

-
د. يوسف زيدان يكتب: بهتان البهتان فيما يتوهَّمه المطران (٦-٧) .. ظُلم المطران لأخيه المطران
٢/ ٩/ ٢٠٠٩
فى الكتاب المنسوب غلافه لنيافة الأنبا بيشوى (مطران دمياط وكفر الشيخ وبرارى بلقاس، إلخ) عجائبُ كثيرة، من أغربها وأكثرها مدعاة للدهشة، تلك الإشارة التى وردت فى بداية الكتاب، حيث يقول المطران أو أحد (المعاونين) الذين تعاقبوا جميعاً على تجميع هذا الكتاب الأعجوبة، ما نصه بالحرف الواحد: «ما هو الهدف من رواية د. يوسف زيدان؟!
(علامة الاستفهام من عندهم، وعلامة التعجب من عندى) هل معرفة جزء من تاريخ مصر كما أراده ورآه د. يوسف زيدان، وصديقه فى حلب نيافة المطران، الذى نكاد نرى بصماته فى كل فصل من فصول الرواية، وربما فى أغلب صفحاتها. أم أن الهدف هو تحطيم إيمان النفوس الضعيفة.. إلخ» ص ١٣.
وللوهلة الأولى، بدت لى الفقرة السابقة كواحدة من السقطات غير المقصودة، أو كواحد من سهام المطران الطائشة التى يمتلئ بها الكتاب المنسوب إليه، خاصةً أنها تأتى دون مناسبة، ودون معنى، فى حق عالم جليل يعترف بفضله الجميع، هو الأب الجليل يوحنا إبراهيم (غريغوريوس) مطران السريان الأرثوذكس بسوريا، ورئيس الطائفة فى حلب. وهو مطران أَبرشية حلب العريقة، الضاربة بجذورها فى التاريخ المسيحى، وأحد كبار اللاهوتيين، وأكثرهم احتراماً على مستوى العالم أجمع.
ولم أفهم، للوهلة الأولى، ما يقصده المطران (بيشوى) من إشارته للمطران (يوحنا) ولماذا يتوهَّم أن «بصماته فى أغلب صفحات رواية عزازيل».. فظننتُ أن الأمر فيه خطأ مطبعى، أو فقرة ساقطة، أو اضطراب فى ترتيب الكتاب الطافح بالاضطرابات أصلاً.
ومن هنا، غضضتُ النظر عن تلك الإشارة غير اللائقة، بل المسيئة لى وللمطران الجليل يوحنا إبراهيم، الذى عرفته أواخر سنة ٢٠٠٧ فى الوقت ذاته الذى تعرفت فيه إلى الأنبا بيشوى (أى بعد الانتهاء من كتابتى للرواية) ثم كان لقائى الثانى به، فى حضور الأنبا بيشوى، حيث دعوتهما معاً إلى مائدة غداء واحدة (شهر مايو ٢٠٠٨) أى بعد صدور رواية عزازيل بفترة، وكان اللقاء بيننا يومها ودياً للغاية، حسبما ظننتُ آنذاك.
بل جرى الكلام أثناء الغداء، عن الرواية (عزازيل) فامتدحها المطران (يوحنا) أمام المطران (بيشوى).. ومرَّ اليوم مفعماً بالمسرة والمحبة.
ولما سبق، لم أتوقَّف عند الإشارة السابقة، واعتبرتها كأنها سهو أو خطأ غير مقصود. ولكن كانت الفاجعة غير المتوقعة من الأنبا بيشوى، بعد ثلاثمائة صفحة من كتابه (الأعجوبة) وتحديداً فى الفصل الثالث من الباب الثالث من الكتاب، وهو الفصل الذى جاء بعنوان غامض، كأنه عنوان فيلم سينمائى (سر المطران) وقد اعتقدتُ أولاً أن الأنبا يقصد نفسه، أو أن لديه أسراراً سوف يُفصح عنها فى هذا الفصل..
لكن الأمر اتضح جلياً مع ابتداء هذا الفصل الأغرب، الذى يشغل تسع صفحات تبدأ من صفحة (٣١٣).. وهى بالمصادفة، سنة إصدار مرسوم ميلان للتسامح الدينى مع الديانة المسيحية، والاعتراف بها كواحدة من (الديانات) المسموح بها فى الإمبراطورية البيزنطية، إلى جانب الديانات الوثنية المعترف بها آنذاك .
فى هذه الصفحة البائسة (٣١٣) وضع الأنبا بيشوى عنوان الفصل كاملاً، كالتالى: سر المطران المسيحى الأرثوذكسى المعجب بشغف بالرواية الهدَّامة للمسيحية الأرثوذكسية! (علامة التعجب من عندى) ثم راح يقول ما نصه: «هذا المطران يُبدى إعجابه الشديد بهذه الرواية.. وهو فى هذا لا يمثل إلا نفسه فقط.. ونحن نتعجب، كيف وهو راهب، يقرأ الأجزاء اللاأخلاقية فى الرواية.. ثم بعد ذلك يصفها فى الندوة التى أُقيمت فى حلب فى ٢٩/٤/٢٠٠٨ بقوله:
قرأت الرواية بشغف رغم كثرة مشاغلى وأسفارى، لكنى لم أستطع الكفَّ عن قراءة هذا النص الروائى الممتع، والذى لا يعرف تاريخ المسيحية لن يعرف مراد د. يوسف زيدان من الرواية، فهى رواية لاهوتية بحتة ترتبط بحقائق التاريخ وتخترق الخطوط الحمراء وتخترق أسوار الأديرة، وتقدم لغة على قدر من الإعجاز البيانى،
خاصة أنها تربط بين اللغتين السريانية والعربية، لتوجه الأفكار بقوة إلى أهمية التراث والمخطوطات، وإلى التاريخ الذى يسبق الإسلام، لأن يوسف زيدان يرى أن انتماءه العميق لهذه الأمة، يعطيه الحق فى النظر فى تراثها الإسلامى والمسيحى، فالتاريخ المسيحى ليس ملكاً للمسيحيين وحدهم».
وبعدما قدم المطران (بيشوى) هذا الاقتباس من كلام المطران يوحنا راح يتخبط، كمن يبحث عن قطة سوداء فى غرفة ظلماء فى ليلة غير قمراء. حتى إنه لم يتورع، مع أنه أهل للورع، عن القول «ماذا يعنى نيافة المطران (يوحنا) بهذا الكلام؟ هل هو على غير قصد منه، قد كشف أن صديقه (يوسف زيدان) وضع ما يدور فى فكره من تيه، وتشوُّش، وحقد على الديانة المسيحية..».
وبطبيعة الحال، فلن ننظر فى تناقضات المطران هذه، على أساس منطقى عقلانى. لأن كلام المطران (بيشوى) لا يخضع للعقل ولا المنطق، وإلا فكيف يقول أولاً إن المطران (يوحنا) تظهر بصماته فى أغلب صفحات الرواية، موحياً بأنه كتبها معى، ثم يقول بعدها إننى وضعت فى الرواية ما يدور فى فكر المطران يوحنا! وكيف يقال على الأب الجليل، العلامة (يوحنا إبراهيم) إنه حاقد على الديانة المسيحية؟
وهو الذى قضى عمره كله، ولا يزال يقضيه، فى خدمة كنيسته الأنطاكية الوقور التى قدمت للمسيحية تراثاً هائلاً فى الفهم والتفهم والتسامح، منذ قديسها البديع يوحنا ذهبى الفم.. بل من قبله أيضاً ومن بعده.
وليت المطران (بيشوى) قد اكتفى بهذا القدر من الهجوم على المطران (يوحنا) وإنما نراه يقول، غير عابئ بكل ما أوصى به يسوع المسيح، عيسى عليه السلام، من المحبة حتى مع الأعداء، ومن التواضع حتى مع الأقل شأناً، ومن التسامح حتى مع الذين يلطمون خدودنا.. رحماتك يا أم النور.. يقول المطران بيشوى ما نصه:
«أكد نيافة المطران (يوحنا) أنه قرأ الرواية قبل صدورها» وهذا حقٌ، لأننى أرسلت له نسخة إلكترونية فى شهر ديسمبر ٢٠٠٧ قبل صدورها بشهر، لأنه كان خارج سوريا. «وأبدى إعجابه الشديد بها كعمل فنى من طراز رفيع، وأن يوسف زيدان كتب بريشة راهب يرسم أحداثاً كنسية حدثت بالفعل..» ثم يقول المطران (بيشوى) بعد ذلك:
«السر وراء الموقف الغريب الذى يتخذه نيافة المطران (يوحنا) أنه قدم بحثاً عام ١٩٩٧ بواشنطن، دافع فيه عن نسطور، ولكن منعته الرئاسات الكنسية من نشره، وقدَّمه لى شخصياً لكى أعدِّله وأحذف منه.. لذلك استتر وراء الكاتب المسلم، وشجعه أن ينشر ما عجز هو عن نشره.. فعلى ما يظهر أنه (أى المطران يوحنا) أمدَّ المؤلف بالمادة المطلوبة، ثم قام بمراجعة الرواية فى النهاية».
ويضيف المطران (بيشوى) وليته ما أضاف، قائلاً: «وفى إطار التحالف المذكور بين د. زيدان ونيافة المطران.. فإننى أشفق على شعب كنيستينا الشقيقتين (الإسكندرية، أنطاكية) من هذا التضليل الذى يحاول أن يعيد الصراع المفتعل بين مدرستيهما..».
ما الذى يقوله الأنبا بيشوى؟ وعلى أى أساس يطلق هذه الاتهامات العشوائية عن (التحالف.. البصمات.. الحقد على الديانة المسيحية.. الصراع بين الكنائس.. إلخ) وكيف جاز له أن يظلم المطران الجليل، يوحنا إبراهيم، ويتهمه بأنه قدم لى (مادة) الرواية؟
مع أنه قال قبل شهور، إنه هو نفسه الذى قدم لى (المادة) التى اعتمدت عليها فى الرواية.. وهذا كله فى حقيقة الأمر، باطل من تحته باطل ومن فوقه باطل! لسبب بسيط،هو أن هذه (المادة) تطفح بها المصادر والمراجع التى يعرفها المطران (بيشوى) والتى لا يعرفها. ولو كان قد قرأ أعمال الباحث المصرى د. رأفت عبدالحميد، لكان قد عرف أن الأمر لا يستحق كل هذه التحالفات والاتهامات المتناقضة التى يجربها واحدة بعد أخرى.
فقد ذكر هذا الباحث المصرى فى كتبه الكثيرة المتداولة، حقائق أشد وأعتى مما ورد فى روايتى، بكثير.
وعلى كل حال، وتطبيقاً لما دعا إليه السيد المسيح، فسوف أشرح للمطران (بيشوى) موقف المطران (يوحنا) كى يهدأ قليلاً ويرتاح باله، ثم أشرح له «السر» فى حملته الشعواء النكراء على المطران الجليل يوحنا، ثم أبين له أخيراً أن المطران الجليل لم يتدخل من قريب أو بعيد، أثناء الرواية، لأننى لم أكن أصلاً قد عرفته آنذاك.. فأقول أولاً:
أما الذى دعا المطران يوحنا للإعجاب برواية (عزازيل) فهو أنه بالفعل متخصص فى اللاهوت، وليس فى أشياء أخرى، فقد درس هذه الموضوعات المعقدة منذ صغره، فحاز دبلوم العلوم اللاهوتية والفلسفية من كلية مار أفرام اللاهوتية بلبنان، ثم التحق بالمعهد الحبرى الشرقى فى روما وحصل منه على الليسانس، ثم التحق بجامعة برمنجهام البريطانية..
وبعد حين من الزمان، صار يوحنا إبراهيم (المطران الجليل) مديراً لكلية مار أفرام اللاهوتية بلبنان، وفى العام ١٩٧٩ تمت سيامته مطراناً لأبرشية حلب! إذن، فهذا الأب الجليل يعرف اللاهوت حقاً، وقضى عمره فى دراسته، ولم يقض أيامه فى اللعب السياسى. وهو لم يُعرف عنه الهجوم على أعلام الكنائس الكبار، مثل الأب متى المسكين، والأنبا غريغوريوس (القبطى) الذى كان بالفعل واحداً من أجلاء الآباء..
ولهذه الأسباب، أدرك المطران الجليل (يوحنا إبراهيم) قيمة الجهد البحثى الجهيد، الذى بُذل قبل كتابة الرواية، وقد ظهر هذا الجهد الذى لا يعلمه إلا الله، بشكلٍ هامس فى النص الروائى حسبما يقتضى السياق الروائى.
ولأن الأب الجليل، المطران يوحنا، متخصصٌ فى الموسيقى السريانية والترانيم الكنسية، فقد أدرك ما لم يدركه المطران (بيشوى) من الرهافة الروحية والفنية فى الرواية.
وقد عبر صراحةً عن اندهاشه وإعجابه بها، من دون تلك (الحسابات) السياسية، بالمعنى السيئ للكلمة، ومن دون التوغل فى متاهة المؤلف المسلم والنص المسيحى.. فالمؤلف فى النهاية إنسانٌ، يكتب عن الإنسان!
وأما الحملة الشعواء للمطران (بيشوى) على المطران (يوحنا) فالسر فيها هو الآتى: يعتقد الأنبا بيشوى فى ذاته، أنه امتداد للأسقف (البابا) كيرلس الملقب لاحقاً بعمود الدين، مثلما يلقب الأنبا بيشوى حالياً بأسد الكنيسة !
لا بأس إن كان ذاك عموداً أو كان هذا أسداً! فإن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان.
ولكن هذا الاعتقاد بالمماثلة، قاد الأنبا بيشوى إلى سلسلة من المماثلات المرتبطة بهذا الوهم. وقد أشرتُ فى مقالة سابقة إلى أن الأنبا بيشوى يعتقد أننى أمثل شخص نسطور!
وهو لا يكف عن إظهار دهشته مما يعتقده من إعجابى بالأسقف الجليل نسطور (وسوف أشرح له هذا الأمر فى مقالتى التالية، الأخيرة).. وقد كان من أنصار نسطور، قديماً، مطران حلب ورئيس أبرشيتها، الذى كان اسمه أيضاً (يوحنا) وكان أيضاً تابعاً لكنيسة (أنطاكية) التى يتبعها اليوم المطران يوحنا إبراهيم.. ولأن المطران يوحنا الحلبى الأنطاكى القديم، انتصر لنسطور وحكم بحرم الأسقف كيرلس السكندرى (أى إخراجه من نطاق الديانة المسيحية تماماً) ولأن المطران يوحنا الحلبى الأنطاكى المعاصر، انتصر لرواية عزازيل..
فقد تخيل الأنبا بيشوى أننا عدنا إلى سنة ٤٣١ ميلادية، وأننا فى أجواء مجمع أفسوس المسكونى، وأن عليه أن يصب اللعنات (الأناثيما) على رؤوس المخالفين له فى الرأى. ولذلك، لم يتورَّع عن اتهام المطران (يوحنا) تهمة لو صحت، لكانت كفيلة أن تخرجه عن نطاق الديانة: الحقد على الديانة المسيحية.. معاذ الله!
فيا نيافة الأنبا (بيشوى) حنانيك.. اهدأ قليلاً.. ولا يغرنك من حولك من أهل التهليل والتهويل.. ولا تظنن أنك تشوى المخالفين فنيرانك موهومة.. وهذه النيران التى يلتهب بها كتابك، وتصريحاتك الصحفية، غير محرقة! واتهاماتك التى تجرِّب منها واحدا بعد آخر، غير مقنعة!
وثورتك العارمة على رواية عزازيل، غير مجدية.. فأنا لست نسطور، وهو ليس يوحنا الأنطاكى، وأنت لست الأسقف كيرلس. أنت الآن مطران، أى رئيس أساقفة! وكذلك المطران يوحنا إبراهيم! ولا يجوز أن يعرِّض المطران بالمطران على هذا النحو، ولا يجوز لك أن تظلمه هذا الظلم الفادح .
ولسوف نجتمع معاً فى ميقات يومٍ معلوم، ويعلم آنذاك الذين ظلموا، أىَّ منقلبٍ ينقلبون.
وأما النقطة الأخيرة هنا، وهى أن المطران يوحنا إبراهيم لم يكن له دخل من قريب أو بعيد فى نص (عزازيل) الذى يتوهَّم المطران (بيشوى) أن بصماته تظهر فى معظم صفحاتها.
فبيان ذلك لن أصرح به إلا رمزاً وتلميحاً، واستعارةً لواقعة سابقة، مع اختلاف الحال والمقام. وأرجو من الأنبا بيشوى أن يستفهم مرادى التالى، من أحد العلماء.. قال تعالى (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشر، لسانُ الذى يلحدون إليه أعجمىٌّ وهذا لسانٌ عربىٌّ مبين).
========
د. يوسف زيدان يكتب: بهتان البهتان فيما يتوهَّمه المطران (٧-٧) سَوَابِقُ الطَّرَائق ولَوَاحقُ الحقَائِق
٩/ ٩/ ٢٠٠٩
مع انتهاء هذه المقالة السابعة (الأخيرة) أكون قد اختتمتُ كلامى مع المطران الأمبا بيشوى، ونفضتُ يدى منه بلا رغبة فى المعاودة ولا نية فى الاستئناف، خاصة أنه خدعنى خدعةً كبرى تنم عن ذكاء ودهاءٍ سياسى خطير.
فقد ظل يزعم أنه «يواجه» رواية عزازيل، رأياً برأى وحجةً بحجة، وأكَّد ذلك مراراً فى بيانه الأول (الذى جاء من غير تبيان) وفى كتابه الأعجوبة المسمى: الرد على البهتان (وهو الكتاب الذى رأينا فيما سبق أنه يسيلُ، بل ينـزُّ، بهتاناً) وفى أحاديثه التليفزيونية المسلية وحواراته الصحفية اللذيذة.
لكنه فور استجابتى لرغبته فى المناقشة، ومع أول مقالة من هذه المقالات السبعة، توارى فجأةً عن الأنظار! واستتر خلف قسيس يسمِّى نفسه ديسقورس، راح يرد عنه ردوداً لا تعرف الفرق بين الرد والترديد والتردُّد، ويكتب مقالات مهذبة غاية التهذيب، تليق برجل دين مرموق.. وقور.. بنفسه فخور.. يتقنُ إطلاق البخور.. ويكره - مثل سيده - نسطور.
والظاهر أن هذا التوارى والاستتار والاختفاء، هو خدعةٌ معتادة ومنهج مألوف. فمن قبل المطران الأمبا بقليل، صَخِبَ علىَّ القمصُ (عبدالمسيح بسيط) الذى صال وجال ودعا للنـزال، حتى أخذه الشطط إلى طريق الأهوال، فاتهمنى علانية بالإلحاد واللادينية!
فاضطرنى إلى اتخاذ الإجراءات القانونية ضده، فاختفى فجأةً عن صفحات الجرائد وقنوات الفضائيات، وهو الذى كان من قبلُ يملأ الأسماع بأعجب الأقاويل وأبدع التهاويل، حتى إنه قال فى اليوم الذى اتهمنى فيه بما سبق ذكره، أقوالاً أعجب، منها أن المسلمات محجبات لأنهن فقيرات! وأن د. محمد سليم العوَّا إرهابى! وأن د. محمد عمارة إرهابى! وأن الفاتح العظيم عمرو بن العاص كان «يلعب بالبيضة والحجر» على حدِّ قول القمص المتحمس: بسيط!
ومع ذلك، فلأننى أعرف أن هذا القمُّص فى الأصل عبدٌ للمسيح وبسيط وطيب، ولأننى كنتُ أحبُّ فيه خفَّة ظلِّه، ودعاباته التى لا يكف عن إطلاقها وراء الكاميرات، ولأننى أعتقد أنه لم يكن يقصد ما يقول، أو هو لم يضبط ما كان بعقله اللطيف يجول، أو هو فقط أراد أن يصول ويطرح نفسه على أنه المهول.. فلذلك كله، أرانى أكثر ميلاً لمسامحة القمص على تطاوله، وأقرب موقفاً لتعذيره. ولذا، فإذا اعتذر عن إساءاته اعتذاراً رسمياً، فسوف أُسقط فوراً الدعوى القضائية التى رفعتُها ضده، وأتنازل عنها فى أول جلسة.
وكذلك الأمر مع الأمبا بيشوى، الذى صرتُ مؤخراً أتفهم أسباب هيجانه وصخبه على عزازيل (الرواية) وأتقبَّل طبيعة الدور المنوط به فى الدفاع عما يسميه العقيدة القويمة والأمانة المستقيمة والتقاليد المستديمة (الصواب لغة: المستدامة!) ولذلك، فسوف أسامحه على ما كان منه، وأغضُّ النظر عن خدعته الأخيرة، بل وسأشرح له عنوان هذه المقالة، بإيجاز:
تعلم يا نيافة المطران أننا، أنت وأنا، لسنا بالطبع أول الناس الذين اختلفوا فى أمر نظروا إليه من زاويتين، وتعلم بالتأكيد أن ما اختلفنا فيه مؤخراً هو بطبيعته أمرٌ خلافى غير محسوم، وقد يختلف حوله من بعدنا آخرون، فهذه (طرائق) مختلفة للنظر، لها فى تاريخنا (سوابق) أدت إلى إقرار (حقائق) معينة، ويجب أن تكون (لواحق) ملزمة لمن أراد أن يناقش أمراً من الأمور، على نحو رشيد.. ولذلك، فسوف أختتم كلامى معك، فى هذه المقالة، بإشارات إلى سوابق الطرائق وما نتج عنها من لواحق الحقائق، وأجعل لك ذلك فى نقاط محددة، بيانها كالتالى:
أولاً: لا يجب يا نيافة المطران الأمبا أن نترك عقولنا نهباً للتوهمات، ولا يجب أن ننهمك فى الخلاف بلا منهج أو قواعد أو آداب فى الاختلاف، انظُرْ مثلاً ما فعله القسيس المسمى ديسقورس، الذى ناب عنك عند اختفائك، حين راح يطنطن ويمخرق ويموِّه (ويزعبب) دون ضابط ولا رابط.
قل له يا نيافة المطران إنه لم يكن موفقاً، ولا متوافقاً مع تعاليم المحبة التى جاء بها السيد المسيح، سواءٌ كان المسيح إنساناً نبياً كما أعتقد، أو كما تعتقد رباً كاملاً وإلهاً لم يفارق لاهوته ناسوته طرفة عين، لا يهم ما نعتقده فيه،
ولا ضرر من تنوع الاعتقادات، فمن طبيعة البشر التنوع، ولكن تعاليم المسيح معروفة، بصرف النظر عن طبيعته التى طالما اختلف الناس حولها، وكان الواجب على القسيس (القَسّ) النائب عنك، أن يراعيها!
ولسوف أعطى لك مثالاً على عدم كماله، من واقع كلامه الذى ظل يغنى به من دون أن يُطرب، ويهوِّل فيه ويهلِّل من دون أن يضرب، وهذا المثال ورد فى المقالة الأخيرة - أو قبل الأخيرة إن كتب بعدها - حين نعى علىَّ أننى سهوتُ عند قراءة المكتوب على صورة المسيح (الآخر) التى وضعتها أنت فى صدر الكتاب المنسوب إليك، سهوتُ يا نيافة المطران فقرأتُ (دميانا) (دميانوس) لأن الخط المكتوبة به العبارة دقيق، لم يكن واضحاً لى بالقدر الكافى، وهذا كل ما فى الأمر، فكيف عالج نائبك هذه المسألة الفرعية التافهة؟
بدأ مقالته بقوله: «سوف أفاجئ القراء بإعلان فضحية كبرى، مؤسسة على براعة (يوسف زيدان ) فى فن صياغة الكذب..» ثم تلا ذلك بقوله المؤدَّب المهذَّب: «سقط (يوسف زيدان) غير مأسوف عليه، وانتظروا مفاجآتى فى السطور المقبلة» وبعدما قدم هذه التقديمات الدالة على أخلاقه القويمة وأمانته المستقيمة، صرَّح بالمفاجأة المنتظرة والفضيحة الكبرى -حسب تعبيره- وذكر أننى قرأت دميانا، دميانوس!
ثم قال موجِّهاً لى كلامه المحترم الذى تحاشى فيه الفحش فى القول، وتجنَّبَ به الفجور فى الخصام، ما نصه: «وكان ينبغى قبل السقوط فى هذه الهوة العظيمة، أن تسترشد بدارس للغة الإنجليزية، أو يكفيك فى هذا الشأن أحد أطفال المدارس الإنجليزية.. فالترجمة الصحيحة للعبارة هى: دير القديسة دميانة» ثم يبلغ القسيس (القس، رقيق الحس) غاية أخلاقه السمحة، حين يقول عقب ما سبق: «ولذا فإننى أدعو (يوسف زيدان) لتخصيص جزء من قيمة الجائزة المادية التى حصل عليها (البوكر) لتعلُّم اللغة الإنجليزية، ربما يفيده هذا مستقبلاً..».
فيا نيافة الأمبا قل لمن ناب عنك إن أسلوبكم غير لائق بكم بالمرة، وإن المسألة لا تستحق كل ما تفضل به من الكلام (الطيب) (المهذب) (الفاضل) خاصةً أنه، وهو المسكين، لم يعرف أن المسألة التافهة هذه، لا علاقة لها أصلاً باللغة الإنجليزية، لأن اللواحق المميزة لأسماء المؤنث والمذكر، بإضافة الألف الأخيرة للاسم المؤنث، وإضافة الواو والسين للمذكر، هى مسألة تخص اللغة اليونانية لا الإنجليزية، ففى لغة اليونان القديمة، كانوا يفرقون بهذه (اللواحق) بين المؤنث والمذكر، فيقولون: دميانا، دميانوس - أوكتافيا، أوكتافيوس.. بُلخاريا، بُلخاريوس.. وهكذا!
فاهدأوا - رحمكم الله- وقولوا للناس قولاً سديداً، وتذكروا أنه من سوابق الطرائق ولواحق الحقائق، قول الشاعر: وتعظم فى عين الصغير صغارها، وتصغر فى عين العظيم العظائم!.. هكذا تحدث المتنبى.
ثانياً: اعلمْ يا نيافة المطران الأمبا الحبر الأسد.. إلخ، أنك لم تردّ قطُّ على رواية عزازيل، ولم تعطِ نفسك الفرصة أصلاً لقراءتها، لأنهم (قالوا لك) أو (نقلوا إليك) أو (أوهموك) بأن الرواية فيها ما يخالف اليقين المتين والحق الأبدى الذى تعتقده أنت، وما هو باليقين ولا بالحق، إلا من زاوية واحدة فقط، هى زاويتك وحدك، أنت ومَنْ حولك.
ومن سوابق الطرائق ولواحق الحقائق، التى سأهديها إليك فيما يلى، قولٌ مضى عليه ثمانية قرون من الزمان، وأرجو منك أن تقرأه معى بتمهلٍ حتى تُدرك مبناه وتمسّ معناه: «وربما أوجبَ استقصاؤنا النظرَ، عُدولاً عن المشهورِ والمتعارف. فمن قَرَعَ سَمْعَهُ خِلاَفُ ما عَهِدَهُ، فلا يُبادرنا بالإنكار. فذلك طَيْشٌ. فَرُبَّ شَنعٍ حَقٌّ، ومألوفٍ محمودٍ كاذبٌ. والحقُّ حَقٌّ فى نفسه، لا لقول الناس له. ولنذكُرْ دوماً قَوْلَهم: إذا تساوتِ الأذهانُ والهِمَمُ، فمتأخِّرُ كُلِّ صناعةٍ، خيرٌ بالضرورة من متقدِّمها..» هكذا تحدَّث ابن النفيس.
ثالثاً: يا نيافة المطران اعلمْ أن ما هلَّلتَ به وهوَّلتَ، من صخبٍ كثير حول مشاهد العشق فى عزازيل (التى لم تقرأها أصلًا) كان أمراً لا أرتضيه لك، وأترفَّع بك عنه، وما كان يجب أن يصدر منك! فقد جاء حديثك فى هذا الموضوع مشوشاً، مؤسفاً، دالاً على أنك معزول عمن حولك، وعمن سبقك. فقد أثير مثل هذا الأمر من قبل، حول كتاب (ألف ليلة وليلة) الذى احتوى على مشاهد أفظع كثيراً مما فى رواية (عزازيل) وتضمن ألفاظاً صريحةً هى أشد على الأسماع مما فى الرواية.
ولذلك ثار البعض ضد (ألف ليلة وليلة) حتى قال لهم عالمٌ قدير، وشيخٌ جليل، هو بالاتفاق واحدٌ من أهم الذين اشتغلوا بالتراث العربى فى القرن العشرين، وقد يكون أهمهم على الإطلاق. قال: «الحديث هذه الأيام عن كتاب ألف ليلة وليلة، مؤسفٌ ومحزنٌ.. ويكشف عن جوانب سيئةٍ، رهيبةٍ، مخيفةٍ، تضاف إلى غيرها من الجوانب التى تندرج تحت عنوان: فَسَادُ حياتنا الثقافية.. إنَّ ما يُثار من أن هذا الكتاب فيه من الألفاظ المكشوفة، ما يمكن أن يُفسد عقول شباب وشابات هذه الأمة، يقدم دليلاً جديداً لهذا السُّخْفِ الذى اخترناه..
فالقضية تتطلب معالجةً أخرى، وبحثاً هادئاً يبدأ بقراءة أجزاء هذا الكتاب، والوقوف طويلاً عند صفحاته، وتأمل عباراته وسطوره ومن حق بعضنا أن يقرأه أو لا يقرأه، لكن ليس من حقنا جميعاً أن نحكم بإلغائه أو بحرقه! إن اتهامكم لهذا الكتاب بأن به ألفاظاً مكشوفة.. هذه الألفاظ فى رأيى لا خوف منها، فهى ألفاظ العلم نفسه، وإذا كان لها تأثيرٌ ضارٌ، فكيف يستخدمها علماء اللغة وأصحابها. أقولُ إنها ليست ألفاظاً ضارةً، وإنها ألفاظ طبيعية وعادية، يستخدمها البشر فى كل مكان، وليس من مصلحة البشر أن يجهلوا مثل هذه الألفاظ، فهى ضرورةٌ من ضرورات الحياة». هكذا تحدَّث محمود شاكر.
رابعاً: إن ما يحيِّرك يا نيافة المطران الأمبا، من انحيازى لآريوس ونسطور. وهى الحيرة التى عبَّرتَ عنها فى عدة مواضع بحواراتك الصحفية ولقاءاتك التليفزيونية، ناهيك عن ورودها أكثر من مرة فى الكتاب المنسوب إليك، هى حيرةٌ فى غير موضوع، وفى غير موضعها. وسوف أشير إليها حالاً، مُوَضِّحاً لك بإيجاز الأمر الذى تعتقد أنه (سر) فتقول دوماً: ما سر إعجابه بآريوس ونسطور؟
وليس فى الأمر سر، بل رؤية موضوعية لمفكرين كنسيين كبار، تتهمهم أنت بالهرطقة، ويتهمك أتباعهم أيضاً بالهرطقة.. غير أننى أنظر إلى المسألة بعيداً عن تلك الاتهامات المتبادلة، فأجد أن الآريوسية قدمت حلولاً عبقرية للمشكلة اللاهوتية المتعلقة بالطبيعتين (الإلهية، الإنسانية) للسيد المسيح، من خلال مفهوم «التبنِّى» الذى قام عليه هذا المذهب الذى قدَّمه الراهب الجليل، مصرى الهوية، ليبـى الأصل، شامى الإقامة، إسبانى المنفى، إسطنبولى الاغتيال: آريوس (المتوفى مسموماً سنة ٣٣٦ ميلادية).
وأما الأسقف الجليل نسطور، فقد قدم تصوراً لاهوتياً من وحى أستاذه الأسقف تيودور المصِّيصى، ومتوافقاً مع طبيعة العقلية العربية العملية التى كانت تسود منطقة الهلال الخصيب، حسبما أوضحت ذلك تفصيلاً فى كتابى الآخير: اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى.. بالمناسبة، أرجو منك يا نيافة الأمبا ألا تقرأ هذا الكتاب، وألا تكلف نفسك عناء الانشغال به، لأنه لا يناسب أفاضل الرهبان من أمثالك، فهو كما ذكرتُ بالنص فى مستهلِّه: «لم يُوضع هذا الكتاب للقارئ الكسول، ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقِّى الإجابات الجاهزة عن الأسئلة المعتادة، وهو فى نهاية الأمر كتابٌ، قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر».
والنسطورية التى تكرهها يا نيافة الأمبا، لا أكرهها، بل أرى فيها كنيسةً عظيمة لا تقلُّ عن غيرها من كبريات الكنائس، وهى التى أدخلت الديانة المسيحية إلى أنحاء قارة آسيا، واشتغل أتباعها بالعلوم والمعرفة والترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية، فكان ذلك مقدمة للنهضة العلمية للعرب المسلمين الذين حملوا مشعل العلم والحضارة خلال القرون الطوال التى ظل العالم فيها مظلماً.. كئيباً.. ممقوتاً! ومن سوابق طريقة نسطور فى فهم الديانة، ولواحق حقائقه التى لاحت فى سماء اللاهوت العربى، قوله: «لا يجوز تسمية العذراء مريم بأم الله، فهى امرأة قديسة ولدت بمعجزة، لكنها ليست أُماً للإله.
ولا يجوز لنا الاعتقاد بأن الله كان طفلاً يخرج من بطن أمه بالمخاض، ويبول فى فراشه فيحتاج للقماط، ويجوع فيصرخ طالباً ثدى أمه. الربُّ كاملٌ، كما هو مكتوب، فكيف له أن يتخذ ولداً، سبحانه، ومريم العذراء إنسانةٌ أنجبتْ من رحمها الطاهر بمعجزة إلهية، وصار ابنها من بعد ذلك مجلى للإله، ومخلِّصاً للإنسان. صار كمثل كوةٍ ظهرت لنا من خلال أنوار الله، أو هو مثل خاتمٍ ظهر عليه النقش الإلهى. وظهور الشمس من كوةٍ لا يجعل الكوة شمساً، كما أن ظهور النقش على خاتم لا يجعل الخاتم نقشاً».. هكذا روى الراهب هيبا فى عزازيل!
وبعد، فيا نيافة المطران، مازالت لك فى نفسى مودة قديمة، ولك من وراء ذلك الوظائف الكنسية الكثيرة والمهام الدينية التى لا تنتهى. وعندى أيضاً عملٌ كثير وانشغالات! فدعنا نكف عن هذا الجدل، عملاً بقوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
ولعموم القراء أقول، إننى سوف أبدأ من الأربعاء القادم، ولسبعة أسابيع تالية، فى سلسلة مقالات أرجو أن تكون أكثر نفعاً للناس، آملاً أن نُعيد من خلالها النظر والاعتبار فيما ورثناه نحن المصريين، من اعتقادات وأفكار.. سواءٌ كنا مسلمين أو مسيحيين.. فإلى لقاء.
التعديل الأخير تم بواسطة قيدار ; 28-11-2009 الساعة 01:40 PM
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 18-11-2018, 02:03 PM
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 18-04-2009, 10:05 PM
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 28-02-2009, 07:25 PM
-
بواسطة وا إسلاماه في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 28-01-2009, 11:26 AM
-
بواسطة مجاهد في الله في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 13-08-2008, 04:56 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات