آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


-
الشىء الثانى هو قول رسل إنه إما أن يكون كل شىء له سبب أو أنه لا سبب لأى شىء على الإطلاق، وأنه على الفرض الأول لا بد أن يكون لله هو أيضا مسبِّب أوجده، وعلى الفرض الثانى لا بد أن يكون الكون من حولنا هو الله، الذى لا سبب له. ولكن من قال إنه لا بد أن يكون لكل شىء بإطلاقٍ سبب؟ إن هذا إنما يصدق على ما نراه أو نلمسه أو نشمه وما إلى ذلك مما يقع تحت إدراكنا، وإن الذين يتخذون هذه الحجة إنما يقصدون أنه لا بد من الانتهاء إلى السبب الذى ليس له مسبِّب، وهو الله، إذ مما لا يقبله العقل أن نظل نمضى فى تتبع الأسباب إلى ما لا نهاية. أما قوله إن مسألة السببية ليست بالبساطة التى كان يظنها الناس، فأغلب الظن أنه يقصد ما يقوله بعض الفلاسفة، وهو منهم، من أن تتابع اشتعال النار والإحراق، أو تتابع تناول الطعام والإحساس بالشبع مثلا لا يعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع. لكن القول بهذا لا يستلزم أنه لا علة لأى شىء، إذ يمكن الموافقة على ذلك والنظر إلى مثل تلك التعبيرات على أنها تعبيرات مجازية لا تعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع، بل تعنى أن الإحراق يتم لدى وجود النار، وأن الشبع يقع عند تناول الطعام، وأن الله، الذى هو السبب الحقيقى لكل ما يقع فى الكون، هو مَنْ قدّر تحقق الإحراق عند وجود النار، وقضى بحدوث الشبع عند أكل الطعام. وقد قلنا قبل قليل إن التسلسل إلى ما لا نهاية فى تتبع أصل وجود الأشياء أمر يرفضه العقل، وهنا لا يبقى أمامنا إلا حلان: فإما أن نقول إن العالم الذى يوجد من حولنا هو الله، وإما أن يكون الله هو الإله الذى نؤمن نحن به فى الإسلام (ولا علاقة لنا بالإله فى المعتقدات الأخرى التى لا نومن بها). فأى الحلين هو الذى يقبله العقل؟ هل يقبل العقل أن يكون الله هو ذلك الكون الغشيم الذى لا عقل له ولا إرادة ولا قدرة على شىء؟ ألا نرى نحن البشر أننا أرقى ما فى الكون من مخلوقات، مع إدراكنا فى ذات الوقت أننا ضعفاء بل عاجزون أمام الحياة وأننا مجبرون فى كثير من أمورنا لا نملك حيالها شيئا، وأننا ننتهى دائما إلى الموت؟ فنحن إذن لا يمكن أن نكون الله، علاوة على أن الله لا يمكن أن يتجزأ أو يكون محدودا فى وجوده وقوته وقدرته وإرادته وعلمه وسلطانه كما هو حالنا الذى يصعب على الكافر. أما الحل الثانى فهو أن يكون هناك إله ذو وجود وقوة وقدرة وحكمة وعلم وسلطان مطلق، إله لا يحتاج إلى غيره ولا ينتظر عونا من أحد ولا يصيبه كلال ولا تعب ولا حيرة ولا تتخلف مشيئته كما نرى ذلك متحققا فى الكون من حولنا. أعتقد أن المسألة ينبغى أن توضع على هذا النحو لا على النحو الذى صوره لنا رَسِلْ!
إن هذا النظام المحكم الذى تسير عليه أمور الكون يدل بكل قوة على وجود إله وراء كل شىء. لكن رَسِلْ يتكلم عن المصادفة بوصفها المسؤولة عن وصول الكون إلى ذلك النظام. إلا أنه قد قاته شىء هام، وهو أننا لو سلمنا بما يقوله عن المصادفة، فمن الذى رتب أمر المصادفة على هذا النحو يا ترى؟ بل قبل ذلك من الذى خلق الكون أصلا؟ ثم بعد هذا من الذى قدّر للمصادفة، متى ما وصلت بالكون إلى هذا الوضع المنظم المحكم، أن تستمر على هذا الوضع فلا تعود إلى اندفاعها المتخبط الأعمى ويعود الأمر كما كان: لا نظام فيه ولا ترتيب؟ يا لها من مصادفة غريبة تلك التى ما إن تصل إلى النظام والترتيب المحكمين الشاملين حتى تتغير طبيعتها فلا تبقى مصادفة كماكانت! وهذا كله لو قلنا بالمصادفة، أما لو شغّلنا عقولنا فإن تلك العقول ترفض مبدأ المصادفة الأعمى وتقبل بدلا منه بالحكمة المطلقة التى تسيّر الكون. بالله عليك أيها القارئ: أيهما أقوم منطقا وأهدى سبيلا؟ أن نقول بالمصادفة العاجزة العمياء الغشوم أم نؤمن بالقدرة والإرادة والحكمة الشاملة المطلقة؟
ويقول رَسِلْ تحت عنوان "الجدال حول القانون الطبيعي": "هناك أيضا جدل شائع يدور حول القانون الطبيعي. لقد كان هذا الجدل موضوعا مفضلا طيلة القرن الثامن عشر، وبخاصة تحت تأثير نظريات السير إسحاق نيوتن عن نشوء الكون. لقد لاحظ الناس أن الكواكب تدور حول الشمس وفقا لقانون الجاذبية، وكانوا يظنوّن أن الله أصدر أمرا لهذه الكواكب كي تتحرك على هذا النحو. لقد كان هذا بطبيعة الحال تفسيرا مريحا وبسيطا وفر عليهم عناء البحث أكثر من ذلك فى شرح قانون الجاذبية. ونحن الآن نشرح قانون الجاذبية بأسلوب أكثر تعقيدا طبقا لنظريات آينشتاين. ولن أعطيكم محاضرة عن آراء آينشتاين بهذا الخصوص لأن هذا يستلزم وقتا أطول، ولكنْ بصفة عامة لم تعد هناك تلك القوانين الطبيعية التى كانت موجودة طبقا لنظام نيوتن حيث كانت الطبيعة، لسبب لا نعرفه، تسير على نفس الوتيرة. لقد اكتشفنا الآن أن كل ما كنا نعده قوانين طبيعية ليس سوى مواضعات بشرية، فأنتم تعرفون مثلا أن الياردة، حتى فى أبعد نقطة فى الفضاء الخارجى، تساوى دائما ثلاثة أقدام. وعلى الرغم من أن هذه معلومة رائعة فمن الصعب جدا تسميتها: قانونا طبيعيا. وكثير مما كنا نعده قوانين طبيعية لا يعدو أن يكون من هذا القبيل. ومن ناحية أخرى إذا أتينا إلى أى شىء يتعلق بسلوك الذرة فسنجد أنها أكثر ابتعادا عن الخضوع للقانون الطبيعى مما كان الناس يظنون، وأن القوانين التي نصل إليها ليست أكثر من متوسطات إحصائية من نفس النوع الذى تأتينا به المصادفة. وهناك، كما نعرف جميعا، قانون ينص على أنكم لو رميتم نردين فستحصلون على ستتين معا بمعدل مرة واحدة في كل ست وثلاثين رمية. ونحن لا نستطيع أن نعد هذا دليلا على أن رمي النرد خاضع لإرادة الرامي. وعلى النقيض من ذلك إذا كانت الستتان تأتيان معا في كل مرة نرمي النردين فسنقول حينها إن هناك تعمدا بالفعل من قِبَل ذلك الرامي. إن قوانين الطبيعة هي على هذا النحو في معظمها. إنها معدلات إحصائية تنبثق عنها قوانين المصادفة، وهذا ما يجعل مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشا لنا من ذى قبل. وفضلا عن هذا، وهو ما يمثل وضع العلم المؤقت، ذلك الوضع الذى يمكن أن يتغير من الغد، فإن فكرة القانون الطبيعي تنطوي على أن ثمة واضعا لهذا القانون، مما يكشف عن خلط بين القانون الطبيعي والقانون البشري. بيد أن القوانين البشرية إنما هى أوامر توجب عليكم التصرف بطريقة معينة بمستطاعكم اتباعها أو نبذها. لكن القوانين الطبيعية ليست على هذه الشاكلة، إذ هي تصف لكم كيفية تصرف الأشياء. ولأنها مجرد وصف من ذلك النوع فإنكم لا تَقْوَوْن على الجدال بأن هناك من يأمر هذه الأشياء بالتصرف على هذا النحو، لأنه حتى لو صح هذا الفرض فإنكم لا تلبثون أن ترتطموا بسؤال آخر هو: لماذا قضى الله هذه القوانين، ولم يقض غيرها؟ وإذا قلتم ببساطة إنه قد فعل ذلك لما يسببه له من لذة وليس لأى سبب آخر، فإنكم سوف تجدون أن هناك شيئا لا يخضع للقانون الطبيعي، ومن ثم تتوقف سلسلة ذلك القانون. أما لو قلتم، كما يقول عدد أكبر من رجال الدين الأرثوذكس، إن الله في كل القوانين التي اقتضاها دون غيرها كان لديه سبب معين دون غيره من الأسباب، فإن السبب بطبيعة الحال لن يكون شيئا آخر غير خَلْقِ أفضل الأكوان، وهو ما لا صحة له البتة. ولكن إذا كان ثم سبب لما يقدّره الله من قوانين فمعنى ذلك أن الله ذاته يخضع للقانون، وبالتالى لن تكون هناك أية جدوى من اتخاذ الله وسيطا لأنه سيكون هناك حينئذ قانون خارج عن الله وسابق عليه، ولن يكون لله فى هذه الحالة أية فائدة لأنه لن يكون المصدر النهائى للقوانين. باختصار: لم تعد القوانين الطبيعية الآن تعنى ما كانت تعنيه من قبل".
والواقع أنه لو لم يكن هناك قوانين وكانت الأمور تجرى على المصادفة كما يقول رَسِلْ فمعنى ذلك أن من المستحيل على البشر اتخاذ أى قرار أو الإقدام على أى تصرف، إذ إن القرارات والتصرفات تتطلب أن يكون هناك نظام مطرد حتى يستطيع الواحد منا رسم خطة مضادة يبنى عليها قراره وسلوكه. وتصور أنك قمت من النوم وأردت أن تبدأ يوما جديدا ففوجئت أن أحوال الكون قد تغيرت عما كنت قد عهدته وأنه لم تعد هناك قوانين ولا أنظمة، بل كل شىء يتم عشوائيا لا يمكن التنبؤ بمساره ولا بكيفيته ولا يمكن وضع خطة لمواجهته كى نحصد منه أكبر قدر ممكن من المكاسب ونتجنب أكبر قدر من المشاكل والخسائر. بل إن الخطط نفسها فى هذه الحالة لن يكون لها معنى ولا مصداقية، إذ لا نظام هناك ولا ثمار لأى شىء بما فيها الخطط. أمن الممكن أصلا فى هذه الحالة أن تكون هناك حياة؟ يقول رسل إن فَهْمنا للقوانين قائم على الوهم. لكن هناك رغم ذلك نظاما ما نستطيع أن نستند إليه ونقيم عليه حياتنا أيا ما يكن رأينا فى هذه الحياة. ذلك أن هذه الحياة التى لا تعجبنا أفضل مليارات المرات من الحياة الأخرى التى لا وجود لها إلا فى عقل رَسِلْ، تلك الحياة التى لا يمكن التعامل معها ولا اتقاء متاعبها أو الفوز بأى من خيراتها. وهذا إن جاز أن يكون لمثل تلك الحياة معنى أو كانت تشتمل على أية خيرات، أو كان لها وجود أصلا.
أما ما يقوله رَسِل عن الله وصلته بقوانين الطبيعة فهو صادر عن قياسه لله سبحانه على البشر، على حين قد رأينا أنه لا بد فى نهاية المطاف، ومهما طالت سلسلة الأسباب المترتب بعضها على بعض، من إله مطلق أزلى لا حاجة به إلى مسبِّب ولا يصلح معه القول بأنه كان خاضعا لهذا الاعتبار أو ذاك عند اختياره لهذا القانون أو ذاك. أما زراية رَسِلْ بتصورنا وجود مصدر للقوانين وتفسير ذلك بأننا إنما نقيس قوانين الطبيعة على قوانين البشر فهى زراية فى غير محلها. ذلك أننا، حين نتجه تلقائيا إلى التفكير فى مصدر القوانين الطبيعية، إنما نتصرف التصرف المنطقى، إذ بدلا من التعامى عن السبب الأول المطلق، ذلك التعامى الذى يؤثره برتراند رَسِلْ، نجدنا بوحى من فطرتنا نبحث عن السبب. وإلا أفيعقل أن تحتاج حياتنا تلك الضيقة والعابرة إلى مُصْدِر للقوانين بينما يستغنى ذلك الكون الهائل الذى لا تُعَدّ دولنا جميعا شيئا إلى جانبه عن مُصْدِرٍ لقوانينه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواضعات الاجتماعية التى أشار إليها رَسِلْ وظن أنه يستند فيها إلى حجة قاطعة، إذ إن وجود تلك المواضعات لهو دليل على أن حياتنا الضيقة العابرة كما سميتُها عن حق لا يمكنها الاستغناء عن نظام يكفل لنا فهمها والتعامل معها ومواجهة مشاكلها وجنى فوائدها. فما بالنا بالكون كله، وهذه الأرض التى نعيش فوقها لا تساوى بالقياس إليه شيئا البتة؟ على أن هناك أمرا طريفا فى كلام رسل، وهو تكرر ذكره لقوانين المصادفة. ترى أيكون للمصادفة قانون، ولا يكون ثم قانون لهذا النظام الذى يسرى فى كل شىء من حولنا؟ من يقول هذا؟ وأطرف من ذلك أننى أشعر بهدوء تام وأنا أناقش ما يقوله ذلك الفيلسوف الكبير، ولا أجد فى نفسى ضيقا به. ولعل فيما قلته عنه وعن مواقفه السياسية وما سطره عن الإسلام تعليلا لهذا الهدوء الذى أحسه بين جوانحى وأنا أحبّر هذا الكلام.
ونأتى الآن إلى تجويز رَسِلْ أن تتغير قوانين الطبيعة من الغد، وأنا معه فى هذا، ولا أجد فى تغير تلك القوانين يومًا من الأيام ما يصدم عقلى، فلقد وضحتُ أن القوانين الطبيعية لا تعنى مثلا أن فى النار ذاتها خاصة الإحراق، بل أن الله هو الذى رتب حدوث الإحراق على وجود النار. وهذا ما كان يقول به الإمام الغزالى وبسطه فى كتابه: "تهافت الفلاسفة" على النحو التالى: "الاقتران بين ما يُعْتَقَد في العادة سببا وما يُعْتَقَد مسبِّبا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الرِّيّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل... وهَلُمَّ جَرًّا إلى كل المشاهدات من المقترِنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة... وهلم جرا إلى جميع المقترنات. وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته. والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فَلْنُعَيِّنْ مثالا واحدا، وهو الاحتراق في القطن مثلا مع ملاقاة النار. فإنا نجوِّز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوِّز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم ينكرون جوازه".
ويمضى، رحمه الله، فى الرد على دعوى الخصم بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، مؤكدا أن "فاعل الاحتراق بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجَعْله حُرَاقًا أو رمادًا هو الله: إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة. فأما النار، وهي جماد، فلا فعل لها. وهذا يكون بالحصول عنده لا بالحصول به. فما الدليل على أنها الفاعل، وليس له دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به وأنه لا علة سواه؟".
وإمامنا الغزالى، بهذا الكلام الذى ينفى فيه أن تكون فى النار خاصة الإحراق، مؤكدا أن الأمر مجرد تتابع بين وجود النار أولا فالإحراق ثانيا، قد سبق دافيد هيوم وبيركلى وبرتراند رسل ذاته بزمن طويل، إلا أن فيلسوفنا المسلم يعزو كل شىء فى هذا الأمر إلى مشيئة الله التى اقتضت هذا التتابع واطراده حتى الآن بما خيل للناس بوجه عام أن النار ذاتها هى سبب الإحراق. وفى هذا الصدد يقول هيوم: "إذا ما ارتبط شيئان ارتباطا لا تخلف فيه كالحرارة واللهب مثلا، أو الثقل والصلابة، فإن العادة وحدها عندئذ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر". ومن ثم فعنده أن "العادة هي المرشد العظيم للحياة البشرية. فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث الشبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى". فنحن قد تعودنا مثلا أن نرى الورق يحترق حينما نقربه من النار، فنتوقع من خلال هذا التعود احتراقه مستقبلا حينما نقربه من النار. وهذا التوقع احتمالي عند هيوم، إذ ليست هناك ضرورة عقلية في نظره توجب أن يحترق الورق بالنار مستقبلا، بل يمكن أن لا يحدث ذلك في المستقبل. ومن ثم فحينما نتوقع أحداث المستقبل استنادا إلى الخبرة الحالية فإن توقعنا ساعتئذ يكون من قبيل الاحتمال لا اليقين. وهذا هو ما يقوله الغزالى بفصه ونصه. وأرجح الظن أن هيوم ورسل قد قرآ فيلسوفنا المسلم: إما مباشرة وإما من خلال وسيط، إذ من الصعب عقلا أن نقول بأن هذا ليس إلا توارد خواطر، وبخاصة أن الغزالى معروف جيدا للغربيين عن طريق المستشرقين.
وحتى لا يسارع بعض الملاحدة السفهاء، وكثيرٌ ما هُمْ، إلى التشنيع على القائلين بذلك بأنهم يقولون بكونٍ قائمٍ على اللانظام أقول مرة أخرى بملء فمى وبأعلى صوتى: إن الكون قائم على نظام عجيب وقوانين مطردة، ولكن هذه القوانين لا تنبع من الأشياء ذاتها، بل من إرادة الله، الذى سوف يأتى يوم يبطل فيه تلك القوانين ويبدع قوانين أخرى تختلف عنها كما نجد ذلك فى القرآن والسنة. ذلك أنه لن يكون فى الجنة مثلا ملل ولا ضيق ولا حزن ولا قلق ولا حقد ولا مغص ولا جوع ولا عطش ولا برد ولا حر ولا حرمان ولا نقص ولا ألم ولا رائحة كريهة ولا منظر منفر ولا موت ولا خصام ولا عدوان... إلخ، وهو ما تختلف به الجنة اختلافا كليا وجزئيا عن الدنيا. وقد أشار القرآن إلى أنه يوم القيامة سوف "تُبَدَّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماواتُ". ذلك أنه ما دامت القوانين لا تكمن فى الأشياء كمونا طبيعيا ملازما فمعنى ذلك أن الله المطلق السلطان الذى أصدر للأشياء الأمر بأن تكون على ذلك النحو يمكن أن يصدر لها الأمر بأن تكون على نحو غير ذلك فى الوقت الذى تقدره مشيئته سبحانه وتعالى. وبالمناسبة فبرتراند رَسِلْ، كما أشرنا قبيل قليل، هو من القائلين بذلك أيضا، إلا أنه على عكس الغزالى المؤمن كان ملحدا ينكر وجود الله والحياة الآخرة.
ويمضى الفيلسوف الإنجليزى الكبير فيناقش دليلا آخر مما يتخذه المؤمنون دليلا على وجود العناية الإلهية، وهو دليل التصميم. وهذا نص كلامه: "الخطوة التالية من استعراضي للفرضيات لابد أن توصلني إلى جدلية التصميم. إنكم تدركون جميعا أن فرضية التصميم تقتضي أن كل شيء في هذا العالم تم تصميمه من أجل أن نعيش وفقا له، ولو أن العالم اختلف قليلا عن صورته الحالية لما استطعنا أن نعيش فيه. هذه هي جدلية التصميم، التى تأخذ أحيانا شكلا مثيرا للفضول. فمثلا يقال إن الأرانب قد خُلِقَتْ بذيول بيضاء كي يسهل اصطيادها، ولكننى لا أعرف كيف تنظر الأرانب إلى هذا الوضع. إنه أمر يبعث على السخرية. وأنتم جميعا تعرفون ملاحظة فولتير، وهو أن الأنف قد خُلِق ملائما لحمل النظارة! وقد ظهر أن هذا النوع من السخرية لم يبتعد كثيرا عن إصابة الهدف كما كان يُظَنّ فى القرن الثامن عشر، لأنه منذ داروين بدأنا نفهم بشكل أفضل كثيرا لماذا تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها. وهذا يعني أن البيئة ليست هي التى تكيف نفسها من أجل الكائنات، بل الكائنات هى التى تكيف نفسها مع بيئتها. وهذا هو أساس التكيف البيئي. ولا وجود فيه، كما نرى، لأي دليل على التصميم".
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة عبدالحليم عون في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 10
آخر مشاركة: 15-03-2012, 06:05 PM
-
بواسطة miloudi2009 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 9
آخر مشاركة: 28-12-2009, 11:23 PM
-
بواسطة ياحبيبي يامحمد في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 07-11-2009, 02:21 AM
-
بواسطة فداء الرسول في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 10
آخر مشاركة: 29-08-2008, 12:38 AM
-
بواسطة islamic commando في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 8
آخر مشاركة: 07-11-2007, 09:31 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات