وما دمنا نتحدث عن مريم وإهمال الأناجيل والكتابات النصرانية المبكرة لمعظم أخبارها أرى من المستحسن أن أسوق هنا ما قاله المرحوم جلال كشك فى كتابه: "خَواطِر مُسْلِم فِى المَسْألة الجِنْسِيّة"، الذى يعرضه زكريا بطرس على عربة اليد المسمّاة بـــ"موقع الكلمة" والتى يدور بها فى شوارع التبشير ينادى بصوته النشاز على ما لديه من بضاعة تافهة رخيصة مغشوشة كمعظم الباعة السّرّيحة، فوفَّر لى بذلك فرصةَ قراءة الكتاب دون أن أدفع فيه شيئا ودون أن أتعب فى البحث عنه، فلا جزاه الله خيرا لأن نيته شيطانية رغم أنها قد انقلبت عليه. وأعود فأقول إن من المستحسن أن نورد هنا ما قاله الأستاذ كشك من "أنَّ أيّة مقارنة بين الإنجيل وأعمال الرسل وتراث الكنيسة في القرون الأولى وبين القرآن حول مريم تؤكّد أنَّه لا وجود "لمريم" في الفكر المسيحي الأوّل، أو أنَّها (كما تقول المؤرّخة راي تناهيل) ظلّت إلى القرن الثالث عشر: "مُجرّد قدّيسة عادية"، أمّا في الإسلام فقد أُعْلِنَتْ منذ القرن السابع: "سيدة نساء العالمين"، فهي التي اصطفاها الله على نساء العالمين، هي "البتول" التي أحصنت فرجها. ليس لها في الأناجيل الأربعة سِفْر، ولها في القرآن سورة كاملة. وجاء اسمها في القرآن 34 مرة، وفي 14 سورة. وذُكِرَ "عيسى" في القرآن 25 مرة منها 15 منسوبًا إلى أمّه: "عيسى بن مريم"، وورد لقب المسيح في القرآن 11 مرة منها ثماني مرات: "المسيح ابن مريم". ولم يَرِدْ ذلك ولا مرة في الأناجيل. ولكي لا يُقال إنَّ ذلك طبيعي لحرص الأناجيل على تأكيد أنّه ابن الله، نقول إنَّه حتى عندما أراد كتّاب الأناجيل إثبات نسب المسيح الآدمي لتأكيد أنَّه "ابن داود" نسبوه ليوسف النجار وليس لمريم!" (مُحَمّد جَلال كِشْك/ خَواطِر مُسْلِم فِى المَسْألة الجِنْسِيّة/ الطبعة الثالثة/ مكتبة التراث الإسلامي/ القاهرة/ رجب 1412هـ- يناير 1992م/ 50).

أما إشارة أبى زلومة فى آخر كلامه إلى مولد العذراء وطفولية المخلّص وإنجيل الطفولية فستكون نقطة انطلاقنا نحو مناقشة ما ورد فى الموقع الإنجليزى، إذ ذكرت بعض الأناجيل غير المشهورة أن والد مريم هو يواقيم. ولكنّ للحكاية أصلاً لا بد أن أحكيه للقراء، إذ كنت قد رجعت منذ عدة سنوات إلى معجم أوكسفورد لأسماء الأشخاص بحثا عن شىء يضىء لى الطريق فيما يتعلق باسم "يواقيم"، الذى يقول النصارى إنه أبو مريم، فوجدته يذكر أن عندهم رواية بأن مريم هى ابنة يواقيم، لكنه أضاف أن هذه الرواية لا تحظى بثقتهم (Elizabeth Gidley Withy Combe, The Oxford Dictionary of English Christian Names, 1948, P. 78 ). ثم قرأت فى مراجع أخرى أن الرواية المقصودة هنا هى ما تقوله بعض الأناجيل التى لا تعتمدها الكنيسة. وقد اطلعت على الرواية فعلا فى "إنجيل يعقوب: The Gospel of James" و"إنجيل ميلاد مريم: The Gospel of the Nativity of Mary"، وكذلك "إنجيل متى المزيف (هكذا يسمّونه رغم أنه لا يفترق عن إنجيل متى الذى يعترفون به فى أن كليهما تأليف بشرى لا يخضع للضبط العلمى): The Gospel of Psewdo-Matthew". وهى كلها أناجيل لا تعترف بها الكنيسة، ومن ثم لا يحق لها أن تحاجّ المسلمين بها، إذ لا يعقل أن آتى بشاهد فأحتج بشهادته إثباتًا لحقٍّ أدَّعيه، على حين أنى أعلن فى كل مناسبة أنه شاهِدُ زورٍ، وأنى أنا نفسى لا أثق فى شهادته طرفة عين. ألا إن هذا لَقِمّةُ التناقض! إنهم بهذه الطريقة "يُحِلّونه عامًا، ويُحَرِّمونه عامًا" كما قال القرآن الكريم عن المشركين بسبب خضوعهم القبيح للأهواء وتلاعبهم الأرعن بالأنظمة التشريعية! أليس هذا بالضبط هو ما يفعله هؤلاء المبشِّرون البُعَداء؟ ثم إنهم من بجاحتهم وبجاستهم يخطِّئون القرآن الكريم رغم ذلك كله لأنه يسمِّى أبا مريم اسمًا آخر لم تذكره هذه الأناجيل!

ونصل للموقع الإنجليزى، فماذا يقول؟ إنه يردد ما يقوله موقع..." كحَذْوِكَ النَّعْل بالنَّعْل (فالحكاية كلها نِعَالٌ فى نِعَالٍ لا أدمغةٌ وعقول!)، ووهذا نَصّ كلامه: "إن القرآن يخلط بين مريم أم المسيح ومريم بنت عمران، أخت موسى وهارون التى كانت قبل نحو 1400 عام". ثم بعد أن يورد الآيات التى يزعم أنها تخلط هذا الخلط، وهى آيتا "آل عمران" اللتان مَرَّتَا علينا من قبل، وقوله تعالى فى الآية 12 من سورة "التحريم": "ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها...". وقد سبق أن بيّنّا للذين يفهمون، ولهم عقول فى رؤوسهم لا نعال وقباقيب، أنه لا يوجد شىء من ذلك فى هذه الآيات أو غيرها، وأن الذى يقول بغير ذلك هو كذّاب أفّاك أشر. والآن نخطو خطوة أخرى فنقول إنه من غير الممكن أن يخلط القرآن بين المَرْيَمَيْن حتى لو قلنا مع الخرّاصين الأفّاكين إن الرسول هو مؤلف هذا القرآن. لماذا؟ لأن القرآن يفرّق بين موسى وعيسى تفرقة واضحة فى العصر والظرف والرسالة بحيث لا يمكن الزعم بأنه كان يخلط بينهما كما يتضح من النصوص التالية:

"يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُم الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُم الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا {153 وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا {154 فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً {155 وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَم بُهْتَانًا عَظِيمًا {156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَم رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِين اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا {157 بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا{158 " (سورة "النساء"). فالإشارة إلى قتل اليهو د للأنبياء بعد نقضهم الميثاق الذى أخذه الله عليهم فى حياة موسى يدل دلالة لا تقبل الشك على أنه قد مر زمن طويل بين موسى وعيسى بما لا يمكن أن يكون هذا ابن أخت ذاك. وهو ما نجده أكثر تفصيلا فى الآية 70 من سورة "المائدة": "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ"، فهناك (حسبما تقول الآية) رسل قد تتابعوا بعد موسى وقابلهم بنو إسرائيل تارة بالتكذيب، وتارة بالتقتيل، مما يحتاج وقوعه إلى أزمان طويلة.

كذلك فسُورَة "آل عمران" تتحدث عن زكريا أبى يحيى بوصفه كافل مريم، وأين زكريا ويحيى من موسى وهارون؟ كذلك أين المحراب الذىكان تعبد اللهَ فيه مريمُ عليها السلام من زمن موسى الذى مات هو وهارون فى التيه، ولم يكن هناك معبد ولا محراب؟ ثم هل يُعْقَل أن يخلط القرآن بين المَرْيَمَيْن ثم لا يربط بين موسى وهارون (الخالين) وعيسى (ابن الأخت) ربطًا أُسْريًّا ولو مرة واحدة يتيمة أثناء حديثه عنهم، وما أكثر ما تحدث عنهم؟ بل كيف تكون مريم وحيدة أبويها على حسب ما هو واضح من القصة القرآنية، على حين أنهما رُزِقا من الأولاد اثنين آخرين هما موسى وهارون، وأصبحا بعد ذلك نبيين؟ بل كيف يسكت القرآن عن ذلك فلا يشير إليه ولا يربط بين مريم وأخويها هذين بأى حال؟ ذلك أن أخت موسى وهارون، التى يزعم الأفاكون أن القرآن يخلط بينها وبين مريم أم عيسى، لم يأت ذكرها فى القرآن إلا فى سياق مراقبتها من بعيد لموسى بعد أن وضعته أمه فى التابوت ثم قذفته فى النهر، ولم يورد القرآن اسمها فى الحالتين (طه/40، والقصص/11- 12). أكان القرآن يسكت فلا يشير إلى موقف الأخوين من معاناتها بسبب الحمل والولادة غير الطبيعية وتعرضها للاتهام فى شرفها وسخرية قومها منها فى قولهم: "يا أخت هارون، ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيًّا"؟ أهذه مسألة تحتمل أن يغيب عنها موسى وهارون؟ ثم أكان القرآن يسكت فلا يشير إلى موقفها من الأحداث الرهيبة التى وقعت لأخويها فى مصر وعند انفلاق البحر وفى التيه؟ بل أين كان عيسى عند ذاك فلم يبرز لنصرة خالَيْه فى مواجهة فرعون أو ضد شغب بنى إسرائيل عليهما فى الصحراء؟ إذن فافتراض خلط القرآن بين المَرْيَمَيْن مستحيل. لكن الدور والباقى على الكِتَاب المقدَّس ("المقدَّس" على سبيل الحكاية ليس إلا كما قلنا وكَرَّرْنا) الذى يجعل الابن أكبر من أبيه بعامين، والذى يورد لعيسى سلسلتى نسب متعارضتين تعارضا بشعا بحيث يستحيل التوفيق بينهما ولو بالطبل البلدى ومزّيكة حَسَب الله (حتى لو كان "حَسَب الله السابع عشر"، الذى دَلَقَتْ زينات صدقى على رأسه حَلّة الملوخية بدلا من أن تطعمه إياها. منها لله!)، والذى ينسب إلى الأنبياء وأولادهم الزنا بالمحارم، والذى يَدَّعِى على نوح شرب الخمر حتى يسكر ويفقد عقله على النحو الفاحش الذى رأيناه، والذى يجعل من داود زانيًا وقاتلا (وزانيًا بمن؟ بأم سليمان عليه السلام!)، ويجعل من هارون صانعا للعجل كى يعبده بنو إسرائيل، ثم يقول عنه فوق ذلك إنه كان نبيًّا لموسى وإن موسى كان إلها له، والذى يتهم خليل الله بالدياثة على زوجته لقاء قطيع من المواشى (يا لها من صفقة كريمة تليق بأبى الأنبياء!)، والذى يقول إن مدينةَ "القيروان" كانت موجودة فى عصر المسيح، ناسبًا إليها "سمعان القيروانى"، على حين أنها لم تُبْنَ إلا فى الإسلام بعد ذلك بقرون (بالضبط فى سنة 762م) على يد عقبة بن نافع رضى الله عنه! ترى أيكفى هذا أم أستمر؟ إننى على استعداد للمضىّ فى سرد هذه المخازى للصبح، لا صبح هذه الليلة، بل صبح الليلة الحادية بعد الألف عندما يؤذِّن الديك: كو كو كوو كو، ولا تسكت شهرزاد مع ذلك عن الكلام المباح، ففى الجَعْبَة الكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثيييييييييييييييييييييييييير والكثيييييييييييييييييييييييييير والكثيييييييييييييييييييييييييير! والكتاب المسمَّى بــ"المقدَّس" هو، كما سبق القول، كتابٌ ظريفٌ مُسَلٍّ لا تَنْفََد عجائبه من الخرافات والأساطير! ثم يأتى مُهَرِّجو السيرك فيجدون فى نفوسهم النجسة الجرأة على مهاجمة القرآن. والله عال!

أما كلام صاحب الرد الإنجليزى (على قول عبد الله يوسف على فى ترجمته للقرآن إن "أخت هارون" هنا إنما تعنى أنها من سلالة هارون الذين كانوا يتولَّوْن الكهانة فى بنى إسرائيل) أقول: أما ردّ ذلك الكاتب بأن القرآن لو كان يريد بــ"يا أخت هارون" الإشارة إلى أن مريم تنتمى إلى أسرة يهودية كهنوتية لا أنها هى أخته فعلا لكان ينبغى أن يقول: "يا بنت هارون" بدلا من "يا أخت هارون"، فالرد عليه سهل جدا كما قلنا قبلا، فالقرآن ليس هو الذى سماها كذلك، بل هو مجرد حاكٍ لما قاله اليهود لمريم حين أتتهم بصبىٍّ أنجبتْه دون زواج. فإذا كان هناك اعتراض فليوجَّه إلى قومها الذين قالوا لها هذا، إذ القرآن مجرد حاكٍ لكلامهم. ولو كان القرآن قد أسند إلى قومها ما لم يقولوه لما سكت اليهود ولا النصارى العرب على الرسول، ولكانت هذه فرصة للدخول معه فى جدال يحرجه ويفضحه هو والقرآن جميعا، فلماذا لم يفعلوا يا ترى، وهم الحريصون على هزيمته بكل سبيل، ولم يكونوا يتورعون ولا طرفة عين عن التوسل بالألاعيب والأباطيل فى حربهم ضده؟

وبالنسبة لتسميتها "مريم ابنة عمران" يرد صاحب التخطئة أيضا على عبد الله يوسف على قائلا: لو كان القرآن يريد بذلك أنها تنتمى من بعيد إلى عمران أبى موسى فلتأتِ لى بمثال آخر من القرآن ينسب الشخص إلى جده البعيد لتعضيد تفسيرك هذا حتى أقتنع. ولأن عبد الله يوسف على قد مات فلْيسمح لى السيّد المخطِّئ بأن أسوق إليه هذه الشواهد القرآنية، مع معرفتى من الآن أنه لن يقتنع ولو على جثته، اللهم إلا إذا أراد الله به خيرا: فقد جاء فى كلام أبناء يعقوب فى ردّهم على أبيهم وهو على فراش الموت: "نعبد إلهَك وإلهَ آبائك: إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ" (البقرة/ 133)، فجعلوا كُلاًّ من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أبا ليعقوب، رغم أنه لم يكن له بطبيعة الحال إلا أب واحد هو إسحاق، أما إبراهيم فهو جدّه، وأما إسماعيل فهو عمّه. أم لكم رأى آخر؟ ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يكون له إلا أب واحد وأم واحدة! وبالمثل نسمع يعقوب يقول ليوسف عليهما السلام: "وكذلك يجتبيك ربُّك ويعلمّك من تأويل الأحاديث، ويُتِمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبلُ: إبراهيمَ وإسحاقَ " (يوسف/ 6)، ولست فى حاجة إلى القول بأن إبراهيم وإسحاق لم يكونا أبوين ليوسف، بل الجد البعيد والجد المباشر على الترتيب. وفى الآية 38 من سورة "يوسف" أيضا يعلن هذا النبى الكريم وهو فى السجن عن عقيدته قائلا: "واتبعتُ ملّة آبائى: إبراهيم وإسحاق ويعقوب". بل إن الأمر فى هذه الآيات أعقد، إذ يستحيل (كما قلنا) أن يكون هناك أكثر من أب لشحص واحد، لكنها اللغة! كذلك فالقرآن الكريم يقول عن آدم وحواء إنهما أبوان للبشر أجمعين، والبشر من الناحية الأخرى هم "بنو آدم"، مع أن آدم وحواء لم يكونا أبوين إلا لقابيل وهابيل ومن يمكن أن يكونا قد أنجباه من الأبناء سواهما. ونحن الآن مثلا بيننا وبين هذين الأبوين لا يدرى إلا الله كم من الدهور والأحقاب، ورغم هذا فنحن "أبناء آدم وحواء"، وهما "أبوانا"! وفى الآية 78 من سورة "الحج" يخاطب الله سبحانه المسلمين واصفًا إبراهيم عليه السلام بــ"أبيكم إبراهيم"، وأين إبراهيم فى الزمن من المسلمين فى عصر النبى ومِنْ بعده إلى يوم القيامة؟ وفى الآية 61 من سورة "آل عمران" يُؤْمَر الرسول عليه السلام بأن يقول لوفد النصارى الذين وفدوا عليه فى المدينة: "تَعَالَوْا نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نَبْتَهِلْ فنَجْعَلْ لعنة الله على الظالمين"، ولم يكن للرسول حينذاك إلا فاطمة رضى الله عنها، لكن المقصود فاطمة وابناها الحسن والحسين، وهما لم يكونا ابنين للرسول بل حفيدين. ومرة أخرى أنا لا أتوقع أن يقتنع السيّد المخطّئ رغم هذه الشواهد المفحمة، اللهم إلا إذا أراد الله به خيرا!

وأما قوله إنه إذا كان القرآن يريد أن مريم تنتسب إلى هارون انتسابا روحيًّا لا جسديًّا لقال: "يا ابنة هارون" لأنه لا يعقل أن يُنْسَب شخص إلى شخص لا معاصرة بينهما بنسب الأخوة، فرغم أنى قد أجبت بأن الذى قال هذا ليس القرآن، بل قوم مريم، وأن القرآن هو مجرد حاكٍ لما قالوه، فإنى أسوق إليه الآية 38 من سورة "الأعراف" التى تتحدث عن تتابع الأمم الكافرة على النار واحدة بعد واحدة: "كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها"، فقد جعلت الآية النسب بين هذه الأمم التى لم تكن متعاصرة هو نسب الأخوة لا البنوة. فما رأيه فى هذا؟ وما رأيه فى قول الرسول عليه السلام يصف العلاقة التى تربط بين الأنبياء جيمعا: "الأنبياءُ أولادُ عَلاَّتٍ"، أى إخوةٌ أبوهم واحد، وأمهاتهم شتى؟ ومعروف أن الأنبياء تفصل بينهم أمداءٌ متناوحةٌ على صفحات التاريخ. وهناك أيضا هذا الحديث الذى يخاطب فيه موسى وهارونُ محمدًا عليه السلام حين التقَوْا ثلاثتهم فى السماء ليلة المعراج بقولهما: "مرحبًا بالأخ الصالح والنبى الصالح "، فسمياه "أخا" رغم المدى الزمنى الطويل الذى يفصل بينهما وبينه.

وهناك نقطة أثارها كاتب التخطئة الذى نناقش كلامه هنا، وهى أن التفسيرات المتضاربة التى يقدّمها علماء المسلمين حول تسمية القرآن لمريم: "ابنة عمران" هى دليل على أن ثمة مشكلة لا يتوفر لها حل مقنع. وأنا معه فى أن المفسرين المسلمين قد يقدمون تفسيرات متناقضة أو مختلفة لهذه المسألة، بيد أن هذا لا يعنى أن القرآن مخطئ. لقد رأينا أن النصارى ليس لديهم رواية موثوقة بأن اسم أبى مريم هو يواقيم، بل كل ما هنالك أن هذا الاسم قد ورد فى بعض الأناجيل التى يؤكدون أنها أناجيل مزيفة. إذن فهم من الناحية التاريخية لا يستطيعون أن يثبتوا أن القرآن قد أخطأ فى القول بأن أباها هو عمران. بل حتى لو افترضنا أن رواية الأناجيل المذكورة هى رواية صحيحة فإن هذا لا يعنى بالضرورة أن رواية القرآن خطأ، إذ من الممكن جدا جدا أن يكون للرجل أكثر من اسم: وأستطيع أن أذكر الآن عددا من أقاربى وأبناء جيراننا فى القرية ممن يحمل الواحد منهم أكثر من اسم، كالشوادفى العداوى الذى كان يسمى أيضا: "إبراهيم الصاوى"، وقطب الصهرجتى الذى يسمى أيضا: "حنكوش"، والسيد أبو صيرة الذى كنا نناديه قى صغرنا: "خيشة"، والسيد أبو صيرة الآخر (ابن عمه) الذى يسمى كذلك: "قطب"، ومحمد العزلة ابن خالى الذى لا أناديه أنا وكثير ممن يعرفونه عن قرب إلا بـ"رمضان"، وإحدى قريباتى التى لا يناديها أهلها إلا بــ"عبلة"، على حين لا يناديها زوجها وأولادها وزملاؤها وزميلاتها فى الكلية وجيرانها فى بيت زوجها إلا بــ"فاطمة"...وهلم جرا. وفى الكتاب المقدس أشخاص يجمعون بين اسمين وأكثر، مثل أبرام وإفرائيم وإبراهيم، وحَمِى موسى الذى يسمى فى ذات الوقت: "يثرون" و"رعوئيل (بن يثرون)" (خروج/ 3/ 1، و4/ 18)، فضلا عن اسم ثالث سماه به التلمود هو "حوباب" حسبما ذكر أبو الأعلى المودودى فى تفسيره للقرآن الكريم (S. A. A. Maududi, The Meaning of the Qur’an, Lahore, 1978, Vol. IX, P. 87). وطبعا لا بد ان يكون القارئ قد لاحظ التخبط فى النظر إلى حَمِى موسى على أنه هو هو، وأنه هو ابنه فى نفس الوقت، إذ هو مرة: "يثرون"، ومرة: "ابن يثرون"! وهناك يعقوب وإسرائيل، وهناك يسوع والمسيح وعمانوئيل...إلخ. وعندنا أبو بكر والصِّدّيق وعَتِيق، وكذلك عمر والفاروق، وأبو جهل وعمرو، وأبو لهب وعبد العُزَّى. وقبل هؤلاء جميعا رسولنا الكريم، الذى له من الأسماء محمد وأحمد والمصطفى، إلى جانب طه وياسين فى الأوساط الشعبية. وكما يرى القارئ قد تكون بعض الأسماء فى الأصل ألقابا أو كُنًى، ثم يشتهر بها أصحابها حتى ليظن الناس أنها أسماؤهم الرسمية.

كذلك كثيرا ما يقابلنا فى الكتاب المقدس ("المقدس" عندهم لا عندنا) عدة أشخاص يتَسَمَّوْن بنفس الاسم رغم تباعد الديار والأزمنة، ولن نذهب فى ذلك بعيدا، فــ"يواقيم" مثلا يُطْلَق فى ذلك الكتاب على ستة أشخاص طبقا لما ذكرته "The International Standard Bible Encyclopedia"، ومنهم يواقيم بن يشوع، الذى يُسَمَّى خطأ بــ"يواقيم بن زربّابل" كما تقول هذه الموسوعة ذاتها. فما وجه الغرابة إذن فى أن يكون هناك عِمْرانان: عِمْران أبو موسى وهارون، وعِمْران أبو مريم؟ وسواء بعد ذلك أ كان اسم هذا الأخير هو "عِمْران" فقط أو كان له اسم آخر هو "يواقيم". وبالمناسبة فعِمْران أبو موسى الذى يرفض إخواننا السذَّج أن يكون هناك عِمْران غيره، هذا العمران قد ورد ذكره فى الكتاب المقدس (عندهم لا عندنا) على أنه ابن قهات بن لاوى، بيد أن كاتِبَىْ مادة "عمران" فى "The International Standard Bible Encyclopedia" و"دائرة المعارف الكتابية" يشكان فى هذا كثيرا قَائِلَيْنِ إنه لا يمكن أن يكون ابنا مباشرا لقهات، بل أغلب الظن أنه من نسله فقط، لأن المسافة الزمنية التى تفصل بين الاثنين، والتى تمتد لعدة أجيال، لا تسمح بأن يكونا أبا وابنا بالمعنى الحرفى. وهذا ما جاء فى "دائرة المعارف الكتابية" نصًّا، ويكاد أن يكون ترجمة حرفية لما ورد فى "The International Standard Bible Encyclopedia"، وإن زاد عليه أن يوكابد زوجة عمران لا يمكن أن تكون ابنة لاوى حرفيًّا، بل من نسله فحسب:

"عمرام بن قهات بن لاوي ، وأبو هرون وموسى ومريم (خر 6: 18، عد 3: 19، 26: 59، 1 أخ 6: 3، 23: 13). واسم امرأته يوكابد بنت لاوي (حر 6: 20، عد 26: 59). وليس من السهل الجزم بأنه كان ابنًا مباشرًا لقهات، بل لعله كان من نسل قهات، حيث أن هناك عشرة أجيال بين يوسف ويشوع (1 أخ 7: 20- 27)، بينما لا تذكر سوى أربعة أجيال بين لاوى وموسى في نفس المدة تقريبا. كما أن عدد القهاتيين في زمن الخروج كان 8.600 (عد 3: 28)، وهو أمر مستبعد، إن لم يكن مستحيلاً، أن يحدث في خلال أربعة أجيال. ولذلك فالأرجح أن عمرام لم يكن ابنًا مباشرًا لقهات، بل كان من نسله. وكذلك كانت يوكابد ابنة للاوي بنفس هذا المعنى".

وبالمناسبة فكلمة "عمران" لا تعنى "الشعب تعالى أو تعظم" فقط كما نقرأ فى هذه المادة، بل لها معان أخرى حسبما ورد فى موقع "Behind the Name" هى: "their sheaves, handfuls of corn, their slime". وهكذا يتضح لكل ذى عينين وبصيرة أن مسألة "عمران" هى مسألة يحيط بها الشك من كل جانب، فكيف تواتى القومَ هذه الجرأةُ المتناهية فى الاندفاع إلى تخطئة القرآن؟



والآن ما رأى إخواننا الأفاضل الذين يملأون الدنيا صياحا ونواحا لأن القرآن قال: "مريم ابنة عمران"؟ أى أنه حتى لو ثبت أن "عمران" هنا هو عمران أبو موسى وهارون فلن تكون هناك أية مشكلة طبقا لتقاليدكم فى التسميات وما ورد فى كتابكم نفسه فى هذا المجال، ومنه "يوسف (النجار) بن داود" (متى/)، و"يسوع بن داود" (متى/ 1/ 16- 20)، و"ابنة إبراهيم (حسبما نادى المسيح عليه السلام المرأة المنحنية الظهر التى قابلته فى الطريق)" (لوقا/ 13/ 16)، علاوة على "ابن الله" التى أُطْلِقَتْ فى الكتاب المقدس (عندهم) على عدة اشخاص مثل "آدم"، وقد مرّ من قبل، و"إفرائيم" (إرميا/ 31/ 9)، و"إسرائيل" (خروج/ 24/ 22- 32)، و"داود" (مزامير/ 89/ 26- 27).

إذن فمن الناحية التاريخية المحضة (فى حدود علمى) لا يوجد بين أيدينا دليل على أن أبا مريم كان يدعى: "يواقيم" أو "عمران" أو أى اسم آخر، ومن ثم كان من التنطع المسارعة بتخطئة القرآن. أقول إن هذا هو الموقف من الناحية التاريخية المحضة، بيد أن هذا الموقف لا يقفه إلا من يتناول المسألة تناولا باردا كأنه آلة من الآلات التى لا تستطيع أن تفكر من تلقاء نفسها، وليس عنده طريق آخر يسلكه. وفى حالتى أنا وأمثالى ممن يؤمنون بصدق القرآن وعصمته، لا بناءً على إيمان موروث بل استنادًا إلى بحثٍ استغرق سنواتٍ وسنواتٍ سعيتُ فيها حثيثًا وراء معرفة مصدره، وتحليل مضمونه وجوّه الروحى، والمقارنة بين لغته ولغة الحديث النبوى، وكذلك المقارنة بينه وبين الكتاب المقدس فى الموضوعات المشتركة بينهما لمعرفة أيهما المصيب وأيهما المخطئ فى حالة وجود اختلاف لا يمكن التوفيق بينهما فيه، والنظر فى كل اتهام أو تشنيع وُجِّه إليه من قِبَل من لا يؤمنون به، بل ودراسة "دائرة المعارف الإسلامية" التى وضعها المستشرقون وبثوا فيها كل أفكارهم وآرائهم ونظرياتهم فى القرآن والرسول والإسلام بوجه عام وتأليف كتاب كامل تناولتُ فيه كل ما قالوه فى تلك الموسوعة وتوصلتُ إلى أنه كله كلام فارغ لا أساس له...إلخ، وهو ما خرجتُ منه بأن القرآن هو كلام الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول من عنده سبحانه وتعالى، فهو لم يكن كاذبا مدَّعيا ولا واهما مخدوعا ولا مصابا بأى مرض نفسى مما يتهمه به الأفاكون المضللون. وقد سجلتُ كل ذلك فى عدد من كتبى ودراساتى ليطّلع عليه القراء ويشاركونى رحلتى فى هذا البحث. وعلى هذا فإنى موقن بأن ما قاله القرآن الكريم من أن "مريم" هى ابنة "عمران" هو حق لا يمكن التشكيك فيه. وهذا ما انتهى إليه فكرى وعقلى وسعيى الحثيث الدؤوب بعد أنْ لم آلُ جهدا فى هذا السبيل، ثم يوم القيامة نمثل كلنا أمام الدَّيّان ليحاسبنا على مدى اجتهادنا وإخلاصنا. وأملنا فى كرمه ورحمته واسع كبير يكافئ عظمته وبِرّه ومقدرته، والله من وراء القصد، وهو الهادى إلى سواء الصراط!