وما زال يضحكنى حتى هذه اللحظة وتغرورق عينى جَرّاءه بالدموع لكان هذا كافيا كى أعلم أن خَلْقه فى الدنيا لم يكن سُدًى! ومع هذا فلعنة الله على ذلك العلج الاستعمارى، إن لم يكن من أجل شىء فكيلا يغضب منى رَسِلْ.
لكن ذلك الإبليس لا يتحمل هو وأمثاله وحدهم إثم الاستعمار، وهو بلا أدنى ريب أو جدال إثم بشع لا يطاق، بل تتحمله معه الأمم التى ابتليت به فرضيت بالهوان بل استعذبته، وكلما أخذت صفعة على خد من خديها أدارت الخد الآخر كى يأخذ هو أيضا نصيبه من الهوان والخزى فتكون قد تقلبت فى الخزى على الجانبين ولم يفتها شىء منه كما هو حال أمتنا أمة الزفت والهوان، التى من الواضح أنها باتت خارج التاريخ منذ استنامت إلى المذلة على يد حكامها الوطنيين (أقصد: الـمُسَمَّيْنَ زورا بــ"الوطنيين"، وما هم فى الحقيقة إلا عصابة من الجهلة الأفاكين، لعنهم الله ولعن معهم شعوبهم التى يحكمونها أجمعين أكتعين أبصعين!)، وكذلك على يد مستعمريها الخارجيين، وصارت مشكلتها من التعقيد بحيث إننى لا أكف عن الألم والمرارة طوال الوقت حتى وأنا أتريض تجنبا للإصابة بالسكر وانسداد الشرايين، غير واجد لوضعها هذا البائس حلا، إذ كيف يمكن أن تُحَلّ مشكلتها، وهى نفسها لا تريد لها حلا، بل لا تحاول أن تساعد من يتصدى لإصلاح أحوالها فتتركه يدخل السجن أو يُعْدَم دون أن تجشم نفسها ذرف دمعة من دموعها الرخيصة عليه، منصرفة إلى الكرة والرقص والطبل والزمر والحشيش والأفيون؟ ولنعد إلى ما كنا فيه، وإلا ساءت صحتى أكثر وأكثر، وساعتئذ لن أجد من جماهير الأمة من ينفعنى ببصلة!
كذلك يستنكر رسل أن يكون العالم الذى حولنا بعيوبه ونقائصه هو كل ما استطاع الله بعلمه المطلق وقدرته التى لا يحدها حد أن يخلقه فى الملايين بعد الملايين من السنين، مؤكدا أنه لو أُعْطِىَ قدرة وعلما بلا حدود وصُبِرَ عليه ملايين السنين فإنه قادر على أن ينتج كونا أفضل من هذا. وهذا يذكرنى بما كان يقوله أحد رجال القرية، وكان زمّارا فى فرقة المزيكة التى يرأسها عمه، ثم كُسِرت أصابعه فترك العزف على المزمار ولم يعد صالحا لعمل أى شىء، فكانت زوجته المسكينة هى التى تسعى عليه وتوفر له الشاى واللحم، اللذين لو تخلفا عن الميعاد كان جزاؤها الشتم والضرب وقلة الأدب. والشاهد فى الأمر أنه كان دائما، رغم مواظبته على الصلاة والصيام، فضلا عن التأذين للصلاة بصوته الجميل، كثير التمرد على مقام الربوبية، زاعما أنه لو تولى أمر الكون لجعله أفضل من هذا كثيرا. يقصد أنه ساعتها سوف يوفر كيلو لحم وكيس شاى وباكو سكر لكل فقير أسبوعيا، ويا حبذا لو كان معها أيضا علبة سجائر أو ورقة معسل، فهذا هو أقصى ما يمكن أن يفكر فيه زمّارنا، الذى كنت أعطف عليه وأستطيب صحبته وأتغاضى عن حماقاته وغروره الغبى.
المضحك فى دعوى رَسِلْ أنه يقول: "لو" أُعْطِيت كذا وكذا، إذ الإله لا يقول ذلك لأنه لا يأخذ شيئا من أحد، بل هو الذى يعطى، ويعطى دائما. ثم إن "لو" تفتح عمل الشيطان. كما أنها، طبقا لما يقوله جهابذة الإعراب الصِّيَاعِىّ، "حرف شعلقة فى الجو". والكون، رغم ما فيه من مآس لا ينكرها أحد، يدل على خالق قدير عليم حكيم رحيم جبار منتقم شديد. وليلاحظ القارئ أننى لم أجتزئ بذكر الحكمة والقدرة والرحمة الإلهية وحدها، بل ذكرت معها الجبروت والانتقام أيضا، فهذه هى صفات الله. ولقد حار الفلاسفة والحكماء، ومعهم الطبالون والزمارون، فى بحثهم عن السر فى وجود المعاناة والألم فى الدنيا، ولم يرجعوا بطائل، ولا أظنهم سوف يرجعون به يوما. فَلْنَكُفَّ عما لا جدوى منه كما قال العقاد فى بعض شعره عن ذلك الموضوع، فهذا هو حال العالم الذى حولنا، ولنركز على أن نجتهد بكل طاقتنا كى نستخرج منه أحلى ما فيه ونتجنب أسوأ ما يحتويه، أو ننزل بنصيبنا من هذا الجانب السيئ فيه إلى أصغر درجة ممكنة على الأقل، "ونعيش ونقول: يا باسط!"، مع رجائى من القراء أن يتولى أحدهم مشكورا ترجمة العبارة الأخيرة لرَسِلْ حتى يفهم عنى ولا تضيع نصيحتى على الفاضى!
وهنا نسمع رَسِلْ يؤكد، وكأنه يقول شيئا جديدا على المؤمنين، أن الحياة على الأرض مصيرها إلى انتهاء. لكننا نعرف هذا يا فيلسوفنا العزيز من قبل ونؤمن به، وكنت أنت أيضا تؤمن به أيام كنت متخلفا مثلنا، وهو ما نسميه: يوم القيامة. فما الجديد فى هذا إذن؟ إلا أن المسألة بالنسبة إلينا لا تقف عند انتهاء الحياة، بل اعتقادنا أنه ستبدأ حياة أخرى بعد دمار هذا العالم، الذى سوف يعاد رغم ذلك تشكيله من جديد بأوضاع أخرى نرجو أن تعجب رَسِلْ، وزمارنا المسكين، الذى أدعو له الله العَفُوّ الغفور الودود الحليم الرحيم الكريم أن يجد عندئذ الشاى والسكر واللحم بوفرة تبعث على الطمأنينة وارتخاء الأعصاب، ولا داعى للمعسل لأنه ضار، وذوقه بلدى، علاوة على أن شاربه يقضى النهار والليل فى السعال والبصق فيزعجنا، ونحن لم نكد نصدق أننا قد تركنا الدنيا ببلاياها!
وعلاوة على هذا فإنى آخذ على رَسِل أنه، حين يذكر المسلمين أو يريد الإشارة إليهم فى هذه المحاضرة، يستعمل كلمة "Mohammedans: المحمديين". وهذا خطأٌ صُرَاحٌ، ويزيده سوءا صدروه عن رَسِل الفيلسوف الذى تقوم فلسفته هو وأشباهه من الفلاسفة على وجوب تحديد الألفاظ قبل استخدامها منعا لأى لبس أو اضطراب. فهل من تحديد الألفاظ تحديدًا سليمًا أن يُطْلَق علينا نحن المسلمين اسم "المحمديين"؟ إن كل دور رسولنا عليه الصلاة والسلام طبقا لمعتقد الإسلام، الذى جاء به، هو أنه واحد من البشر تلقى الوحى من الله سبحانه وأنه المثال الأعلى لأولئك البشر. فلا هو إذن صاحب الإسلام ومخترعه ولا نحن نؤلهه أو نرتفع به عن مستوى البشرية بأى معنى من المعانى ولا إلى أى مدى من الأمداء، وذلك امتثالا لقوله تعالى: "قل: إنما أنا بشر مثلكم يُوحَى إلىّ أنما إلهكم إله واحد". وعلى هذا فليس هناك أى أساس يمكن الاستناد إليه فى إطلاق كلمة "المحمديين" علينا نحن المسلمين. فإذا ما صدر هذا الخطأ من رَسِلْ بالذات كان الخطأ أسوأ وأشنع.
والعجيب أن رَسِل نفسه يقول شيئا قريبا جدا مما قلتُه آنفا عن الرسول، إذ كتب فى كتابه الموسوم بـ"A HISTORY OF WESTERN PHILOSOPHY: تاريخ الفلسفة الغربية"، وهو الكتاب الذى ضمن له بقية حياته دخلا منتظما، وليس مثلنا نحن الذين لا يشترى أحد من أمتنا المنكوبة بأدواء الجهل والبلادة وكراهية الثقافة شيئا من كتبنا: يا حسرة! نقول إنه كتب فى كتابه ذاك عن النبى عليه السلام ما نصه: "The Prophet made no claim to be divine, nor did his followers make such a claim on his behalf". كما قال كلاما طيبا عن الإسلام وسعة صدره مع المخالفين له فى المعتقد على عكس ما هو معروف عن المسيحية، التى عاملت مخالفيها من يهود ومسلمين معاملة بشعة غير إنسانية حسب كلامه، معبرا عن دهشته من سرعة انتشاره وما أحدثه من تغييرات واسعة سريعة فى تاريخ الإنسانية ليس لها مثيل: "Their victories were easy, and the fighting was slight. Except possibly during the first few years, they were not fanatical; Christians and Jews were unmolested so long as they paid the tribute"، "Throughout the Middle Ages, Jews had no part in the culture of Christian countries, and were too severely persecuted to be able to make contributions to civilization, beyond supplying capital for the building of cathedrals and such enterprises. It was only among the Mohammedans, at that period, that Jews were treated humanely, and were able to pursue philosophy and enlightened speculation. Throughout the Middle Ages, the Mohammedans were more civilized and more humane than the Christians. Christians persecuted Jews, especially at times of religious excitement; the Crusades were associated with appalling pogroms. In Mohammedan countries, on the contrary, Jews were not in any way ill treated". ومع هذا فإننا نراه، حتى فى هذا الكتاب يجرى على تلك السُّنّة، سنة إطلاق اسم "المحمديين" علينا نحن المسلمين!
وبالنسبة إلى ما قاله رسل عن مثال صندوق البرتقال الذى وَجَد صَفَّه العلوى فاسدا فكان هذا دليلا عنده على أن بقية الصفوف الأخرى فاسدة مثله، ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، وأن قياس سائر الكون على الكرة الأرضية ينتهى بنا حسب رأيه إلى أن الكون كله سيئ، ولا سبيل إلى تغيير سوئه حُسْنًا، فالرد عليه سهل جدا جدا، إذ إن ما توصل إليه من نتيجة هو شىء غير لازم ولا حتمية فيه، بل أقصى ما يمكن قوله أنه مجرد احتمال واحد من عدة احتمالات. ولا أدرى كيف غابت عنه هذه النظرة العلمية القائمة على دراسة الاحتمالات المختلفة لشىء ما ونسبة كل احتمال منها إلى الاحتمالات الأخرى والقاعدة التى تحكم ذلك. وهذا لو كان الظلم الذى يتحدث عنه هو ظلم إلهى وليس ظلما بشريا. ترى هل هو متأكد أن الكائنات التى فى سائر الكون بعيدا عن دنيانا الأرضية هى مثلنا كائنات بشرية؟ وهل هو متأكد أنها تشبهنا فى الـخُلُق والتصرف والضمير؟ لقد كان عليه أن يسأل نفسه مثل تلك الأسئلة قبل أن يفكر فى إصدار ما أصدر من حكم، ولكنه للأسف لم يفعل. وبكل يقين فإن رَسِلْ يعرف عن هذا الكون المادى، باعتباره عالما رياضيا، أفضل كثيرا جدا مما يعرفه أغلب الناس، فكان ينبغى ألا يفوته اتساع الكون الهائل الذى لا يمكن أى عقل مهما كان واسعا وعميقا ومحيطا أن يصل إلى معرفة كنهه أو حتى أبعاده الظاهرية. فكان من الواجب اللازب عليه ألا يغامر بإصدرا مثل ذلك الحكم.
ثم يقول رَسِلْ إن الذين يؤمنون بالله إنما تم تلقينهم منذ طفولتهم الأولى الإيمان به سبحانه، فهم من ثم يتبعون ما لُقِّنوه لا يحيدون عنه، بخلاف الملاحدة، فإنهم يختارون طريقهم بأنفسهم. ولى على ذلك ملاحظتان: الأولى أن أمثاله من الملاحدة لا شك يربون أولادهم على الإلحاد، إذ كل أب وأم إنما يربيان أولادهما عادة على ما يؤمنان هما به. ومن ثم فقوله إن الملحدين إنما يختارون طريقهم بأنفسهم غير صحيح على إطلاقه على الأقل. والثانية، ألم يسأل رسل نفسه: لماذا كان الإيمان هو الغالب على الناس بحيث يفترض هو نفسه أن الآباء جميعا (تقريبا، و"تقريبا" هذه من عندى) ينشئون أولادهم على الإيمان لا على الكفر؟ أليس لهذا دلالته؟ وإلا فما مصلحة الناس فى إيثار الإيمان على الإلحاد؟ طبقا لما قاله هو لا أنا. الجواب لديه: "أن السبب الأقوى بعد ذلك وراء إيمان البشر بالله هو الرغبة فى السلامة. إنه نوع من الشعور بأن لك أخًا أكبر يقوم برعايتك. وهذا الأمر له دور عميق في التأثير على رغبة الناس في الإيمان بالله". لكن الله ليس أخا أكبر، وإلا ففى كل أسرة أخ أكبر يمكن أن يقوم بهذا الدور. ولنفترض أننا قبلنا جَدَلاً هذه الحجة، فكيف نفسر حاجة الإخوة الكبار والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأغنياء والأصحاء وذوى المناصب الضخمة والقادة والزعماء والرؤساء والقضاة والوزراء وكل كبير من الكبراء والجماعات والأمم والدول إلى الإيمان بالله؟ إن العالم كله تقريبا يؤمن بالله حتى لو لم يشتغل بهذا الأمر اشتغالا واضحا، وحتى لو أخطأ الطريق إليه. والسبب هو أن ثمة نزوعا فطريا نحو البحث عن الخالق، إذ إن أمور الكون لا تستطيع أن تمشى دون هذا الخالق. فمن أين أتى هذا النزوع الفطرى؟ ألم يسأل رَسِلْ نفسَه هذا السؤال؟ وبالمناسبة فقد كان الأخ الأكبر لرَسِلْ يثير لديه الخوف لا الطمأنينة كما حدّثنا فى الفصل الأول من سيرته الذاتية. فما القول فى ذلك؟ أليست هذه مفارقة مضحكة؟
بعد هذا ينتقل رَسِلْ إلى البحث فى موضوع آخر، وهو الحكم على شخصية المسيح عليه السلام. وهو، بطبيعة الحال، لا ينطلق فى الحكم عليه من أنه إله، فالرجل لا يؤمن بالألوهية أصلا كما رأينا، فضلا عن أن ينظر إلى المسيح على أنه إله. بل إنه لا يعده نبيًّا. وهذا أمر طبيعى، فمنكر الألوهية ينكر النبوات حتما. ليس ذلك فحسب، بل إنه ليخطو خطوة أبعد، إذ ينفى أن يكون المسيح مثالا أعلى للبشر، فهو فى نظره ليس أحكم الحكماء، بل إن فى سلوكه ومبادئه ما لا يقبله العقل والضمير، بل ما يدل على توحش وقسوة شديدة غير مفهومة ولا مسوَّغة. وهو يبدأ بالهجوم الكاسح على ما تنسبه الأناجيل إليه من أنه إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وأنه لا ينبغى لأى إنسان أن يدين الآخرين كيلا يدان هو أيضا... وأمثال ذلك، مؤكدا أنه لم ير مسيحيا فى حياته يتخذ التسامح مع الآخرين مبدأ له فى الحياة، وأنه هو نفسه لا يستطيع أن يفعل هذا، وأنه على العكس من ذلك كثيرا ما رأى مسيحيين يظلمون الآخرين دون أن تختلج ضمائرهم أو يشعروا أنهم أتوا أمرا لا ترضاه المسيحية. وفوق ذلك نراه يشك حتى فى مجرد الوجود التاريخى للسيد المسيح عليه السلام.
فأما الشك فى وجود المسيح فلا نشاطره فيه، فالمسيح عندنا موجود حتى لو كانت الكتابات النصرانية عنه لا تبعث على الثقة، إذ لدينا مصدر آخر موثوق هو القرآن الكريم. وهو موثوق لأننا نؤمن به بعد تمحيصه من جهة المضمون والأسلوب، وبعد فحص شخصية الرسول محمد عليه الصلاة والسلام والاطمئنان إلى أنه لا يمكن إلا أن يكون صادقا، وإلا فما مصلحته فى ادعاء الوحى والنبوة والتعرض لكل ما تعرض له عليه السلام من أذى وعدوان وتكذيب وسباب ومؤامرات ومواجهة لقوى العالم كلها دون أى سند بشرى؟ وأما أن المبادئ التى ينسبها كتبة الأناجيل لعيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، هى مبادئ غير قابلة للتطبيق فى أغلبها فنحن معه فى هذا الكلام قلبا وقالبا. وقد قلناه وقاله غيرنا كثيرا من قبل، فقالوا بكل صفاقة: اخرجوا من البلد!
وقال رَسِلْ أيضا إن المسيح قد ظنّ أن قدومه الثاني سيتحقق قبل ممات كل البشر الذين كانوا يعيشون في ذلك الوقت، وأن هناك كثيرا من الآيات تدلل على وجود هذا الظن، منها قوله لتلاميذه: "ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. فإني الحق أقول لكم: لا تملكون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان". ولما كان هذا لم يقع ولم يأت ابن الإنسان، والمقصود السيد المسيح ذاته، كان هذا برهانا عند رَسِلْ على أن المسيح قال كلاما غير صحيح، مما يعنى أنه لم يكن يعرف شيئا عما يتحدث عنه وأن ما قاله لا يعدو أن يكون خيالات وأوهاما لا حقيقة لها، ورغم هذا لا يزال هناك من المسيحيين من ينتظر عودته حتى الآن. وفى نظر رَسِلْ أن المسيح لم يكن حكيما حينما بشَّر بقرب مقدمه، وأنه لم يكن على قدرٍ من الحكمة يماثل ما يتمتع به بعض البشر، ولم يكن فائق الذكاء.
وإضافة إلى ما تقدم يأخذ الفيلسوف البريطانى على السيد المسيح إيمانه بالعذاب الأبدى وتهديده بذلك كل من لا يؤمن به، مما لا يلجأ إليه كثير من الدعاة، فكيف يقع فيه المسيح؟ إن مثل هذا التهديد من شأنه أن يخدش صورته. كما أخذ عليه أيضا أنه كان خشنا فظا مع كل من خالفه لا يعرف التسامح. أما سقراط فلم يفعل شيئا من هذا، وكان رقيقا مهذبا مع من لا يستمعون إليه، فكان من ثم أحكم من المسيح. ولكن انظر إلى المسيح وما كان يقوله لمن لا يصغون إلى دعوته. لقد كان يقول لهم: "يأَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟"، "يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان". ثم يمضى رَسِلْ مؤكدا أن قارئ الأناجيل يشعر أن ثمة استمتاعا من قِبَل المسيح عند الحديث عن عويل الكفار وصرير أسنانهم. كما يورد رَسِل الآية الإنجيلية التي تتحدث عن الخِرَاف والجِدَاء قائلة إن المسيح في عودته الثانية سوف يفرق بين الخراف والجداء، وسيقول للجداء: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية، النار المعدّة لإبليس وملائكته". ثم يقول المسيح أيضا: "فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ". ويرى رَسِلْ أن أي معتقدٍ يعتمد على التهديد بالنارهو معتقد وحشى ينشر الرعب والخوف مدى الدهور. وينبغى من ثم تحميل المسيح المسؤولية عن كل هذا.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة عبدالحليم عون في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 10
آخر مشاركة: 15-03-2012, 06:05 PM
-
بواسطة miloudi2009 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 9
آخر مشاركة: 28-12-2009, 11:23 PM
-
بواسطة ياحبيبي يامحمد في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 07-11-2009, 02:21 AM
-
بواسطة فداء الرسول في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 10
آخر مشاركة: 29-08-2008, 12:38 AM
-
بواسطة islamic commando في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 8
آخر مشاركة: 07-11-2007, 09:31 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات