

-
قد قررت شريعة الإسلام مسائل السياسة أكمل تقرير , وهدت إلى جميع ما ينبغي سلوكه مع المسلمين ومع غيرهم بأحسن نظام وأعدله , وجمعت فيه بين الرحمة والقوة , وبين اللين والشفقة , والرحمة بالخلق , مهما أمكنت الأحوال . فإذا تعذر ذلك استعملت القوة بحكمة وعدل , لا بظلم وعنف . قال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } [ سورة النحل : الآيتان 90 , 91 ] فأمر الله بالعدل مع كل أحد , وبالإحسان والرحمة لكل أحد , وخصوصا القرابة ومن لهم حق على الإنسان . ونهى عن الفحشاء والبغي على الخلق , في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم . وأمر بوفاء العهود والمحافظة عليها , وحذر من نقضها . وهذه الأمور المأمور بها والمنهي عنها , منها ما هو واضح جلي عينت على المسلمين سلوكها , ولم تجعل لهم في ذلك خيرة ولا معارضة . وهي التي نص الشارع على أعيانها ولم يكل بيانها إلى أحد . فهذا النوع يدخل في قوله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } [ سورة الأحزاب : الآية 36 ] { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ سورة النساء : الآية 65 ] { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ سورة النساء : الآية 59 ] { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [ سورة الشورى : الآية 10 ] وقد تتبع هذا النوع العظيم فوجد , ولله الحمد , مطابقا للعدل والحكمة , موافقا للمصالح , دافعا للمفاسد . والقسم الثاني : الأمور المشتبهة في أصلها , أو في تطبيقها على الواقع , وإدخال الأمور الواقعة فيها نفيا وإثباتا , وطلبا وهربا , فهذا قد أمروا أن يتشاوروا فيه , وينظروا فيه من جميع نواحيه , ويتأملوا ما يتوقف عليه من الشروط والقواعد , وما يترتب عليه من الغايات والمقاصد , ومقابلة المصالح والمضار وترجيح الأصلح منها . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } [ سورة آل عمران : الآية 159 ] وقال تعالى عن جميع المؤمنين : { وأمرهم شورى بينهم } [ سورة الشورى : الآية 38 ] وهذا النوع قد وسع الشارع فيه الأمر , بعدما قرر القواعد والأسس الموافقة لكل زمان ومكان , مهما تغيرت الأحوال وتطورت الأمور . فالقواعد الشرعية إذا سلكت في كليات الأمور وجزئياتها , صلحت بها الأمور , واستقامت الدنيا والدين , وصلحت أمور العباد , واندفعت الشرور والمضار عنهم . ولكنها تحتاج إلى عقد مجالس تجمع الرجال العقلاء الناصحين , أولي العقول الرزينة والأحلام الواسعة والرأي المصيب والنظر الواسع , وتبحث فيها القضايا الداخلية واحدة بعد واحدة , بحثا يشمل نواحي القضية , وتصورها كما ينبغي , وتصور ما تتوقف عليه وتتم به إن كانت مقصودا تحصيلها , وتصور ما يترتب عليها من الفوائد والمصالح الكلية والجزئية , وبحث أحسن طريق لتحصيلها وأسهله , وبحث القضايا الضارة التي يطلب دفعها , بتتبع أسبابها وينابيعها التي تسربت منها , وحسمها بحسب الإمكان , ثم السعي في إزالتها بالكلية إن أمكن , وإلا بتخفيفها وتلطيفها . قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ سورة التغابن : الآية 16 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
ومن أعظم الأصول الشرعية حث المسلمين على القيام بدينهم , والقيام بحقوق الله وعبوديته , والقيام بحقوق العباد , والحث على الاتفاق واجتماع الكلمة , والسعي في أسباب الألفة والمحبة , وإزالة الأحقاد والضغائن . قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } [ سورة الحجرات : الآية 10 ] { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [ سورة آل عمران : الآية 103 ] { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } [ سورة الأنفال : الآية 1 ] { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [ سورة آل عمران : الآية 105 ] { واعتصموا بحبل الله جميعا } [ سورة آل عمران : الآية 103 ] إلى غير ذلك من النصوص الدالة على هذا الأصل العظيم , الذي به تستقيم الأحوال , ويرتقي به المسلمون إلى أعلى الكمال . وقال تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط } [ سورة الأنفال : الآيتان 46 , 47 ] فأمر بطاعته وطاعة رسوله . ويدخل في ذلك جميع الدين . ونهى عن التنازع الذي يوجب تفرق القلوب , وحدوث العداوات المحللة للمعنويات . وأمر بكثرة ذكره المعين على كل أمر من الأمور , وبالصبر الذي يتوقف عليه كل أمر . وأمر بالإخلاص والصدق , ونهى عما يضاد ذلك من الرياء والفخر والبطر والمقاصد السيئة وإرادة إضلال الخلق . وقال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [ سورة الأنفال : الآية 60 ] فأمر بإعداد المستطاع من القوة , فيشمل القوة السياسية والعقلية , والصناعات , وإعداد الأسلحة , وجميع ما يتقوى به على الأعداء , وما به يرهبونهم . وهذا يدخل فيه جميع ما حدث ويحدث من النظم الحربية , والفنون العسكرية , والأسلحة المتنوعة , والحصون والوقايات من شرور الأعداء . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ سورة النساء : الآية 71 ] ولكل وقت ومكان من هذه الأمور ما يناسب ذلك . فانظر كيف كانت هذه التعاليم الشرعية هي السبب الوحيد والطريقة المثلى لسلوك أقوى السياسات الداخلية والخارجية , وأن الكمال والصلاح بالاهتداء بها , والاسترشاد بأصولها وفروعها . وأن النقص الحاصل والنقص المتوقع إنما يكون بإهمالها وعدم العناية بها . ومن السياسة الشرعية أن الله أرشد العباد إلى قيام مصالحهم الكلية بأن يتولى كل نوع منها طائفة تتصدى للإحاطة علما بحقيقتها وما تتوقف عليه , وما به تتم وتكمل , وتبذل جهدها في ترقيتها بحسب الإمكان . قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ سورة آل عمران : الآية 104 ] وقال تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } [ سورة التوبة : الآية 122 ] ولا شك أن القيام بالمصالح العامة على هذا الوجه الذي أرشد الله إليه هو السبب الوحيد للكمال الديني والدنيوي , كما هو مشاهد يعرفه كل أحد . ومن ذلك قوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ سورة النحل : الآية 125 ] وهذا يشمل دعوة المسلمين الذين حصل منهم إخلال ببعض أمور الدين , ويشمل دعوة الكفار : الأولون يدعون إلى تكميل دينهم , والآخرون يدعون إلى الدخول في دين الإسلام الذي به صلاح البشر . وتكون هذه الدعوة بالحكمة , التي هي سلوك أقرب طريق وأنجح وسيلة يحصل بها تحصيل الخير أو تكميله , وإزالة الشر أو تقليله , بحسب الزمان والمكان , وبحسب الأشخاص والأحوال والتطورات . وكذلك بالموعظة الحسنة , والموعظة بيان وتوضيح المنافع والمضار , مع ذكر ما يترتب على المنافع من الثمرات النافعة عاجلا وآجلا , وما يقترن بالمضار من الشرور عاجلا وآجلا . ووصفها الله بأنها موعظة حسنة لأنها في نفسها حسنة وطريقها كذلك . وذلك بالرفق واللين والحلم والصبر وتصريف أساليب الدعوة . وكذلك إذا احتيج في الدعوة إلى مجادلة لإقناع المدعو , فلتكن المجادلة بالتي هي أحسن , يدعى المجادل إلى الحق , ويبين محاسن الحق ومضار ضده , ويجاب عما يعترض به الخصم من الشبهات . كل ذلك بكلام لطيف , وأدب حسن , لا بعنف وغلظة , أو مخاشنة أو مشاتمة , فإن ضرر ذلك عظيم . قال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم } [ سورة آل عمران : الآية 159 ]
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 27-03-2010, 02:00 AM
-
بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 03-02-2010, 02:07 AM
-
بواسطة خليل محمد تبان مشوح في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 28-10-2009, 03:23 PM
-
بواسطة جمال البليدي في المنتدى حقائق حول الكتاب المقدس
مشاركات: 16
آخر مشاركة: 01-07-2007, 08:28 PM
-
بواسطة ابن الاسلام في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 9
آخر مشاركة: 30-10-2005, 08:17 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات