الباب الثالث
علم خلق الله


حتى الآن ، فقد قمنا بفَحص الخطأَ الخطير الذي يرتكبه التطوريون المسلمونِ الذين يَقْبلونَ الزعمَ بأنّ اللهِ- من خلال النمووالارتقاء- قد خَلْق الكائناتِ الحيّةِ.

وعلى خلاف التطوريين الآخرينِ، فمثل هؤلاء الناسِ لا يَدعونَ بشكل مباشر أنّ الحياة قد ظَهرتْ بمحض الصُّدفَة.

على أية حال، فبالزعم أن الله قد استعملَ التطور في خَلْقِه، فهم بذلك وبشكل إرادي أو غير إرادي ، يَدْعمُون الدارونيةَ في بَعْض النقاطِ.

طبقاً لمنظورِهم الخاطئِ، فإن الله لا بدَّ وقد استعملَ آلياتِ تطوّرية كالتحول والانتخاب الطبيعي.
إلا أن العِلْم قد بَيّنَ أنَّ لا الانتخاب الطبيعي ولا التحول يُمْكِنُ له أَنْ يَخْلقَ نوعا جديدا.
بمعنى آخر، فهاتان الآلياتان لا تمتلكان خواص تطوّريةُ.

أولئك الذين يَدْعمونَ فكرةَ الخَلْقِ التطوّريِ يَزْعمُون بأنّ اللهِ يَستعملُ آلية التحول لتَغْييرالخصائص الجينية الوراثية للكائنِ الحيِّ ومن ثم يتمْكن – أي هذا الكائن الحي - من اكتساب أعضاء ذات وظائف معينة ، أَو بأنه - سبحانه و تعالى - يَخْلقُ مخلوقات في صورة بدائيةَ أولاً وبعد ذلك يطبق الانتخاب الطبيعي لتَحويل تلك المخلوقات إلى مخلوقات أخرى أكثر تعقيداً واكتمالا.

أو بمعنى آخر، أن الله - جل و علا - يطبقُ الانتخاب الطبيعي على الكائن الحي إذا ما أراد أن يخلق لهذا الكائن الحي المشار إليه عضوا جديدا ، أوإذا ما أراد لعضو آخر موجود بالفعل أن يضمر ، أَو إذا ما أراد التخلّصُ مِنْ هذا الكائن الحي برمته للتحول من سلالة إلى أخرىِ.
وإنه لمن الطبيعيُ جداً لمن هم غافلون عن آخر التَطَوّراتِ العلميةِ أن يفترضوا مثل هذه الافتراضاتِ ، وخصوصاً إذا ما رغبوا في دَعْم النمو و الارتقاء.

على أية حال، فإن مثل هذه الإدّعاءات تصيرهباء منثورا إذا ما ووجهت بالحقائق العلمية.

علاوة على ذلك، وكما سَنَرى لاحقاً، فإن القرآن لا يَذْكرُ شيئا من هذا القبيل.

وهناك أمر بحاجة إلى توضيح ، وهو أن الله- بالطبع ومما لا شك فيه- كان يُمكنُ له أنْ يطبق النمو و الارتقاء في خَلْقه إذا ما أراد ذلك ، فهو القادر على كل شىء.

إلا أن القرآن - وفي الوقت نفسه - لا يَحوي أي إشارةِ عن التطورِ؛ حيث لا توجد ولو حتى آية واحدة تَدْعمُ إدّعاءَ التطوريين بالظهورِ المرحليِ للسلالات والأنواع المختلفةِ.

والعِلْمُ كذلك يَكْشفُ زيفَ مثل هذا الإدّعاءِ.

وبما أن الموقف في غاية الوضوح ، فإنه لا يمكن لأي مسلم أومسلمة أن يبرر تأييد مثل هذه النظرية.

فالأسباب الوحيدة المحتمل تسببها في الوقوع في مثل هذه الأخطاءِ هي قلة المعلوماتِ، وعقدة النقص عند التعامل مع التطوريين، والاعتقاد في كون التطوريين على حق لمجرد كونهم أغلبية .

اللهُ خَلقَ الكونَ مِنْ عدم

يخلق الله كل شىء كيفما شاء ، وقتما شاء ، دون الحاجة إلى التقيد بأيّ نموذج معين .
فالله قادر على أن يخلق ما يشاء ومن العدم.
وذلك لكونه سبحانه المنزه عن أيما عيب والغني عن أيّ حاجة.
فهو لا يحتاج لأيّ سبب، أو أداة ، أَو مراحل لإتمام خَلْقِه.
لا أحد يَجِبُ أَنْ يُخْدَعَ بحقيقة كون كُلّ شيءِ مُرْتبط بأسباب معينة وبقوانين طبيعيةِ.
فاللهَ فوق كُلّ هذه الأسبابِ والقوانينِ، فهو موجدها و خَالقها.

فالله، رب السماواتِ و الأرضِ ، يُمْكِنُ له كذلك أَنْ يذهب بكل هذه الأسبابِ إذا ما أراد ذلك.
فعلى سبيل المثال، فالله قادر على خلق أناسَ لَيسوا بِحاجةٍ إلى الأوكسجينِ للبَقاء، ومن ثم لَيسوا بِحاجةٍ إلى رئتين.
وبأخذ هذا في الاعتبار، فلماذا "يَحتاجُ" الله إذن لتطويرالرئةِ بمرور الوقت من خلال آلية النمو و الارتقاء أَو من خلال أيّ آلية أخرى؟!
ومن ثم ؛ فإن وضع قيود لقدرة الله تبعا لأحاسيس وأفكار البشر إنما هو خطأ فادح.

فنحن لا نحيط بشىء من علمه إلا بما شاء .
فالله قادر على جعل عملية الخلق عملية مرحلية إذا ما شاء ذلك .
فعلى سبيل المثال، فالله يخلق النبات من فلقه الحب والنوى والإنسان من اتحاد الحيوان المنوي مع البويضة.

إلا أن مراحل الخلق هذه ، كما سَنَرى لاحقاً، لَيْسَ لها - على الإطلاق - أي علاقة بالنمو والارتقاء أَو بعامل الصدفةِ.
فكُلّ مرحلة من مراحل نموالنبات ، أَو تحول الخلية الواحدة إلى كائن بشري "في أحسن تقويم" إنما هو بفضل المنظوماتِ المثاليةِ التي خلقها الله القادر على كل شىء.

فلقد شاء الله أن يخَلقَ السماوات و الأرضَ ، وما بينهما، وكُلّ الكائنات الحيّة وغير الحية.

فإن ذلك على الله يسير ، حيث يشير القرآن إلى ذلك من خلال الآيات التالية:

"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ " (سورة الأنعام ، الآية73)
"إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " (سورة النحل ، الآية 40)
"هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ " (سورة غافر ، الآية 68)

فإن الخَلْق على الله يسير.
فكما تبين لنا هذه الآيات فما على الله إذا قضى أمرا إلا أن يقول له كن فيكون .

فالعديد مِنْ الآيات تَكْشفُ لنا أنّ الله قد خَلقَ هذا الكونَ وخلق الكائنات الحية كلها في أحسن تقويم.
وإنه لخطأ غاية في الفداحة والخطورة أن يلجأ بعض المسلمين إلى التفسيرات الملتوية في مواجهة هذه الحقيقة الواضحة -الله سبحانه وتعالى خالق كل شىء في أحسن تقويم - وكذلك أن يدعوا مثل هذه الادعاءات الزائفة الخادعة والتي تحتوي في طياتها على ما يؤول إلى أن الله سبحانه وتعالى قد خلق هذا الكون بتطبيق مبادىء النمو و الارتقاء من تحول وانتخاب طبيعي ومراحل انتقالية ما بين القردة والبشر.

وإنه لمن الخطأ تَقديم مثل هذه التفسيراتِ والتي ليس لها أي دليل في القرآن أَو في العِلْم ، على أمل أَنْ يتقبلنا التطوريون من أنصار داروين.
فاللهُ هو واضع ومصدر كُلّ القوانين في هذا الكونِ وهو الذي يعطيها الشكلَ الذي يَختارُه، وهوالذي يخلق ما يشاء متى يشاء ، وسع كرسيه السماواتِ و الأرضِ ، وهو العلي العظيم المتحكم في كل شىء.

وبالرغم من كل ذلك فإن بَعْض الناسِ لا يدركون قدرة الله بشكل كامل ومن ثم يصدرون أَحْكاما بخصوص الله سبحانه استنادا إلى قدراتهم المحدودةِ .

يَكْشفُ اللهُ لنا عن وجود هذه الفئة من خلال الآيات القرآنِية التالية:

"وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ " (سورة الأنعام ، الآية 91)
"مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " (سورة الحج ، الآية 74)

"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ " (سورة الزمر ، الآية 67)

وعلى عكس ذلك الذي يقترحه الذين يعتقدون في الخلق التطوري ، فالله جل في علاه لَمْ يَخْلقْ في بادىء الأمر قرودا ثم جعل هذه القرود بشرا من خلال أشكالِ انتقاليةِ تفتقد إلى بعض الأعضاء البشرية .

بل بالأحرى، وكما يَكْشفُ القرآن ، خَلقَ اللهَ الإنسان في أحسن تقويم:
"لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " (سورة التين ، الآية 4)

"خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " (سورة التغابن ، الآية 3)

تعتبرالآيات أعلاه جزءا مِنْ البراهينِ على أن اللهِ خَلقَ الإنسان في أحسن تقويم ، أي الشكل الذي هو عليه الآن.
وبالطبع، فإن لدى الإنسان العديد من نقاط الضعف ، والتي جميعها تُذكّره بافتقاره إلى ربه.

وتعتبرالعاهات وحالات العجز نَتائِجَا لخَلْق هادف، حيث تعمل كتذكرة لأولئك الذين يَرونَها وكإختبار لأولئك الذين ابتلاهم الله بها.

كسلالات وأنواع، خَلقَ اللهَ كُلّ الكائنات الحيّة بشكل آني وفي أحسن تقويم ، دون الحاجةِ للتطورِ مطلقاً.
وتلك الحقيقةِ الواضحة يكشف عنها القرآن:
"هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ( سورة الحشر ، الآية 24)

ويَصِفُ القرآنُ كيف أن الخَلْق على الله يسير:
"أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم" ( سورة يس ، الآية 81)
"مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " ( سورة لقمان ، الآية 28)

أشكال اللهِ المختلفةِ للخَلْقِ

نقطة أخرى مهمة أهملتْ مِن قِبل أولئك الذين يُؤمنونَ بالخَلْقِ التطوّريِ وهي أشكالُ اللهِ المختلفةِ للخَلْقِ.
فلقد خلق اللهُ كائنات حيّةَ تَختلفُ بشكل ملحوظ عن البشرِ والحيواناتِ، مثل الملائكةِ والجنّ.
وهذه المسألةِ سَتُناقشُ في الصفحاتِ التاليةِ.

الْمَلائِكَة أُولو أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاث وَرُبَاع

الملائكة كائناتَ دائمة الطاعة لأوامرَاللهِ.
ويَصِفُ القرآنُ خَلْقُهم – أي هذه الملائكة - كالتّالي:

"الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( سورة فاطر ، الآية 1)

وكما نَرى مِنْ هذا الوصفِ، فإن أشكالَ الملائكةِ تَختلفُ إلى حدٍّ كبير عنْ تلك التي للبشرِ. يَلفتُ اللهُ الانتباه إلى الأشكالِ المختلفةِ للخَلْقِ في الآية أعلاهِ.
وتبين الآيات أيضاً كَيف أن الملائكة تطِيعُ الله وتمتثل لأوامره:

"وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ

يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " ( سورة النحل ، الآية 49-50)

"لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا " ( سورة النساء ، الآية 172)

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " ( سورة التحريم ، الآية 6)

وبالإضافة إلى ذلك ، فلقد خُلِقتْ الملائكة قبل بني آدم.
وفي حقيقة الأمر فلقد أخبرَ اللهَ الملائكةَ عند خلقه آدم - الإنسان الأول - وأَمرهم بالسجود له.

وفي الوقت نفسه ، فلقد آتى اللهَ النبي آدم، عليه السلام ، علما يختلف عن ذلك الذى آتاه الملائكةِ ، حيث علّمه الأسماءَ كلها.

والملائكة لا تَمتلكُ مثل هذا العلمِ.
وكما يَذْكرُ القرآن :

"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"
( سورة البقرة ، الآية 30-34 )

الجنّ مَخْلُوقات مِنْ نارِ

مثلها كمثل الملائكةِ، يَختلفُ مظهرُ الجنّ أيضاً عن بني البشر.
الآيات التالية تبين أن الإنسان خلقَ مِنْ طينِ، بينما الجنّ خُلِقَ مِنْ نارِ:

"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ " ( سورة الحجر ، الاية 26-27)

"خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ " ( سورة الرحمن ، الآية 14-15)

وفي القرآنِ، يَكْشفُ اللهَ كذلك عن الغرضِ من خَلْق الإنسِ والجنّ:

"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " ( سورة الذاريات ، الآية 56)

ومما يتضحُ لنا مِنْ هذا ، أنه بالرغم من أن الإنس والجنّ كائناتَ مختلفةَ تمام الاختلاف ، فإن كليهما قد خُلِق لعِبادَة اللهِ وحده بتطبيق القِيَمِ التي وَصفَها لنا سبحانه وتعالى.

فلقد كَشفَ لنا- سبحانه وتعالى - في العديد مِنْ الآيات أنّ الملائكة والجنّ كليهما لَهُما بَعْض الخصائصِ التي تَختلفُ عن الخصائصِ الإنسانيةِ.
فعلى سبيل المثال، كلاهما يمكنه نقل المادة:

"قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ " ( سورة النمل ، الآية 38-39)

ويَذكر القرآن كذلك أنّ الجنّ - مثل الملائكة - قد خُلِقَت قبل الانسان.
فعندما خَلقَ الله النبي آدم، عليه السلام، أَمرَ اللهَ الملائكةَ والجنّ أن يسجدوا له.
وبعد ذلك، يذكر أنّ الشيطان من الجنّ:

"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا " ( سورة الكهف ، الآية 18)

الخَلْق مسألة يسيرة على الله ، فهو القادر على أن يخلق مِنْ لا شيءِ وبدون سببِ مسبقِ. فكما خَلقَ الملائكةَ والجنّ على هيئات مختلفةِ ومِنْ عدم ، فلقد خَلقَ الإنسان أيضا من عدم خلقا منفصلا مستقلا ودون الحاجةِ للتطورِ.

والشىء نفسه يمكن تطبيقُه على الكائناتِ الحيّةِ الأخرى، مثل الحيواناتِ والنباتاتِ.
الله خَلقَ كُلّ هذه الكائنات آنياً ومن لا شيء ودون إخضاعهم لعملية التطور, بمعنى آخر، بدون تَحويل سلالة إلى أخرى.

وكما قد رَأينَا سابقا،َ فإن المراحلَ التي يَستعملُها الله في هذا الخَلْقِ المذَكور سابقا ، لا علاقة لها بصدفةِ النمو والارتقاء أَو الأحداثِ العشوائيةِ، حيث أن كلا منها إنما هي ناتجة عن الأنظمة التي لا خلل بها والتي أنشأها الله - مالك الملك - بقدرته.

كَيف أن الطين المخلقَة كهيئة الطير قد بث فيها نبي الله عيسى الحياة بأمر الله

وَهبَ اللهُ نبيه عيسى- عليه السلام - قدرات تفوق قدرات البشر الطبيعية في هذه الحياة الدنياِ، كما يرَى في:
"إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " (سورة آل عمران ، الآية 45)

فلقد جاءَ إلى هذا العالمِ بدون أبِّ ، وكان يكلّم الناس في المهدِ ، وكان يشفي المرضى بشكل عجيب معجز.
وعلاوة على ذلك ، فعندما خلق النبي عيسى، عليه السلام ، من الطين كهيئة الطيرونفخ فيه ، دبت الحياة في هذا الطير بإذن اللهِ.
وهذه الحقيقةِ مذكورة في القرآنِ:

"وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " (سورة آل عمران ، الآية 49)

"إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ " (سورة المائدة ، الآية 110)

فالله قادر على أَنْ يَخْلقَ أيما شىء بشكل تلقائي - إن صح التعبير- وفي التو و اللحظة ، على النحوِ نفسه .
فهذه إحدى معجزاتِه - جل في علاه- وحقيقة غاية في الأهمية لا يجب على التطوريين المسلمين إهمالها.
مثال آخر شبيه يَذْكرُالنبي إبراهيم - عليه السلام - ويبين كَيفَ أن اللهَ يهب للكائنات غير الحية الحياة:

"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (سورة البقرة ، الآية 260)

كَيف أن امرأة النبي زكريا العاقر قد أنجبت

مثال آخر على الخَلْقِ الأعجوبيِ يتعلّقُ بالبشرى التي بشر بها الله نبيه زكريا ، عليه السلام ، إنجاب امرأته غلاما :

"يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا " (سورة مريم ، الآية 7-9)

وكما تبين لنا هذه الآيات السابق سردها ، فإن مسألة الخَلْق مسألة هينة على الله سبحانه الذي لا يحتاج إلى مسببات لإتمام خلقه .
فلقد وَهبَ هذا النبي طفلا ، و بأَمْره " كُن! " صارت زوجة هذا النبي حاملاً وبشكل تلقائي.
يقول الله في تكملة الآية:

"قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا " (سورة مريم ، الآية 9)

أمثلة على البعث بعد الموت في القرآن

الخَلْق والبعث كليَّاً بيد اللهِ ، وكما هو الحالُ بالنسبة للخَلْقِ ، فالله لَيْسَ بحاجة إلى أية مسبباتِ خارجيةِ عندما يتعلق الأمر بالبعث.
وهناك العديد مِنْ الأمثلةِ في القرآنِ الكريم والتي تشير إلى هذا الموضوع.

يَكْشفُ القرآنَ عنّ أَنْ الناسَ سيبعثون من مرقدهم تارة أخرى يوم القيامة وذلك بعد موتهم ودفنهم في هذه الحياة الدنيا:

"ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا " ( سورة الإسراء ، الآية 98-99 )

وكما رَأينَا ، فإن الكفار لا يَعتقدونَ بأنّ الناسِ سَيُعاد خلقهم مرة أخرى بعد مَوتهم وبعد أن صاروا ترابا.
ويُلخّصُ هذا المثالِ الحالةَ بالنسبة إلى نظريةَ التطورِ.

ربنا الله، الذي سَيُعيدُ تكوين أجسامَ الناسِ مِنْ العدم يوم الحسابِ ، قد سبق وأن خَلقَ الإنسان الأولَ أيضاً ، النبي آدم ، مِنْ لا شيءِ.
هذه الآيات مهمة جداً لأولئك الذين يُؤمنونَ بالقرآنِ إلا أنهم وفي الوقت ذاته يصرّونَ -على الرغم من هذا- على الإيمان بأفكارِ التطوريين.

يقول الله عزوجل:

"وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ" ( سورة الأنعام ، الآية 94)

يُشيرُ القرآنُ إلى بعث الإنسان بعد الموت يوم الحسابِ.
ويُوضحُ بأنّ هذا الخَلْق سَيَكُونُ مثل "الخَلْق الأول".
وكُلّ شخص وبعد أن يكون قد مات و صار ترابا ، سيولد مرة أخرى يم القيامة من خلال إعادة خلقه كهيئة الإنسان .

ولِهذا السبب نفسه فإن عملية الخَلْق الأول للإنسان تشْبهُ عملية إعادة الخلق الإنساني هذه ولا تَتم بشكل مرحلي ، بل تتم بشكل لحظي معجز.
ونجد في القرآنِ العديد مِنْ الأمثلةِ على البعث بعد الموت .

وعلى سبيل المثال ، فلقد شاء اللهُ لقوم النبي موسى، عليه السلام ، أن يمروا بمثل هذه التجربة ، حيث أماتهم الله ثم أحياهم.
وهذا الموقف مَوْصُوفُ في القرآنِ كالتّالي:

"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (سورة البقرة ، الآية 55-56)

والقرآن يَحتوي على مثال آخريَتضمّنُ قوم النبي موسى ، عليه السلام.
فلقد أمرهم الله أن يضَرْبوا جثّة أحد موتاهم بقطعة لحمِ من بقرة كانوا قد ذبحوها من قبل.
وكما يبين اللهَ لنا في هذه الآية ، فالغرض من مثل هذا الموقف هو إثبات حقيقة البعث لهم وللتأكد من إيمانهم .

وهذا الأمر- وبكل المقاييس - أمرمعجز.
على أية حال، وكما سَنَرى في جزءِ الآية الآتي ذكره ، فلقد ازدادت قلوب هؤلاء القوم قسوة بَعْدَ أَنْ حَدثتْ هذه المعجزةَ:

"وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"
( سورة البقرة ، الآية 72-74)

يضرب اللهُ مثالاً آخر:

"كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ" ( سورة البقرة ، الآية 242-243 )

ويُورد لنا القرآنُ مثالا آخرا : موقف قد واجهُه شخص لم يُؤمنْ بالبعثِ بعد الموتِ.
وطبقاً للآيات ، فلقد أمات اللهَ شخصَا 100 سنةِ وبعد ذلك أحياه بعد الموت.

على أية حال، و بالرغم من مرور كل تلك الفترة الزمنية ، فلقد اعتقد الشخص بأنّه كَانَ ميتَا ليومِ واحد فقط بل ولأقل من ذلك .

وعندما أُخبرَ بالحقيقةَ ، آمن أخيراً، كما نَرى في الآية التاليِة:

"أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" ( سورة البقرة ، الآية 259 )

يَتعلّقُ المثالُ الآخر بأصحابِ الكهفِ .
والذي يُميّزُ هذه القصّةِ عن غيرها من القصص بأنّ في هذه الحالةِ، فالمجموعة المشار إليها لَمْ تُقْتَل ، بل ظلت نائمة لفترة أطولِ مِنْ الفترة الطبيعية المعتادة لحياة أي إنسان .

ولقد اشتملت هذه المجموعة على شبابِ مؤمنِ كان قد هجر قومه مريدا مأوى في كهف وذلك لأن قومه كان قد اتّجهَ إلى الشرك باللهِ وإلى عبادةِ الأصنام.

على أية حال، فلقد أنامهم الله بشكل أعجوبي معجزلأكثر مِنْ 300 سنة بداخل الكهفِ ، وكان ذلك على النحوالتّالي:

" فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا " ( سورة الكهف ، الآية 11)

" وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا " ( سورة الكهف ، الآية 25-26)

على أية حال، فلقد أيقظهم الله بعد فترة من الزمن .
والوصف يَستمرُّ:

"ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى " ( سورة الكهف ، الآية 12-13)

وهم لَمْ يُدركوا بأنّهم كَانوا نائمين كل هذه الفترة الزمنية الطويلة.
وظنوا أنّهم كَانوا نائمينَ لمدّة يوم ، أَو لبضعة ساعات ، ليس إلا ، بينما كَانوا في الحقيقة نياما حوالي ثلاثمائة سنة و ازدادوا تسعا.
الآية موضع السّؤال تقول:

"وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا " ( سورة الكهف ، الآية 19)

مثل هذه الأمثلةِ المذكورة في القرآنِ تبين و بشكل واضح بأنّ اللهِ لا حاجةُ له في أيّة مسببات للخَلْقِ.

سلوك النحل ِ: معضلة لا حل لها بالنسبة للتطوريين

يَكْشفُ الله لنا ومن خلال القرآنِ بأنّه أوحى إلى النحل وأخبرَه بما يَجِبُ عليه عمَله:
"وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" ( سورة النحل ، الآية 68-69)

وكما نَعْرفُ ، فإن النحلَ يَجْمعُ اللقاح ويصنع منه عسلاً بخَلْطه – أي اللقاح - بإفرازاتِ تفرزها أجسامهِ. وحتى يتمكن من اخْتزان العسل وتربية صغاره ، فالنحل يصنع خلايا شمعِية سداسيةِ الشكل مرتبة ترتيب غاية في الدقة ، ولزواياها نفس القياس ، ومتماثلة بشكل عام.
و يَصنعون أقراصَ العسل باستخدام هذه الخلايا.
وعلاوة على ذلك، فإن النحل الذي يَتْركُ الخليةَ بحثا عن الغذاءِ ويرجعُ إليها مرة أخرى إنما قد أمده اللهَ بأنظمةِ خاصِّة تُمْكِنُه من إيجاد طريق العودة.
وحتى تمتلك حشرة كالنحلة – من تلقاء نفسها - مثل هذه المعرفة بخصوص زوايا المسدسات ، وتكتشف صيغةَ تصنيع الشمعِ ، وتُصمّم الأنظمةَ الضروريةَ لتَصنيعه بداخل جسمِها ، وبعد ذلك تضع مثل هذه المعلوماتِ في حمضها النووي الخاص حتى يتسنى لأعضاء هذه السلالة مستقبلا أن يَمتلكُوا نفس القدراتِ ، بالطبع أمر مستحيل.
وإنه لمن الواضح أن النحل قد عُلّمَ كُلّ هذه الأشياءِ مِن قِبل قوَّة عليا.
بمعنى آخر، فإن مثل هذه المعرفةِ قد أوحى الله بها للنحل ، كما تكشف لنا هذه الآيات.
الله ، الذي وسع كُلّ شىء علما ، يَصِفُ للنحلةِ ما تحتاجُ عمله ، والنحلة بعد ذلك تَتصرّفُ بشكل كامل من وحي هذا الوصف وعلى ضوءِ هذا الإلهامِ الآلهي.
مثل هذا السلوكِ الواعيِ دليلُ واضحُ على الخَلْقِ.
ودراسة مثل هذه الخصائص في الحيواناتِ تَكْشفُ التصميمَ المنزه عن أيما عيب وكذلك عن الوعي الكامل المتأصّلَ في الكائنات الحية.
فإن مثل هذه الأمور- مرةً أخرى - تتيحُ للفرد فرصة فهم أن الله لا يضاهى قدرته شىء.

فاللهُ قادر على أن يخلق أيما مخلوق شاء ، و بأية خصائص كانت ، وهو القادر على كل شىء ، و مليك كل شىء.
على أية حال ، فإن التطوريين يعتقدون في أنّ مثل هذه المميزّاتِ والخصائص الإستثنائيةِ التي اختص بها الله بعض مخلوقاته إنما ترجع إلى الصُّدفَة.
وطبقاً لهذا الإدّعاءِ الغيرمنطقيِ ، فإن النحل قد تَعلّمَ حِساب الزوايا بل واستطاعَ أن ينقل هذا العلم إلى غيره من النحلِ من خلال الصُّدفَة.

وطبقاً لهذا الإدّعاء فإن الصدفةُ قد أدت كذلك إلى ظهورِ أنظمةِ جسمانيةِ قادرة على انتاج الشمعِ والعسلِ .
وبمجرد التفكر لثوان قليلة فقط ، يصبح من الممكن رُؤية أن مثل هذه السيناريوهات الخياليةِ أبعد ما تكون عنْ المنطق والحجة والعِلْمِ.
فاللهُ يَخْلقُ النحلَ ويَهبه الوعي.
ومثل هذه المعجزاتِ في الخَلْقِ تَضِعُ التطوريين في موقف محيّر لا يُمْكِنُهُم أبَداً الفرار منه.

النبي سليمان كان يفَهمَ لغة النمل

كما أشير إليه في القسمِ السابقِ، فإن التطوريين يَزْعمُون بأنّ الكائنات الحيّةِ إنما هي من عمل الصدفة البحتة والأحداثِ العشوائيةِ.
ففي رأيهم، وعلى الرغم مِنْ حقيقة عدم وجود أي برهان يؤكد هذه الإطروحةِ الخياليةِ، فإن الحيوانات لا تَمتلكَ أي وعي.
وعلى الصعيد الآخر فإنه يوجد الكثير مِنْ الدلائلِ التي تفند إدّعاءاتِهم وتدحضها.

فبالأخذ في الاعتبار الوصف القرآني لما جرى بين النبي سليمان، عليه السلام، و بين نملة .
فطبقاً للآيات ، فالنبي سليمان قد سَمعَ و فَهمَ كلام النملةَ، كما ترُوِي الآيات التاليةِ:

"حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ " (سورة النمل الآية 18-19)

فكما تُوضحُ هذه الآيات ، فلقد خاطبتْ نملة من النمل باقي النمل .
وبالطبع ، وبافتراض أن هذه النملة ما هي إلا مخلوق "خلق" بمحض الصُّدفَة فإنه لمن المستبعد أَنْ يَكُونَ لدَى هذا الكائن نظام اتصالِ خاص يَسْمحُ له بمُخَاطَبَة عشيرته الخاصةِ أَو إظهار سلوك ما قد يشير إلى امتلاك وعي أو منطقِ.

فالمخلوق الذي يوجده الله في هذا الوجود بمشيئته سبحانه وتعالى سوف يظهر سلوكاً واعياً على النحو وإلى الحدّ الذي يريده الله.
وإنه لمن المحتمل أيضا التواصل و التخاطب مَع مثل هذا المخلوقِ، إذا ما أراد الله ذلك.

فالحيوانات ، و التي طبقاً لنظريةِ التطورِ، يفترضُ افتِقارها إلى الوعي إنما تكشف سلوكيتها في الحقيقة عن قدر كبيرِ من المنطق والسببية ، كما رَأينَا في هذين المثالين. ونحن َرُبَّمَا لا نَستطيعُ أن نتَوَقُّع أن يدرك الداروينيون طبيعة مثل هذا الموقف الإستثنائي ،
( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

على أية حال، فإن أولئك الذين يَقُولونَ بأنّهم يُؤمنونَ بوجودِ الله وقدرته يجب عليهم أَنْ يُفكّروا حقا بشأن مثل هذه الإشاراتِ، حيث أنها وبكل حزم و وضوح تثبت عدم صحة نظرية النمو و الارتقاء.

هذا و من ثم يبين أنه لا مجال على الإطلاق للدفاع عن النمو و الارتقاء .

معجزة الخَلْق


إن إهْمال حقيقة قدرة الله على الخلق والتدمير يلعب دورا هاما في إيمان بعض المسلمين بالتطورِ.
مثل هؤلاء التطوريين المسلمين متأثرون بالاتجاه الطبيعي ، الذي يزعم بأنّ قوانينَ الطبيعةِ ثابتة وغير قابلة للتغيير ، وبأنّ لا شيءِ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدثَ خارج إطار هذه القوانين.

إلا أن هذا يعتبر خطأ جسيم.
والذي نشير إليه بلفظ "قوانين الطبيعةِ" إنما أساسه خَلْق اللهِ وإبْقاؤه المادة في شكل معيّن.

وإنه لمن المستحيل أَنْ تَكُون هذه الخصائص قد انبثقت من تطور المادة من تلقاء نفسها.
وكما قد أوضحَ الله ، فإنه سبحانه وتعالى يُمْكِنُ أَنْ يُعدّلَ هذه القوانينِ في أي وقت كان، بل ومن الممكن له جل وعلا أن يَتصرّف خارج نطاق هذه القوانين.

ونسمي مثل هذه الأحداث بالمعجزاتِ .

وكون بقاء أهل الكهف على قيد الحياة لأكثر مِنْ 300 سنة يعتبر معجزة خارقة لقوانينِ الطبيعةِ.
ويعتبر من المعجزات أيضا ، أولئك الذين أماتهم الله ثم أحياهم بعد ذلك .
يَحْدثُ كُلّ حدث لأن الله أراد له الحدوث.

تلك التي تَحْدثُ في إطار بَعْض القوانينِ الطبيعية أحداث طبيعية ، بينما الأخرى تعتبر معجزاتَ.
والنقطة التي مَنْ الضَّرُوري أَنْ تُفْهَمَ هنا بأنّ قدرة اللهِ لا يحدها تلك القوانين التي خَلقَها الله سبحانه وتعالى بقدرته و مشيئته.

فإذا ما أراد الله فإنه يمكنه أَنْ يَعْكسَ كُلّ قوانين الطبيعةِ تماما.
فإن ذلك على الله يَسير.

وبما أن التطوريين المسلمين قد وقعوا تحت تأثيرالاتجاه الطبيعي ، والذي يعتبر أساس الدارونيةِ ، فإنهم من ثم يُحاولونَ تَفسير أصلِ الحياةِ الإنسانيةِ وغيرها من الحيوات من خلال القوانينِ الطبيعيةِ.
هؤلاء التطوريون المسلمون يَعتقدونَ في أنّ اللهِ قد أوجد الكائنات الحية في هذا الوجود بواسطة خَلْق تحده و تحكمه القوانينِ الطبيعيةِ ، ومن ثم يَتخيّلُون بأنّ الخَلْقِ قد أوجد من خلال التحولِ ، والانتخاب الطبيعي ، والتغير ، وتحول سلالة إلى أخرى.
وعلى أية حال ، فإنه لخطأ فادح أن يتقبل المسلمون مثل هذا المنطقِ "الطبيعتي" ، حيث أن المعجزاتِ التي يصفها القرآنِ بشكل واضح تَكْشفُ أنّ مثل هذا المنطقِ لا أساس له من الصحة.

وبالنظر إلى تلك الآياتِ التي تُناقشُ خَلْقَ الإنسان وغيره من الكائنات الحية ، نَرى بِأَنَّ هذا الخَلْقِ قد تم عَلى نَحوٍ أعجوبي معجزوخارق لقوانينِ الطبيعةِ.
وهكذا يبين الله كيفية خَلْقَ الكائنات الحية :

"وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( سورة النور، الآية 45)

تُشيرُ هذه الآية إلى مجموعاتِ الكائنات الحيّةِ الأساسية على الكرة الأرضِية - الزواحف، والطيور، والثدييات - وتَقُولُ بأنّ الله قد خَلقَ كلّ هذه الكائنات مِنْ الماءِ .

وبنظرة أقربِ ، فإن هذه المجموعاتِ لَمْ تُخْلَقُ " من بعضها البعض" كما " يستنبط " النمو و الارتقاء ، بل "مِنْ الماءِ."
بأسلوب آخر، فإن هذه الكائنات قد خلقها الله مُنفصلة من مادة مشتركة الله خالقها.
ولقدأوضحَ العِلْمُ الحديث بأنّ هذه المادّةِ المشتركةِ هي الماء ، المكوّن الأساسي للأجسام الحيّة كلها.
وأجسام الثديياتِ حوالي 70 بالمائة منها ماء .

والماء الجسمانيِ لكل كائن حي يمكن الاتصال بين الخلايا بعضها البعض ، بالإضافة إلى الاتصالِ بينِ الخلايا وبينَ الأنسجَة المختلفة .
وإنها حقيقةُ مقبولةُ أنه لا شيء يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ دون ماءِ.

وعلى الرغم من ذلك فإن بَعْض المسلمين يسيؤونَ فهم الآية أعلاهَ ويُحاولون إعْطائها من المعنى ما يجعلها أكثرَ توافقا مع التطورِ.
وعلى أية حال، فإنه من الواضح أن حقيقةِ الخَلْقِ مِنْ الماءِ لَيْسَت لَها علاقة بالتطورُ، حيث أن تلك النظرية لا تَدّعي بأنّ كُلّ كائن حيّ أساس نشأته الماء.

بل على العكس، فإن نظرية النمو والارتقاء تزْعمُ بأنّ السلالات المختلفة للكائنات الحيِّة قد تَطوّرَت مِنْ بعضها البعض، وهذا تناقض واضح لحقيقة أنّ كُلّ الكائنات الحيّة قد خُلِقتْ مِنْ الماءِ (بأسلوب آخر، أنّها خُلِقت بشكل مستقل).

خَلْق الإنسان مِنْ طين

في القرآنِ، يَكْشفُ لنا اللهَ أنّ الإنسان قد خُلِقَ بطريقةٍ أعجوبية معجزة.
فلكي يخَلق الله الإنسانِ الأولِ، شكّلَ سبحانه وتعالى طيناً، وبعد ذلك نفخ فيه من روحه:

"إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ " ( سورة ص ، الآية 71-72)

"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ " ( سورة المؤمنون ، الآية 12)

"فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ " ( سورة الصافات ، الآية11)

ومن هنا يُمْكِنُ أَنْ يُرى بأنّ الإنسان لَمْ يُخْلَق مِنْ أصل قردِ أَو من أي نوعِ آخرِ، كما يحاول المسلمون التطوريون أن يحملونا على الاعتقاد ، بل خلقه الله من طين , وهي مادة لا حياة فيها.

فلقد أحال الله بشكل أعجوبي تلك المادة الغير حية إلى كائن بشري ونفخ فيه من روحه.
فليست هناك "عملية تطوّرية طبيعية" تعمل هنا، بل هي قدرة الله على الخَلْق الأعجوبيِ المباشرِ.
وفي حقيقة الأمر ، فإن كلمات الله المذكورة أدناه تبين أن الإنسان قد خُلِقَ مباشرة بقدرةِ اللهِ:

"قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ " ( سورة ص ، الآية 75)

وباختصار فإن القرآن لا يَحتوي علي أي تفسيرِ " لخَلْقِ تطوّريِ " للإنسان أولغيره من الكائنات الحية.
بل على العكس، فالقرآن يُصرّحُ بأنّ اللهِ قد خَلقَ كل هذه المخلوقات بشكل إعجوبي مِنْ مثل هذه الموادِ الغير عاقلةِ كالماء والطين.
على الرغم مِنْ هذا، فإن التاريخَ الإسلامِي يكشف عن أن بَعْض المسلمين قد تُأثّروا بالفلسفةِ الإغريقية القدِيمَةِ ، وكذلك ببعض العناصر المادّية والتطوّرية الدخيلة ، وبعد ذلك حاولَ هؤلاء أَنْ يُوفقوا ما بين تلك الفلسفةِ وما بين القرآنِ.

ولقد رَدَّ العالم والمفكر الإسلامي الجليل الإمامِ الغزالي على هذه التياراتِ والتي بدأت في الظَهور في عصره ، من خلال كتابه
( تهافت الفلاسفة ِ) ومن خلال غيره من الأعمال الأخرى.

على أية حال ، فبانتشارِ نظريةِ التطورِ أثناء القرنينِ التاسع عشر والعشرينِ ، بَدأتْ افتراضات "الخَلْق بالتطورِ" في الظُهُور ثانية في العالمِ الإسلاميِ.

ويعمل الفصلُ القادمُ على تناول الأخطاء التي ارتكبها أولئك المسلمون الذين يُدافعونَ عن مثل هذه الافتراضات ، وكذلك تُحلّيل تعليقاتَهم على الآيات القرآنية التي يَستعملونَها لتَبرير موقفِهم.