الحمدّ لله ربّ العالمين، الذي أرشدنا إلى طاعته وزجرنا عن معصيته، يا ربّ لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنبا إلا غفرته ولا دَينا إلا قضيته ولا مريضا إلا شفيته ولا غائبا موحدا إلا رددته سالما برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إشرح صدورنا واطرد الشيطان من بيننا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ سيدنا محمدا عبده ورسوله، الله صلّ وسلم وبارك على محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

مقدمة للحوار القائم فقد نستفيد منها لاحقاً .

أما بعد :

الحق سبحانه وتعالى خلق العالم بأسره العلوي والسفلي والعرش والكرسي والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما جميع الخلائق مقهورون بقدرته لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، قل الله خالق كل شىء خلق الخير والشر فالعالم له ءاله واحد وخالق واحد هو الله خلق الخير وخلق الشر لكن لا يحب الشر ولا يأمر به، فربنا قال إن الله لا يأمر بالفحشاء ؛ إذا بما أنّ الله هو خالق كل شىء خلق الخير والشر لذا قلنا إنّ الأسباب العادية كالنّار والسكين والماء والدواء والطعام والخبز هذه الأسباب العادية لا تخلق ما يحدث عنها إنما الخالق هو الله، ومن هذا المنطلق نبين أنّ النار لا تخلق الإحراق لذا لم تحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام (مثلاً ) وإنما خالق الإحراق فيها إذا أحرقت هو الله ومن هنا نقول أيضا أن السكين لا تخلق القطع، السكين سبب وخالق القطع فيها إذا قطعت هو الله.

قال صلى الله عليه وسلم (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)

قال تعالى : البقرة 102 { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}

ولقد خلق الله الملائكة مُسيرة وخلق الجن والإنس مُخيرين ... وطالما وجدنا كلمة ( مُخيرين ) فنفهم أن هناك أمرين متضادين وهم ( الخير والشر ) ، فالإنسان تأتيه خاطرة ، فإن لم يعالجها معالجة صحيحة انقلبت إلى فكرة ، فإن لم يتفحص هذه الفكرة انقلبت إلى شهوة ، فإن لم يقيّم هذه الشهوة انقلبت إلى إرادة ، فإن لم يقف في وجه إرادة لا تليق به انقلبت إلى عمل ، فإن لم يتب أصبحت عادة ، ومن أصعب الأشياء أن يدع الإنسان عاداته ، إذاً الخير يبدأ من فكرة ، والشر يبدأ من فكرة .

فأكبر جريمة تبدأ بفكرة ، وأكبر بطولة تبدأ بفكرة ، فكرة تنتهي بك إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وفكرة تنتهي بصاحبها إلى نار جهنم ، وبئس المصير ، لذلك أخطر شيء في الإنسان فكره ، وما من عمل يقوم به الإنسان في القارات الخمس من آدم إلى يوم القيامة إلا ويسبقه تصور ، فإن صح تصورك صح عملك ، وإن انحرف تصورك انحرف عملك .

إذاً الخير الكبير يبدأ بفكرة ، والشر المستطير يبدأ بفكرة ، فأصل الخير والشر من قبل التفكر ، فإن الفكرة مبدأ الإرادة ، وأنفع الفكر ـ الآن دقق ـ الفكر في مصالح المعاد لأن الآخرة أبدية سرمدية ، لأن الخسارة العظمى خسارة الآخرة .

قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.... الزمر15

أنفع الفكر التفكر في مصالح المعاد ، وفي طرق اجتلابها ، كيف أصل إلى الجنة ؟ وكيف أعرف أسباب الوصول إلى الجنة ، وفي دفع مفاسد المعاد ، وفي طرق اجتنابها ، أربعة مجالات للتفكير ، كيف أفوز بالجنة ؟ وما طرق الوصول إليها ؟ وكيف أجتنب النار ؟ وما هي طرق الابتعاد عنها ؟ أربع مجالات هي الأولى في عالم التفكير .


هذا تيار من الماء تستطيع أن تحوله لرى الأرض واستنبات النبات أو تستطيع أن تغرق به الأرض وتقتل الحياة. هو في الحالة الأولى خير. وفي الحالة الثانية شر. ولكنه هو الماء ذاته في الحالتين. لم تتغير طبيعته. ولكن تغيرت وظيفته.

وهذا تيار من الكهرباء تستطيع أن تضيء به المصابيح هدى ونوراً للناس. وتستطيع أن تصعق به الأحياء. هو في إحدى حالتيه خير وفي الثانية شر. ولكنه هو هو تيار الكهرباء لم يطرأ عليه تغيير.

وكذلك الطاقة النفسية. طاقة محايدة. تصلح أن تستخدمها للخير كما تصلح هي ذاتها أن تستخدمها في الشر. لا تتغير طبيعتها في الحالتين وإنما يتغير التوجيه.

والقدرة على التفكير طاقة محايدة. ولكنك تستخدمها للنفع العام فهي خيرة، وتستخدمها للإيذاء وإيقاع الضرر فهي شريرة. ولكنها هي في ذاتها من حيث هي نشاط بشري لم تتغير في الحالتين.

هناك إذن نتيجة نستطيع أن نطمئن إليها: هي أن الطاقة للبشرية ـ في معظمها ـ طاقة محايدة تصلح للخير والشر بحسب ما تتلقاه من توجيه.
(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها .. ).

نعم. (النفس) البشرية وحدها هي التي تعرف الفجور والتقوى. تعرف النقيضين وتقدر على النقيضين. ومن هنا توصف عمال الإنسان بأنها خير أو شر، ويعاقب أو يثاب.
(قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها .. ).

فإذا أخذنا الإنسان ((على طبيعته)) بمعنى دراسته دون توجيه ولا تهذيب، فإننا بذلك نغفل من حسابنا الجانب الآخر من طبيعته، الجانب الموجود في حالة كامنة، والذي يحتاج إلى التوجيه لكي يظهر للعيان.

وإذا وضعنا قواعد التربية على هذا الأساس ـ الذي نزعم خطأ أنه الأساس الطبيعي ـ فمعنى ذلك أننا نترك الإنسان محكوماً بضروراته إلى الأبد، وتترك الطاقة المحايدة تتلون بهذا اللون فتصبح بعد حين طاقة شريرة. شريرة لا لأن ضرورات الإنسان في ذاتها شريرة، ولكن لأن غياب العنصر الآخر الذي يعادلها يجعلها تتطرف في اتجاه واحد. وذلك ما نسميه بالشر لأنه ـ كما ثبت من التجربة ـ يعود بالضرر على الفرد وعلى الجماعة.

والإسلام قد أدرك الطبيعة البشرية المحايدة الطاقة المزدوجة الاتجاه:
(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها).
وأوجب تزكيتها. أي تربيتها وتهذيبها. وجعل ذلك أمانة في عنق الوالدين وأولياء الأمور.
يقول النبى صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته"

وجعل هذه التزكية على أساس إنساني بحت لا يعرف فوارق الوطن ولا اللغة ولا الجنس ولا حتى العقيدة.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ... )، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ... ).
وجعل أساس هذه التزكية هو التهذيب لا الكبت.

فهو لا يحب أن يمحق طاقة حيوية أو يعطلها عن عملها. لأنه يعرف أن كل طاقة حيوية يشتمل عليها الإنسان هي جزء من كيانه ضروري له في حياته. وتعطيله أو كبته معناه إهدار هذه الطاقة وتضييع الفائدة المرجوة منها.

ولكنه كذلك لا يترك الإنسان (على طبيعته) بالمعنى الخاطئ من هذا التعبير، الذي يزعم أن ضرورات الجسد هي الطبيعة الوحيدة للإنسان. بل يتركه (على طبيعتيه). فيعطي ضرورات جسده نصيبها المعقول: ((إن لبدنك عليك حقاً)) ويعطي أشواقه العليا نصيبها المعقول: ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك)) ويوازن بين هذه وتلك ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)).

والإنسان بعد من أعظم معجزات الخلق: لا هو بالملاك ولا بالشيطان. ولكنه مشتمل على الخير والشر، وقادر في لحظات الارتفاع أن يصبح كالملائكة وقادر في لحظات الهبوط أن يصبح كالشياطين.


قال تعالى :
الشيطان يعدكم الفقر ويامركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ... البقرة 268

لهذا فعلينا طاعة الله عز وجل لقوله :
ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين...سورة البقرة 208

لأن
ان كيد الشيطان كان ضعيفا... النساء76

لهذا :
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا... النساء119

وهل تصل مع الشيطان لشيء :
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا ... النساء 120


يتبع