عوامل الفكر



أرشد القرآن إلى عوامل الفكر ودل عليها بقوله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ . هنا يمن الخالق علينا بأن جعل لنا الحواس التي بها نقوم بالعملية الفكرية ونتوصل إلى العلوم ولذلك وردت في الآية: ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾، وعقبها ذكرت بعض الحواس ذكراً يفيد العلية في العلم، لعل ذلك يجعلنا نشكر الله على أكبر نعمة وهبها للإنسان وهي نعمة التفكير. ذلك أن استخدام الإنسان لحواسه هو الذي يوجد العلم ويجعل الإنسان يفكر وينتج، يحكم ويستنتج، يؤسس ويبني، يصحح ويصوب، يرتفي ويسمو، يميز ويختار، ونجد نفس السياق في آية أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾، وحتى تتوضح الصورة بشكل لا لبس فيه نعرج على أقوام ذكرهم الله ونفى عنهم العقل: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾فمن عوامل العقل الحواس وبها نقوم بالعملية العقلية، وفي آية أخرى يقرر القرآن: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾
وينفي لاحقاً عن الكفار السمع والبصر، وهذا التصوير من القرآن هو تصوير مجازي، فهم حقيقة ليسوا صماً ولا بكماً ولا عمياً، وإنما بإساءتهم استعمال حواسهم فكأنهم أماتوها، ففقدت وظيفتها في التفكير الصحيح، وفي نفس السياق وردت هذه الآية: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ وفي سورة الأعراف نجد تأكيداً على ما سبق الإشارة إليه:﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾، ويتواتر نفس المعنى في آيات أخر:﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لاَ يُبْصِرُونَ، وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ، فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ  وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾،

فالكفار بإساءة استخدامهم حواسهم عطلوا ملكة التفكير عندهم: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾، وفي يوم القيامة يعترفون بذلك: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. ويعرج القرآن في آيات أخر على عامل هام من عوامل التفكير وهو المعلومات السابقة، يقول عز وجل: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾

وبما أن أفكار القرآن لها واقع تعالجه أو تحكم عليه أو تشخصه، فيمكننا أن نضيف الواقع إلى عوامل التفكير: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾، وإذا أضفنا الفؤاد المذكور في كثير من الآيات وهو إطلاق مجازي يريد القرآن أن يعبر من خلاله عن عدم الارتياب والشك عندما ترتبط الأفكار بالأفئدة، أي إذا سارت العملية الفكرية وتمت بطريقة صحيحة وانعقد القلب على ما أنتجته العملية من أفكار، وهو تصوير لارتباط الفكر بالوجدان أو بالأحاسيس من أجل إعطائها حرارة وحيوية من شأنها أن تدفع بصاحبها من أجل العمل بها أو إيجادها، لهذا استلزم الربط بين العوامل التي ذكرها القرآن وبين العملية الفكرية نفسها لنفهم أنه لا بد من دماغ صالح للربط بين الصور التي تلتقطها الحواس وبين المعلومات السابقة ليحصل إنتاج الأفكار
.



يتبع ...