( 2 )
ومن النفائس اللغوية والنحوية في القرآن الكريم قوله تعالى :
(( ﴿من ذا الذي يقرض اللـه قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة واللـه يقبـض ويبسط وإليه ترجعون﴾ )) من سورة البقرة : 2 / الآية 245 .
حيث نجد أن الفعل : ( يقبض ) ، والفعل : ( يبسط ) فعلان متعديان بالأصالة ، بدلالة قبول كل منهما هاء المفعول ( هاء غير المصدر ) ، ولكنهما وردا لازمين على مستوى الاستعمال ؛ لأمور ، منها :
( 1 ) : عدم إرادة المفعول : ( المقبوض ) ، ولا : ( المبسوط ) ، بل أريد التركيز على الحدث الموجـود في الفعل : ( القبض ) ، و : ( البسط ) .
( 2 ) : والتنصيص على شمولية زمنٍ ( استمراريته ): ( القبض ) ، و: ( البسط ) ، حيث لا يمكننا أن نعرب : ( يقبض ) ، و: ( يبسط ) فعلين مضارعين ، وإن كانا كذلك في الصورة اللفظيــة ، إلا أن تحديد الزمن المضارع بالحال أو الاستقبال ، أو كليهما يخالف المعنى ، فاللـه ـ سبحانه وتعالــى ـ القابض والباسط كل وقت ؛ ولذلك كان الزمن هنا محررا عن كل قيد ؛ لأنه يقبض ويبسط متى ما شاء ويشاء .
( 3 ) : والتركيز على فاعل الحدث ( القبض والبسط ) ، فإذا كان التركيز منصبا على الحدثية المعززة بشمولية الزمن فإن القصد توجه إلى الفاعل الحقيقي للقبض والبسط وهو لفظ الجلالة الذي تقــدم
على فعليه الحقيقيين ؛ لإفادة معنى الثبوت ، إذ تغير نمط الجملة من الفعلية إلى الاسميــة ؛ لإرادة
معنى الثبوت ، فمما هو معلوم في الدس النحوي أن التعبير بالجملة الاسمية يراد به الثبـــــــوت ،
والتعبير بالجملة الفعلية يراد به التجدد والحدوث والاستمرار ـ وهذا مما يمنحه للفعل الزمـــــــــن
الموجود فيه ـ .
ولذلك نزل الفعل المتعدي منزلة الفعل اللازم ومن هنا يمكن القول أن ما نصصنا عليه إنما هـــو : " عام في كل شيء فهو القابض الباسط " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها أيضا قوله تعالى : (( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ﴾)) من سورة ياسين : 36 / الآية 37 .
استعمل الفعل : ( نسلخ ) على غير حقيقته ، على غير ما قاله النحويون ، فهو ـ عندهم ـ فعل متعد فـــي الأصل ، يقال : ( سلخ فلان جلد الشاة ) ، ولكن الذي دفعنا لأن نذكر هذا النص الكريم المعنى النحـــــوي للفعل : ( نسلخ ) ، وإعرابه ، والإعراب يتم على أساس المعنى ، حيث إنه لا إعراب بلا إدراك للمعنـى ، وكثير من الناس يعلمون أن النهار يسلخ من الليل قياسا على ظاهر النص الكريم ، لكنهم حقيقـــــــــة لا يدركون المعنى كما يجب أن يفهموه ، فالقاعدة النحوية تقول : ( إن الجمل بعد النكرات صفات ، وبعـــد المعارف أحوال ) وبناء على ظاهر النص الكريم فإن لفظ : ( الليل ) معرف بـ : ( ال ) .
فقوله تعالى : (( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون )) ، " أي : وعلامة دالة علــى توحيد اللـه تعالى وقدرته ووجوب إلاهيته ، والسلخ : الكشط والنزع ، يقال : سلخه اللـه من دينه ، ثـــم تستعمل بمعنى الإخراج ، وقد جعل ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وظهور المسلــوخ ، فهي استعارة ...... والمعنى : نسلخ عنه ضياء النهار ، ( فإذا هم مظلمون ) أي : ظلمة ؛ لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم " .
وحقيقة الأمر أن : ( ال ) هنا لم تكن للتعريف ـ وإلا لتغير الحكم في غير القرآن الكريم ـ ، وإنما كانــــــت لاستغراق الجنس .
وعلامة : ( ال ) التي تفيد استغراق الجنس صحة إبدالها بلفظ : ( كل ) ؛ ولذلك يكون إعراب الفعل هنــا صفة لا حالا ؛ والصفة تفيد أمرين في هذا الموضع :
( 1 ) الشمولية عن النعت : حيث إن النعت أخص من الصفة ، والصفة أعم من النعت .
( 2 ) والثبوتية : حيث إن الصفة تفيد الثبوت ، والنعت يفيد التغير .
وهذا المعنى هو المقصود بالحكم ـ واللـه أعلم ـ .
وعلى ذلك يكون المعنى : كل ليل نسلخ منه النهار ، فالنهار هو المسلوخ من الليل ، والليل هو المسلوخ عنه النهار ، وهي شبيهة بإخراج النور من الظلمة ، والحق من الباطل ، والعدل من الظلم ، والإيمان من الشرك ، والأبيض من الأسود .
ومن هنا كان التنصيص على سلخ النهار من الليل ( إخراجه وانتزاعه منه ) ؛ ولذلك أريد بالزمن مــــن الفعل بالاستمرار ، فالإخراج والانتزاع المعبر عنهما بـ : ( نسلخ ) تكون مستمرة لا مقيدة ، وعلى فاعل السلخ ـ وهو لفظ الجلالة الذي يعبر عنه بالمقدرة الإلهية العظيمة ـ .
أما لفظ : ( النهار ) فكثير من الناس ـ أيضا ـ يعربه مفعولا فيه ( ظرف زمان ) ، على أساس أنه يفيــد
التعبير عن زمن ـ وهو ما ليس كذلك ـ ؛ لأنه لو أعرب كذلك لكان قد غيب المفعول الحقيقي للفعــل ؛ لأن المفعول فيه على ما جاء في كتب النحو هو : " زمان أو مكان ضمن معنى : ( في ) باطـــراد " ، فيكون المعنى : ( كل ليل نسلخ منه في نهار ) ، فيكون المعنى بشكل عام أن الليل هو المسلوخ مـن النهار ، والنهار هو المسلوخ عن النهار ، أي : يتغير المعنى فيكون عكس ما أريد له في النص القرآني الكريم ؛ ولذلك كان لفظ : ( النهار ) مفعولا به في الآية الكريمة ، على أساس أن : ( ال ) في لفـــــــظ : ( النهار ) تفيد استغراق الجنس ـ أيضا ـ ، كما أنه لو حذف لفظ : ( النهار ) من النص في غير القـــرآن الكريم لنقص المعنى ؛ ولذلك يتوجب ذكره فذكر .
............................... يتبع
المفضلات