

-
اشتملت بعض كتب التفسير على أحاديث موضوعة في فضائل السور والآيات القرآنية ، وكذلك : فيما يتعلق بأسباب النزول وفيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كقصة الغرانيق وتزوجه ببعض أزواجه ، وهي : السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها.
ومن هذه الموضوعات : ما هو خفي دقيق لا يدركه إلا الحفاظ المتقنون العارفون بقواعد الجرح ، والتعديل ، وتواريخ الرجال ، وهذا النوع راجَ على بعض الكتاب وأهل العلم ، وتداولوه في كتبهم ، وأحاديثهم ، وخطبهم ، ووعظهم وتذكيرهم للناس.
ومنها : ما يدركه من ليس له قدم ثابتة في حفظ الحديث ، ونقده والعلم برجاله وأحوال رواته لمصادمته للمعقول ، ولما أجمع عليه العلماء من عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن مثله فقد ردوا بعض هذه المكذوبات من جهة العقل والنظر ، ولم يتوسعوا في نقده من جهة ا لنقل ، والرواية ، فكان على أن أستدرك ما فاتهم ، وأن أتوسع في نقده من جهة السند والمتن ، أو بعبارة أخرى : من جهة النقد الداخلي ، والنقد الخارجي ، وبذلك لا تبقى هناك أية شبهة في التمسك بهذه المرويات الواهيات الساقطات عن درجة الاعتبار.
ومن هذه المرويات المختلقة ما أجمع العلماء على الحكم بوضعه ، واختلاقه ، ولكن الوقوف على كلامهم وكتبهم ليس متيسرا ، ولا سهلا على كل قارئ لهذه التفاسير ، فمن ثم وقع فيما وقع فيه الكثيرون من الاغترار بهذه المرويات ، وأمثالها ، وزعمهم أن لها أصلًا ، فكان علي أن أبحث ، وأنقب ، وأضع بين يدي القارئ ما قاله الأئمة ، حتى يكون على حذر منها ، ومنها ما اختلف فيه أئمة كبار : منهم من حكم بزيفه ، ومنهم من حكمت عليه الصنعة الحديثية ، فانتصر لها ، وجعل لها أصلا ، ولكنه ركب الصعب في بيان المراد منها ، وذلك كقصة الغرانيق ، فكان لزاما عليَّ أن أرد عليهم بمقتضى القواعد الحديثة أيضا التي أخذناها من كتب الأئمة ، وعليها تتلمذنا.
لذلك : رأيت إتماما للفائدة ، وإكمالا للبحث أن أتعرض لما وصله إليه علمي من الموضوعات بعد الفراغ من الإسرائيليات ، وأكشف عما قاله العلماء في تزييف هذه الموضوعات ، ومن الله أستمد العون والتوفيق فاللهم أَعِنْ وسدِّدْ.
قصة الغرانيق موضوعة :
ومن ذلك : ما ذكره بعض المفسرين في سبب نزول قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الحج 52-54.).
فقد ذكر بعض المفسرين في سبب ذلك ما قاله السيوطي : أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق بسند صحيح : "كما زعم" عن سعيد بن جبير ،
قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : {وَالنَّجْمِ} فلما بلغ : {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجدوا وسجد ، فنزلت ، وأخرجه البزار ، وابن مردويه ، بوجه آخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فيما أحسبه وقال : لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، وبعد أن ذكر له طرقا كثيرة قال : وكلها إما ضعيفة ، وإما منقطعة ، سوى طريق سعيد بن جبير الأولى وهذا الطريق وطريقان آخران مرسلان عند ابن جرير هم معتمد المصححين للقصة ، كابن حجر والسيوطي(أسباب النزول للسيوطي على هامش تفسير الجلالين ج2 ص 14-16.
).
وهذه القصة غير ثابتة : لا من جهة النقل ، ولا من جهة العقل والنظر. أما من جهة النقل : فقد طعن فيها كثير من المحققين والمحدثين ، قال البيهقي ؛ وهو من كبار رجال السنة : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال القاضي عياض في : "الشفاء" : إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون ، والمولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم ، ومن حكيت عنه هذا المقالة من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صحابي ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، والمرفوع منها حديث شعبة ، عن أبي البشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -فيما أحسب- "الشك في وصل الحديث" : "أن النبي كان بمكة وذكر القصة" قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعرفه يروى عن النبي بإسناد متصل ، إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، فقد بيَّن أبو بكر أنه لا يعرف عن طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه ، وأما حديث الكلبي : فمما لا يجوز الرواية منه ، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه. ا. هـ. وكذا أنكر القصة القاضي أبو بكر ابن العربي وطعن فيها من جهة النقل ، وسئل محمد بن إسحاق بن خزيمة ، عن هذه القصة ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتابا(*) وذهب إلى وضعها الإمام : أبو منصور الماتريدي ، في كتاب "حصص الأتقياء" حيث قال : الصواب أن قوله : تلك الغرانيق العلى من جملة إيحاء الشياطين إلى أوليائه من الزنادقة ، حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقَّاء الدين ؛ ليرتابوا في صحة الدين ، والرسالة بريئة من مثل هذه الرواية.
فها نحن نرى أن من أنكرها وقضى بوضعها أكثر مما صححها اعتمادا على روايات مرسلة.
اضطراب الرواية :
ومما يقلل الثقة بالحديث : اضطراب الروايات اضطرابا فاحشا ؛ فقائل يقول : إنه كان في الصلاة ، وقائل يقول : قالها في نادي قومه ، وثالث يقول : قالها وقد أصابته سنة ، ورابع يقول : بل حديث نفسه فَسَهَا. ومن قائل : إن الشيطان قالها على لسانه ، وإن النبي لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا اقرأتك ؟ وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي قرأها كما رويت : تلك الغرانيق العلى على أنحاء مختلفة ، وكل هذا الاضطراب مما يوهن الرواية ، ويقلل الثقة بها ، والحق أبلج والباطل لجلج.
القصة لم يخرجها أحد ممن التزموا الصحيح :
والقصة لم يخرجها أحد ممن التزموا الصحاح ، ولا أحد من أصحاب الكتب المعتمدة ، والذي روي في البخاري عن ابن عباس : "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : النجم وهو بمكة ، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" ، وفي رواية ابن مسعود : "أول سورة أنزلت فيها سجدة : والنجم ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا"(فتح الباري ج 8ص 498.). أما سجود المسلمين : فاتباعا لأمر الله ، وأما سجود المشركين : فلما سمعوه من أسرار البلاغة الفائقة ، وعيون الكلم الجوامع ، مع التهديد والإنذار ، وقد كان العربي يسمع القرآن ، فيخر له ساجدا ، أضف إلى ذلك ما فيه من موافقة الجماعة ، والشخص إذا كان في جماعة يندفع إلى موافقتها من غير ما يشعر ، ولو كان الأمر على خلاف ما يهوى ويحب ، وهذا أمر مشاهد ، وفي علم النفس ما يؤيده ، وذكر البخاري في تفسير سورة الحج قال : وقال ابن عباس : {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه} : إذا حدَّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ، ويحكم آياته ويقال : أمنيته قراءته ، فقد حكى الثاني بصيغة التمريض ، التي تدل على الضعف ، وليس في هذا ولا ذاك ما يشير إلى ما يزعمون.
المعتمدون للقصة :
ومع ما ذكرنا من قول المحققين في القصة : فقد حكمت الصنعة والقواعد الاصطلاحية على الحافظ ابن حجر ، فصحح القصة وجعل لها أصلا ، قال في "الفتح" في تفسير سورة الحج ، بعد ما ساق في الطرق الكثيرة ، وكلها سوى طريق سعيد بن جبير ؛ إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا ، مع أن لها طريقين مرسلين آخرين ، رجالهما على شرط الصحيح ؛ أحدهما : ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، حدثني أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فذكر نحوه ، والثاني : ما أخرجه أيضا من طريق المعتكمر بن سليمان ، وحماد بن سلمة ، فرقهما عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، وبعد أن ذكر كلام القاضي أبي بكر ابن العربي ، وعياض قال : وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد ؛ فإن الطرق إذا كثرت وتبينت مخارجها : دل ذلك على أن لها أصلا ، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل ، وكذا من لا يحتج لاعتداد بعضها ببعض ، وإذا تقرر ذلك : تعين تأويل ما فيها مما يستنكر وهو قوله : ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، فإنه لا يجوز حمله على ظاهره ؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس منه ، وكذا سهوا إن كان مغايرا لما جاء به من التوحيد ، لمكان عصمته ، وقد سلك العلماء في ذلك مسالك ، وبعد أن ذكر الكثير منها ، ولم يرتضه ، ارتضى لتصحيح القصة هذا التأويل ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن ترتيلا ، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمة محاكيا نغمته ، بحيث سمعها من دنا ، فظنه من قوله ، وأشاعها بين الناس : قال : وهو الذي ارتضاه القاضي عياض وأبو بكر ابن العربي. ا. هـ ، والقاضيان : عياض وأبو بكر رأيهما البطلان نقلا وعقلا ولكنهما ارتضيا ذلك تنزلا على تسليم الصحة.
الذي أجيب به على ما ذكره الحافظ : .
1- أن جمهور المحدثين لم يحتجوا بالمرسل ، وجعلوه من قسم الضعيف ؛ لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي ، وحينئذ يحتمل أن يكون ثقة أو غير ثقة ، وعلى الثاني : فلا يؤمَن أن يكون كذابا( نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ص 27 ط الاستقامة) ، والإمام مسلم قال في مقدمة كتابه : والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار : ليس بحجة. وقال ابن الصلاح في مقدمته : "وذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه ، هو الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ، وتداولوه في تصانيفهم" ، والاحتجاج به مذهب مالك ، وأبي حنيفة والشافعي ، بشروط ذكرها في رسالته ، ونقلها العراقي في شرح ألفيته ، وقد قالوا في مراسيل أبي العالية : إنها كالريح كما في "التدريب" وإني لأذكر الحافظ بما ذكره من البلاء في الاحتجاج بالمراسيل في مقدمة كتابه لسان الميزان(@).
2- الاحتجاج بالمرسل إنما هو في الفرعيات التي يكفي فيها الظن ، أما الاحتجاج به على إثبات شيء يصادم العقيدة وينافي دليل العصمة فغير مسلم ، وقد قال علماء التوحيد : إن خبر الواحد لو كان صحيحا لا يؤخذ به في العقائد ؛ لأنه لا يكتفى فيها إلا باليقين ، فما بالك بالضعيف.
3- هذا التأويل الذي ارتضاه ما أضعفه عند النظر والتأمل ، فهو يوقع متأوله فيما فر منه ، وهو تسلط الشيطان على النبي ، فالتسلط عليه بالمحاكاة ، كالتسلط عليه بالإجراء على لسانه ، كلاهما لا يجوز ، وفتح هذا الباب خطر على الرسالات ، وإذا سلمنا أن الشيطان هو الذي نطق في أثناء سكوت الرسول ، فكيف لا يسمع ما حكاه الشيطان ؟ وإذا سمعها ، فكيف لا يبادر إلى إنكارها ؟ والبيان في مثل هذا واجب على الفور ، وإذا لم يسمع النبي ، ألم يسمع أصحابه ؟ وإذا سمعوا ، فكيف يسكتون ؟ وإذا لم يسمعوا فهل بلغ من تسلط الشيطان أن يحول بينهم وبين السماع ؟.
ومثل هذا : ما ذكره موسى بن عقبة في مغازيه : من أن المسلمين ما سمعوها ، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين ، فهل كان الشيطان يسر في آذان المشركين دون المؤمنين ؟ ثم كيف يتفق هذا وما روي من أن النبي حزن حزنا شديدا ، وأن جبريل قال له : ما جئتك بهذا.
الحق : أن نسج القصة مهما تأول فيه المتأولون فهو مهلهل متداعٍ لا يثبت أمام البحث.
مصادمة القصة للقرآن المتواتر :
فقد أفادت القصة : "تسلط الشيطان على النبي بالزيادة في القرآن ما ليس منه ، وهو مخالف لقوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} وأي شخص أحق بهذه العبودية من الأنبياء بله رسول الله ؟ وقال تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وأي بشر أصدق إيمانا وأقوى توكلا من رسول الله ؟ وقد صدق الشيطان ذلك ، كما حكاه الله تعالى عنه بقوله : {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} بفتح الللام وكسرها ، ومن أحق من الأنبياء بالأصطفاء ، أو من أشد إخلاصا منهم ؟.
وأما بطلان القصة من جهة العقل والنظر :
فقد قام الدليل وأجمعت الأمة على عصمته ، عليه الصلاة والسلام من مثل ما روي إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا ، من مدح آلهة العرب وهو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ، ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، ويعتقد النبي ذلك ، حتى ينبهه جبريل ، وذلك ممتنع في حقه أن يقوله من قبل نفسه عمدا وهو كفر ، أو سهوًا وهو معصوم ، وقد ثبت بالبراهين والإجماع عصمته من جريان ذلك على لسانه ، أو قلبه ، لا عمدا ولا سهوا ، أو يكون للشيطان سبيل عليه في التبليغ ، ولو جوزنا ذلك لذهبت الثقة بالأنبياء ، ولوجد المارقون سبيلا للتشكيك في الأديان(الشفاء للقاضي عياض).
ووجه آخر لفساد هذه القصة : وهو أن الله تعالى ذم الأصنام في هذه السورة ، وأنكر على عابديها ، وجعلها أسماء لا مسمى لها ، وما التمسك بأذيالها إلا أوهام وظنون ، فلو أن القصة صحيحة : لما كان هناك تناسب بين ما قبلها وما بعدها ، ولكان النظْم مفككا ، والكلام متخاذلا ، وكيف يقع مدح بين ذمين ؟ بل كيف يجوز هذا ممن كمل عقله على كل العقول ، واتسع في باب البيان ومعرفة الفصيح علمه ؟ وكيف يطمئن إلى مثل هذا التناقض السامعون ، وهم أهل اللسان والفصاحة ، ومنهم أعداؤه الذين يتلمسون له الزلات والعثرات ؟ ولو أن ما روي كان واقعا لشغب المعادون ، وارتد الضعفاء من المؤمنين ، ولقامت قيامة مكة ، كما حدث في الإسراء ، ولكن شيئا من ذلك لم يكن.
ووجه ثالث : وهو أن بعض الروايات ذكرت أن فيها نزلت : {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}(الإسراء الآيتان : 73 ، 74.)، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه ؛ لأن الله ذكر : أنهم كادوا يفتنونه ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم ، ومفاده : أن الله عصمه من أن يفتري ، وثبته ، حتى لم يكد يركن إليهم ، فقد انتفى قرب الركون فضلا عن الركون ، لمكان العصمة والتثبت ، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون ، بل افترى بمدح آلهتهم وهذا ضد مفهوم الآيتين ، وهو تضعيف للحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له ؟ ولقد طالبته قريش وثقيف ؛ إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ، ووعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، ولا كان ليفعل ، فكيف يدعي المتخرصون أنه مدح أصنامهم ؟ ومما يدل على افتعال القصة : ما ذكره الأستاذ الإمام الشيخ : محمد عبده في رده هذه الفرية ، وهو أن وصف العرب لآلهتهم بالغرانيق لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم ، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم ، إلا ما جاء في : "معجم ياقوت" من غير سند ولا معروف بطريق صحيح ، والذي تعرفه اللغة : أن الغرنوق والغرانيق : اسم لطائر مائي أسود أو أبيض ، ومن معانيه : الشاب الأبيض الجميل ، ويطلق على غير ذلك "راجع القاموس" ، ولا شيء من معانيه اللغوية يلائم معنى الإلهية والأصنام ، حتى يطلق عليها في فصيح الكلام الذي يعرض على أمراء الفصاحة والبيان ، ولا يجوز أن يكون هذا من قبيل المجاز ، بتشبيه الأصنام والآلهة بالغرانيق ؛ لأن الذوق الأدبي العربي يأبى ذلك.
زعم مردود :
وقد حاول أحد أعداء الدين ، وهو "سيرموير" المستشرق ؛ الذي طبل لهذه القصة وزمر ، أن يدعمهما بما يزعم أنه صحيح ، وهو ما روي أن النبي لما قال ذلك ، تهادن المسلمون والمشركون ، وترامى الخبر إلى مهاجري الحبشة ، فرجعوا إلى وطنهم ، وهو باطل ، والسبب في رجوع مهاجري الحبشة ، هو إسلام السيد الهمام : عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد أعز الله به الإسلام ، وقوى شوكة المسلمين ، فخفف المشركون من غلوائهم مما رغب مهاجري الحبشة في الرجوع إلى وطنهم ، وانضم إلى ذلك : حدوث ثورة في بلاد النجاشي ، كان اعترافه بأن ما جاء به القرآن في عيسى وأنه عبد الله ورسوله حق مصدق لما جاء به الإنجيل ، وإيواؤه المسلمين بعض أسبابها ، فآثر المسلمون العودة على المقام بالحبشة ، خشية أن يتطاير إليهم بعض الشرر والضرر.
وإذا كانت القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وهي مخالفة للقرآن المتواتر ، ومناقضة لما ثبت بالعقل ، مع تعذر التأويل ، فلا جرم أن التحقيق يدعوني إلى أن أصدع بأن حديث الغرانيق مكذوب مختلق وضعه الزنادقة ، الذين يحاولون إفساد الدين والطعن في خاتم الأنبياء.
وإذ قد انتهينا إلى هذه النتيجة الموفقة : فما معنى الآية حينئذ ؟ وللإجابة عن ذلك : أذكر خلاصة ما ذكره الأستاذ الإمام في تفسيرها ، وفي تفسيرها وجهان : الأول ، أن.
التمني بمعنى القراءة1. إلا أن الإلقاء لا بالمعنى الذي ذكره المبطلون ، بل بمعنى إلقاء الأباطيل والشبه مما يحتمله الكلام ، ولا يكون مرادا للمتكلم ، أو لا يحتمله ، ولكن يدعي أن ذلك يؤدي إليه ، وذلك من عمل المعاجزين ، الذين دأبهم محاربة الحق ، يتبعون الشبهة ، ويسعون وراء الريبة ، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان حينئذ ؛ لأنه مثير الشبهات بوساوسه ، و يكون المعنى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدث قومه عن ربه ، أو تلا وحيا أنزل الله فيه هداية لهم ، قام في وجهه مشاغبون يتقولون عليه ما لم يقله ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، وينشرون ذلك بين الناس ، ولا يزال الأنبياء يجالدونهم ويجاهدون في سبيل الحق ، حتى ينتصر ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان من شبه ، ويثبت الحق ، وقد وضع الله هذه السنة في الخلق ليتميز الخبيث من الطيب ، فيفتتن ضعفاء الإيمان الذين في قلوبهم مرض ، ثم يتمحص الحق عند أهله ، وهم الذين أوتوا العلم ، فيعلمون أنه الحق من ربهم ، وتخبت له قلوبهم.
ثانيا : أن التمني : المراد به تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما كان ويكون ، والأمنية من هذا المعنى : وما أرسل الله من رسول ، ولا نبي ليدعو قومه إلى هدى جديد ، أو شرع سابق إلا وغاية مقصوده ، وجل أمانيه ، أن يؤمن قومه ، وكان نبينا من ذلك في المقام الأعلى : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} ، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} ، ويكون المعنى : وما أرسلنا من رسول ولا نبي ، إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ، ألقى الشيطان في سبيله العثرات ، وأقام بينه وبين مقصده العقبات ووسوس في صدور الناس ، فثاروا في وجهه ، وجادلوه بالسلاح حينا وبالقول حينا آخر ، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها ، ونالوا منه وهو قليل الأتباع ، ظنوا أن الحق في جانبهم ، وقد يستدرجهم الله جريا على سنته ، يجعل الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا ، فينخدع بذلك الذين في قلوبهم شك ونفاق ، ولكن سرعان ما يمحق الله ما ألقاه الشيطان من الشبهات ، وينشيء من ضعف أنصار الآيات قوة ، ومن ذلهم عزة ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ليعلم الذين أوتوا العلم أن ما جاء به الرسل هو الحق ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ، هذا هو ا لحق ، وما عدا ذلك فهو باطل.-------------------------------------------------
1 هذا التفسير ورد في صحيح البخاري تعليقا إلا أنه جعله مرجوحا لا راجحا وكذلك أشار إلى الوجه الثاني وهو تفسير التمني بالتشهي ، وجعله هو الراجح "صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب تفسير سورة الحج".
(*)هكذا قال الرازي في تفسيره ، إنه محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وفي الآلوسي نقلا عن تفسير البحر : إنه محمد بن إسحاق جامع السيرة وقد بحثت فتبين لي أن ابن إسحاق جامع السيرة ممن ذكرها في سيرته فاستبعدت معه أن يكون هو الذي فندها ورجحت الأول. وابن خزيمة من الحفاظ الكبار توفي سنة 311 هـ.
(@)قال الحافظ ابن حجر في مقدمة "لسان الميزان" : روي عن شيخ من الخوارج أنه قال بعدما تاب : "إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا" قال الحافظ : "وهذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمراسيل ؛ إذ بدعة الخوارج كانت في الصدر الأول ، والصحابة متوافرون ، ثم في عصر التابعين ، ومن بعدهم ، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثًا ، وأشاعوه ، فربما سمعه الرجل السني فحدث به ، ولم يظهر من حدث به فيحمله عنه غيره ، ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع ، فيحتج به ، ويكون أصله ما ذكرت" وهو كلام من الدقة والنفاسة بمكان ، وأنا لا أؤاخذ الحافظ إلا بما قال.
التعديل الأخير تم بواسطة mosaab1975 ; 26-12-2009 الساعة 08:02 PM
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة عادل محمد في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 25-11-2011, 03:26 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 11-01-2010, 09:05 AM
-
بواسطة مصطفي شريف في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 04-02-2008, 11:19 AM
-
بواسطة صقر قريش في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 24-06-2007, 08:06 PM
-
بواسطة نسيبة بنت كعب في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 25-07-2006, 06:21 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات