الرد

{ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكيناً، وقالت: اخرج عليهن.فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، وقلن: حاش لله! ما هـذا بشراً. إن هـذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لُمْتُنَّني فيه. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين }..

لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكيناً تستعملها في الطعام ـ ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأواً بعيداً، وأن الترف في القصور كان عظيماً. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف:

{ وقالت: اخرج عليهن }..

{ فلما رأينه أكبرنه }..

بهتن لطلعته، ودهشن.

{ وقطعن أيديهن }..

وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.

{ وقلن حاش لله! }..

وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيراً عن الدهشة بصنع الله..

{ ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم }..

وهذه التعبيرات دليل ـ كما قلنا في تقديم السورة ـ على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.

ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى:

{ قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه }..

فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب!

{ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم }..

ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام ـ تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها! ـ ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأساً من الجهر بنزاوتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء:

{ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين }!

فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد.

ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات، المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ونفهم من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من ربة الدار؛ فإذا هو يناجي ربه:

{ قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه }.

ولم يقل: ما تدعوني إليه. فهن جميعاً كن مشتركات في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات.. وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه، ويدعو الله أن ينقذه منه:

{ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين }..

وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته. الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيداً من عناية الله وحياطته، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.

{ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم }..

وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثراً منه. أو بهما جميعاً.

{ إنه هو السميع العليم } الذي يسمع ويعلم، يسمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية، بلطف الله ورعايته. وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من قصته المثيرة.

{ ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين }..

وهكذا جو القصور، وجو الحكم المطلق، وجو الأوساط الأرستقراطية، وجو الجاهلية! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف. وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حباً، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقاً، ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه، والمرأة تعلن في مجتمع النساء ـ دون حياء ـ أنه إما أن يفعل ما يؤمر به، وإما أن يلقى السجن والصغار، فيختار السجن على ما يؤمر به!.

بعد هذا كله، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين!

ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشاراً في طبقات الشعب الأخرى.. وهنا لا بد أن تحفظ سمعة " البيوتات "! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من " الوسط الراقي! " قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية!