(وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون "15")

وهكذا يدلنا الحق سبحانه على أن الأرض قد خلقت على مراحل، ويشرح ذلك قوله سبحانه:

{قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين "9" وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين "10"} (سورة فصلت)

وهكذا علمنا أن جرم الأرض العام قد خلق أولاً؛ وهو مخلوق على هيئة الحركة؛ ولأن الحركة هي التي تأتي بالميدان ـ التأرجح يميناً وشمالاً ـ وعدم استقرار الجرام على وضع، لذلك شاء سبحانه أن يخلق في الأرض الرواسي لتجعلها تبدو ثابتة غير مقلقة والراسي هو الذي يثبت. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الاستقرار لما خلق الله الجبال، ولكنه خلق الأرض على هيئة الحركة، ومنع أن تميد بخلق الجبال ليجعل الجبال رواسي للأرض. وفي آية أخرى يقول سبحانه:

{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب .. "88"}
(سورة النمل)

وكلمة (ألقى) تدل على أن الجبال شيء متماسك وضع ليستقر. ثم يعطف سبحانه على الجبال:

{وأنهاراً وسبلاً .. "15"}
(سورة النحل)

ولم يأت الحق سبحانه فعل يناسب الأنهار، ومن العجيب أن الأسلوب يجمع جماداً في الجبال، وسيولة في الأنهار، وسبلاً أي طرقاً، وكل ذلك:

{لعلكم تهتدون "15"}
(سورة النحل)

أي: أن الجعل كله لعلنا نهتدي. ونعلم أن العرب كانوا يهتدوا بالجبال، ويجعلون منها علامات، والمثل هو جبل "هرشا" الذي يقول فيه الشاعر:

خذوا بطن هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق

وأيضاً جبل التوباد كان يعتبر علامة. وكذلك قول الحق سبحانه:

{وناديناه من جانب الطور الأيمن .. "52"}
(سورة مريم)

وهكذا نجد من ضمن فوائد الجبال أنها علامات نهتدي بها إلي الطرق وإلي الأماكن، وتلك من المهام الجانبية للجبال. أو:

{لعلكم تهتدون "15"}
(سورة النحل)

باتعاظكم بالأشياء المخلوقة لكم، كي تهتدوا لمن أوجدها لكم

=-=-=-=-=-=-=-=-=-=

سورة الحجر 19

(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون"19")

وحين نسمع كلمة الأرض فنحن نتعرف على المقصود منها، ذلك أنه ليس مع العين أين. والمد هو الامتداد الطبيعي لما نسير عليه من أي مكان في الأرض.

وهذه هي اللفتة التي يلفتنا لها الحق سبحانه؛ فلو كانت الأرض مربعة؛ أو مستطيلة؛ أو مثلثة؛ لوجدنا لها نهاية وحافة، لكنا حين نسير في الأرض نجدها ممتدة، ولذلك فهي لابد وأن تكون مدورة.
وهم يستدلون في العلم التجريبي على أن الأرض كروية بأن الإنسان إذا ما سار في خط مستقيم؛ فلسوف يعود إلى النقطة التي بدأ منها، ذلك أن منحنى الأرض مصنوع بدقة شديدة قد لا تدرك العين مقدار الانحناء فيه ويبدو مستقيماً.
وحين يقول الحق سبحانه:

{وألقينا فيها رواسي "19"}
(سورة الحجر)

يعني أشياء تثبتها. ولقائل أن يتساءل: مادامت الأرض مخلوقة على هيئة الثبات فهل كانت تحتاج إلى مثبتات؟
ونقول: لابد أن الحق سبحانه قد خلقها متحركة وعرضة لأن تضطرب؛ فخلق لها المثقلات، وهكذا نكون قد أخذنا من هذه الآية حقيقتين؛ التكوير والدوران. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه:

{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب "88"}
(سورة النمل)

ونفهم من هذا القول الكريم أن حركة الجبال ليست ذاتية بل تابعة لحركة الأرض؛ كما يتحرك الحساب تبعاً لحركة الرياح.
وشاء سبحانه أن يجعل الجبال رواسي مثبتات للأرض كي لا تميد بنا؛ فلا تميل يمنة أو يسرة أثناء حركتها.