مؤشرات ومبشرات

كان حسن البنا الإمام الداعية، والأجيال من الدعاة الذين حملوا الأمانة وواصلوا المضي على طريق الدعوة من بعده، يعرفون طبيعة الطريق، ولكن يدركون أن لعمل الدعاة ثماره، ولجهودهم نتاجها، خاصة أن دلائل ومؤشرات ومبشرات الخير تلوح في الآفاق، بل ويلسمها الناس على أ{ض الواقع تغييرا في المجتمعات كان من أهم ملامحه ظهور بدايات ودلائل تؤكد إنحسار مظاهر وعادات وتقاليد الغرب التي زحفت علينا، تغييرا صاحب ظهور وانتشار الصحوة التي عمّت المشرق والمغرب، وكان من أهم ملامحها التمسك بالدين والتزام تعاليمه وقيمه وسلوكياته على مستوى الفتيان والفتيات، وما واكب ذلك من إقبال على العبادة واعتزاز من الفتيات بالحجاب الذي حسر موجة التبرج والسفور مع تأكيد الحرص على الهوية والأصالة والتفوق في العلم والمعرفة لتحقيق التقدم المنشود.

• أيضا ظهرت البنوك والمؤسسات الاقتصادية الاسلامية التي قطعت شوطا في تحرير المجتمعات والأفراد من وطأة الربا، وفتحت الأبواب أمام المشروعات الإسلامية، مع تأكيد روح التكافل والتضامن والتعاطف، كما صار للزكاة العديد من المراكز والمواقع التي تقوم بجمعها والكثير من المنافذ التي تقوم على صرفها في أوجهها وحيث تؤتي ثمارها.

• وارتفعت في كل مكان الأصوات المطالبة بتطبيق شرع الله، والعيش في ظلال وإطار نظام الحياة الذي ارتضاه الله لعباده والذي يكفل لهم السعادة والطمأنينة وراحة البال والضمير، واستقرار وتوازن النفس، كما ارتفعت رايات وشعارات الجهاد ومقاومة الأعداء والدفاع عن الأوطان وتحرير المحتل من الأقطار، بل لقد حدثت معارك وماوجهات بين المجاهدين وقوى الاستعمار على ساحات، عادت بالأذهان الى الزمن الأول للجهاد والمجاهدين، والتضحية والبذل بعد أن ظن الأعداؤ أنهم تمكنوا من وأد روح الجهاد في الشعوب الإسلامية.

• ومع اتساع حركة الدعاة، اتسعت آفاق المد الاسلامي لتشهد ساحة العديد من الدول الغربية، وأيضا الساحة الأمريكية، عديدا من الأنشطة الإسلامية من خلال المراكز والجمعيات الإسلامية والمساجد والمدارس التي تمارس دورها الدعوي عبر الحوار الذي يعتمد الحجة والدليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعبر جميع الأعمال والأنشطة التي تؤكد سعي وحرص الإنسان المسلم على خير الناس وصالحهم، كما نشطت حركة للترجمة صاحبها إقبال نشيط على دراسة الإسلام والإيمان به والنهوض بتعاليمه، الأمر الذي يشير الى تطلع الأرواح والنفوس الى ما يروي ظمأها ويضمن ويوفر لها توازنها، وبالتالي يحقق لها السكينة والطمأنينة.

من أجل ذلك كان صبر الدعاة على البلاء ومشاق فتن ومحن الطريق هو صبر الذين آمنوا بالإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه، ولا ضلال لمن اتبعه، ورسخت العقيدة في قلوبهم وأعماقهم فصارت أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، وباتوا وأصبحوا وهم يرددون في امتثال والتزام وتدبر:{ شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم* إن الدين عند الله الإسلام} آل عمران 18-19.

إنهم يرون فيه النعمة الكبرى التي أنعم الله بها على عباده، وأرسل بها جميع رسله منذ آدم حتى خاتم النبيين والرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي نزل الاسلام على قلبه لجميع الناس وحتى قيام الساعة، وصدق القائل عز وجل:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا} المائدة 3.

الإسلام هو الحل الوحيد

ولأن الإسلام هو العقيدة والشريعة ونظام الحياة الذي ارتضاه الله لعباده، وهو وحده الذي يعلم ما فيه نفعهم وصالحهم، كما يعلم سرّهم وعلانيتهم.. فقد كان الإسلام وسيظل هو الحل الوحيد لمشاكل وأزمات البشرية، يعرف ويلبي مطالب الروح والنفس في توازن، ويربي في الناس وازع الإيمان والخشية والرحمة، ويطبع في القلوب على الجوارح حب الخير، ويزرع فيهم الضوابط الداخلية تمارس دورها قبل الضوابط الخارجية، يؤكد القيم والمثل، كما يؤكد العفة الفضائل، نادى في الناس أن الأمن والحرية حق فطري للكافة ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، أسس البناء الاجتماعي على الإيمان والعلم والعدل والإنصاف والمساواة والعزة والكرامة ورفض الضيم، وجعل حسابا في الدنيا من خلال شريعة سمحة حازمة عادلة، وحسابا في الآخرة لمن اتقى وأحسن أو اساء وانحرف.

لقد جعل الإسلام التربية ركنا أساسيا من أركان بناء المجتمعةالصالح، أكدها في البيت لتنشئة الفرد الصالح والأسرة الصالحة وأوضى الآباء والأمهات بتخريج أجيال تعرف رسالتها وتؤدي دورها، ولا تقصر في نشر الخير والنور والحق والعدل كخير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتنطلق من جميع تصرفاتها وممارساتها من إيمانها بالله وخشيته وحبه والحب فيه.

كما أكد التربية في دور التعليم ومعاهده في إطار سياسة تعليمية وتربوية ومن خلال برامج للإعلام تلتزم قيمه وتعاليمه وضوابطه وتسعى لتحقيق أهدافه، وعبر وسائل للاتصال تنقل المعرفة والمعلومة وتلتزم الصدق والعفة ولا تعرف الإنحراف.

وحين يستقيم فهم الإسلام ويتأصل إيمانا عميقا في القلوب، وفهما صحيحا في العقول، وتطبيقا دقيقا على أرض الواقع وعبر الجوارح، تتواصل قافلة الدعاة على طريق الدعوة، من خلال أنماط من الدعاة هم وحدهم القادرون على حمل وتبليغ الرسالة، وتربية الأجيال في الإطار وعلى المستوى المطلوب والمأمول، وهو الجانب الذي لمسه د. عبدالعظيم رمضان في مقاله السابع من أغسطس عام 1999 م بجريدة الأهرام حين قال:" إن العهد الذهبي للتربية هو العهد الذي تولى فيه الاخوان المسلمون بقيادة الشيخ حسن البنا الدعوة" وإن كان قد جانبه الصواب حينما أردف:" ولكنهم بدءوا بالتبشير بالفضيلة والآداب الاسلامية والخلق الاسلامي وانتهوا بالتبشير بالحكومة الاسلامية المزعومة والانقلاب، ونسوا أن المقصود بالحكومة الإسلامية هو حكومة كل فرد، أي أن يحكم كل فرد في المجتمع نفسه إسلاميا، فتتحقق مراقبة الله تعالى وليس أن يحكمه حاكم إسلامي من قصر الحكم".

لقد اعترف الرجل بالحقيقة حين أكّد أن العصر الذهبي للتربية كان هو العهد الذي تولى فيه الإخوان المسلمون الدعوة، لكنه حاد عن الفهم الصحيح حين اتهم الاخوان بالسعي الى السلطة والانقلاب، وأيضا حين فصل بين إسلامية الإنسان وإسلامية الحكم والسلطان، وهو في هذا يلتقي مع الذين يرون فاصلا بين الدولة والسياسة، وينسون أو يتناسون أن الإسلام جاء من عند الله دينا شاملا ينظم أمور الدنيا وأمور الآخرة، أمرو العبادة وأمور الاقتصاد والسياسة وأمور التشريع والجهاد، بل لقد جعل الجد في العمل، والسعي للرزق والهمة في الكسب الحلال والصدق في البيع والشراء.. من أمور العبادة، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين من بعده لم يقصروا مهمتهم على أمور الدين بعد أن قامت الدولة في المدينة وتركوا أمور الدنيا ينهض بها آخرون، ولأن الإخوان المسملين قد أكدوا الفهم الصحيح للإسلام، ودعوا اليه وعملوا به فإنهم قد أكدوا ويؤكدون أنهم لم ولن يجعلوا الحكم هدفا من أهدافهم، وأنهم لا يريدون الحكم لأنفسهم، ولكنهم يطالبون بتطبيق شرع الله والعيش في ظلال وإطار نظام الإسلام وسيكونون الجند المخلصين والأعوان الصادقين لأي حاكم يطبق شرع الله عز وجل، كما أنهم عقدوا العزم على أن يبذلوا كل ما في طاقاتهم من أجل المساهمة والعمل في ميدان تربية النشء وتصحيح المفاهيم والتزام العمل والسلوك للقيم والمثل والسعي لما فيه الخير والأمن والسلام والاستقرار والتقدم حتى تتبوأ الأمة موقعها ومكانها كخير أمة أخرجت للناس تقود الى الخير والنور، والعدل والإنصاف.

ولن يتخلى الاخوان عن دعوتهم كما لن يتوقفوا عن المسيرة لاتهام غيرهم لهم بأنهم يسعون الى السلطة من خلال رفع شعار " الإسلام هو الحل"؛ وذلك لأنهم حريصون على رضا الله والفوز بما عنده، لأن ما عند الله هو خير وأبقى.


ـ3ـ

ظهرت دعوات الاخوان المسلمين في ثنايا السحب المتراكمة في آفاق العالم الاسلامي فعلمت وأنارت وبعثت اليقظة بعد طول خمول، وهي ترفع شعاراتها وتعلن عن غاياتها العظيمة التي انتهجت الاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عليهم في الوصول إليها، ومن بين هذه الأغارض العظيمة.

• تصحيح فهم المسلمين لدينهم وعرض المفاهيم الإسلامية عرضا واضحا كريما يوافق روح العصر ويكشف عما فيها من روعة وجمال.

• جمع المسلمين عمليا على مبادئ الإسلام وتجديد أثره القوي في النفوس.

• خدمة المجتمعات، ومحاربة الجهل والفقر والمرض والرذيلة وتشجيع البر والسعي لتحقيق الصالح العام.

• بيان موقف الإسلام من المال وكسبه عن طريق الحلال، وإنفاقه فيما يحقق صالح الإسلام والمسلمين.

• التبشير بالإسلام والسعي لإحيائه في النفوس على مستوى كافة الأقطار؛ لأن دعوة الإسلام ليست قاصرة على شعب دون شعب أو قطر دون قطر، ولكنها جاءت كما قال سبحانه وتعالى في محكم آياته وهو يخاطب رسوله ونبيه { لتخرج الناس من الظلمات الى النور} إبراهيم 1، ومن خلال هذا وعلى أساس من هذا التأصيل والتأسيس تنهض وحدة عالمية تجمع الناس على الخير والهدى.

أيضا من مقاصد دعوة الإخوان أن ينهض الإخوان كدعاة الى الله عز وجل ببيان وتوضيح آفاق وأبعاد ومعالم القضية المهمة والرئيسية التي جاء بها الرسل جميعا وفصلها وأكدها القرآن، وهي خلافة الله في الأرض، فقد كرّم الله الإنسان ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وقال في كتابه الحكيم { ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر} الإسراء 71.

وكافة العبادات التي فرضها الله على عباده إنما فرضت لصالحهم لترتفع بهم الى مستوى الخير والتقوى والتزام العمل الصالح وتحرّي الحلال، والبعد عن الحرام، وتوثيق الصلة بالله سبحانه، كما أن من بين مقاصد الدعاة الى الله عز وجل أن يذكّروا الناس بالمستقبل اللانهائي الذي ينتظر البشر كافة، يوم القيامة وما يتطلبه ذلك من يقظة وعمل والتزام في إطار نظرة توازن بين حاجات النفس وحاجات الروح، وتحول دون الاستغراق في متع الدنيا وشهواتها وزخارفها مع المراجعة المتواصلة لمسيرة الحياة ينهض بها كل إنسان ليضبط خطواته، ويلجم شهواته، ويغلب جانب الخير في نفسه مع وازع الإيمان والخشية في قلبه على جوانب النزوات والشهوات.

وحجة الدعاة وبينتهم ليس كمثلها حجة أو بينة خاصة وأنهما مستمدتان من كتاب الله عز وجل، وهو القائل سبحانه يصف الذين اغوتهم الدنيا وانخرطوا في قاعها ولهوها:{ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم} محمد 12.

وحين ينهض الدعاة ببيان مقاصد دعوتهم ويلتزمون بأداء واجباتهم الدعوية فهم ينهضون في نفس الوقت بدورهم كشهداء على البشرية ويضاعفون السعي والجهد كي يتبوأوا مواقع الريادة والقيادة للنهوض بهذا الدور النبيل العظيم والأخذ بيد البشرية لما فيه خيرها والابتعاد بها عن الانحراف أو الهدم والتخريب أو الصراع والاقتتال، لأن الاسلام جاء بالعدل والانصاف وأكد الحرية والأمن كما أكد السلام والتعاون ونهى عن العدول والافتئات على حقوق الدول أو الأفراد.

من أجل هذا فإن الإخوان وهم يرفعون شعار " الإسلام هو الحل" يعرفون ـ ويدركون ما يترتب على ذلك من التزامات عظيمة وتضحيات كبيرة وأنماط من العمل الدائم والبذل والعطاء المتواصلين، لأنهم بسعون للأخذ بيد البشرية لما فيه خيرها ونفعها وفلاحها، كما يدركون في الوقت نفسه أنماط العقبات والحواجز والصعاب الضخمة التي تعترض سبيلهم، وأن دعوتهم ـ وهي لخير الناس كافة وما فيه صالحهم ـ ستلقى خصومة شديدة، وعدواة قاسية من قبل جهات مختلفة، منها الحكومات، ومنها فريق من العلماء الرسميين، ومنها الجاهلون، وفي هذا يقول الإمام البنا:" إن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات والعقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، وسيقف جهل الناس بحقيقة الاسلام عقبة في طريقكم وستجدون من أهل التدين والعلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وسيحقد عليكم حكماء وزعماء وذوو سلطان وجاه، وستقف في وجهكم كل الحكومات، وتحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم أو تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرع الغاضبون بكل طريق لمناهضتكم، وسيستعينون بالأيدي الممتدة اليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وستدخلون في دور التجربة والامتحان، فستسجنون وتقتلون وتشردون تصادر مصالحكم وتفتش بيوتكم".

كان حسن البنا صاحب البصيرة النافذة، يدرك أن أبعاد الطريق، ومعالم الطريق، وفي الوقت نفسه عقبات ومتاعب ومحن الطريق، وهو أمر أدركه الدعاة الذين مضوا على الطريق وواصلوا مسيرة الدعوة من بعده.

متطلبات على مستوى الدعاة والوسائل

كما أدرك الدعاة أن للمضي على هذا الطريق متطلبات على مستوى الدعاة أنفسهم وعلى مستوى السبل والوسائل.

إن حمل هذه الرسالة والتبشير بين الناس بهذه الدعوة الغالية إنما يتطلب من الفئة التي تحمل الأمانة أن تتوافر لها قوة نفسية عظيمة تمثل في إرادة قوية لا يتطرق إليها الضعف، ومعرفة صحيحة بالمبدأ وإيمان لا يتزعزع، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوّن، وتضحية لا يحول دونها طمع ولا بخل مع تقدير للأمور، والحقائق، يعصم من الخطأ أو الاندفاع أو الاحجام ويقود الى الصواب ويتسم بالفطنة والحنكة.

وعلى مستوى الوسائل والأسلحة يأتي سلاح الحق على رأس كل الأسلحة التي يجب أن يتسلح بها الدعاة وهو سلاح لا يفل ولا تنال منه الليالي والأيام، فالحق باق خالد والله سبحانه يقول { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} الأنبياء 18، { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} الإسراء 81.

أيضا يأتي سلاح الإيمان كسر من أسرار القوة لدى الدعاة لا يدركه إلا الدعاة المؤمنون الصادقون، وما تواصلت مسيرة الدعاة والجهاد إلا بالإيمان.

وإذا صدق العزم وضح السبيل وصدق الله إذ يقول { وكان حقا علينا نصر المؤمنين} الروم 47، وإن تخلى جند الأرض عن الدعاة فإن معهم جند السماء، شريطة التزامهم الطريق وسعيهم نحو الغايات، مع خلوص النيات والصدق في التوجهات.

كما يأتي الأمل بعد ذلك سلاحا له بأسه ودوره، فالدعاة لا يعرفون اليأس ولا الملل ولا التراجع، ولا التبديل أو الانحراف ولا يسبقون الحوادث ولا يضعف من همتهم طول الجهاد، ويتمثلون قول الله سبحانه:{ حتى إذا استيأس الرسل وظنّوا أنهم كُذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نّشاء ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين} يوسف 110. { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} يوسف 87.

أيضا من بين الأسلحة الفاعلة التي يتسلح بها الدعاة، الصبر مع الاحتساب، إضافة الى الإشفاق على الذين ينهضون بالعدوان على الدعاة أو بتعذيبهم، ولا يغب عن أذهانهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو بالهداية لقومه الذين يؤذونه، ويقول:"اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".

دلائل وبشائر النجاح عند الدعاة

ومع الإيمان العميق والفهم الصحيح والتطبيق الدقيق، ومع الأخذ بالأسباب، والتسلح بكافة أسلحة الدعاة، ومع الأمل الكبير في ستر وتوفيق الله ومع السعي الدؤوب للفوز برضاه يستشعر الدعاة دلائل ومبشرات النجاح، ويستشفون في الآفاق ملامحه، وهم يدركون قبل وأكثر من غيرهم أن العالم كله في حاجته الى هذه الدعوة، وأن مجريات الأحداث على ساحته، وتطوراتها وآثارها ونتائجها على كافة الساحات توحي كلها أنه أمام خيار قادم، فإنا أن يؤوب الى الرشد ويبحث عن سبل النجاة، وإما أن يسارع الخطو على طريق الانحدار ثم الهلاك، وأصوات التعقل وصيحات التحذير، هنا وهناك، تنبئ أن العالم متجه الى طريق النجاة، بعد أن اكتوى بنار الشهوات، وطغيان الانحراف والضلال.

إن الدعاة الى الله وهم روح يسري في قلب هذه الأمة كما أنهم جزء من نسيجها يحيونها بالقرآن، ويسرون فيها كنور جديد يبيد الظلام بمعرفة الله يعلو صوتهم مناديا مرددا دعوة رسول الله عليه الصلاة والسلام في السعي للحق دون غلو، والصبر على الأذى في احتساب، في حب الناس وحرص عليهم دون طمع في أجر من بشر.

إنهم وهم يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" وينادون به بين الناس سبيلا وحيدا لنجاتهم وخروجهم من المآزق والأزمات الى سعة التيسير واليسر وسكينة الطمأنينة والأمن، يدركون من خلال فهم للإسلام كما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام أن الحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه، والعدل والإنصاف والمساواة ركائز رئيسية من مجتمعه والأخوة والحب هما روابطه الأصيلة بين الذين يسعدون بالعيش في ظلاله ويمضون على خطى من سبقهم على الطريق، إذا نزلت بهم محنة، صبروا واحتسبوا، دون أن تتوقف المسيرة أو يتوقف العطاء والبذل والتضحية.

تآمرت عليهم القوى الدولية عام 1948 بعد أن سجلوا على صفحات التاريخ أنماطا من الجهاد ضد اليهود المستعمرين المعتدين على أرضه فلسطين، وروت دماؤهم ثراها ورباها ووديانها، وجرى اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا، ثم جاءت أحداث 1954 وتعرضوا للظلم والجور والتعذيب والقتل، فصبروا ثم جاءت أحداث 1965 ولا يزالون يتعرضون للاعتقال بل ووصل الأمر الى مستوى المحاكمات فلم يتخلوا عن صبر الدعاة، ولم يتوقفوا عن مسيرة الدعوة، بل واصلوا التبشير بين الناس، وهم يرفعون شعار "الإسلام هو الحل"، لأنه وحده هو الحل، حقا ويقينا.
ـ4ـ

لقد علمتنا التجارب وعرفتنا الحوادث أن داء أممنا الشرقية الاسلامية مشعب المناحي كثير الأغرض وقد نال معظم مظاهر حياتها، فهي مصابة من ناحيتها السياسية بما تركه استعمار الأعداء من آثار كالفرقة والشتات من جانب أبنائها، وفي ناحيتها الاقتصادي بانتشار الربا وتغلغل الشركات الأجنبية وتحكمها في مواردها وخيراتها، وهي أيضا مصابة من ناحيتها الفكرية بمحاولات تحطيم المثل العليا في نفوس أبنائها ومحاولات الشكيك في العقيدة الاسلامية، وفي ناحيتها الاجتماعية بانحرافات في العادات والأخلاق والتحلل من عقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغرّ الميامين من أسلافنا وبالتقليد الغربي الذي يسري في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دماءها ويعكر صفو هنائها.

كما أصيبت بالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرما ولا تؤدب معتديا ولا ترد ظالما ولا تغني يوما من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ورب الناس وبارئها، وكذلك أصيبت بفوضى في سياسة التعليم والتربية تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحملة أمانة النهوض بها، وفي ناحيتها النفسية بضعف ووهن وشح يكف الأيدي عن البذل وتقف حجابا دون التضحية والجهاد.

هكذا نرى تغلب الجانب المادي على الجانب الروحي ويقاس الناس بما عندهم من مال وانتشرت الأنانية وعم الفقر وكثرت الجرائم من قتل وإغتصاب كما نرى جور الحكام وظلم الشعوب.

فماذا يرجى من أمة اجتمعت على غزوها كل هذه العوامل بأقوى مظاهرها، هذه الأدواء كفيلة بقتل مجموعة من الأمم فكيف وقد تفشت جميعا في كل أمة على حدة؟ ولولا مناعة وحصانة وجلادة وشدة في هذه الأمم لعفت على آثارها ولبادت من الوجود ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون.

فكلنا أمل وشعور ولسنا يائسين وسنصل الى خير كثير إن شاء الله فكل ما حولنا يبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين.

مقارنة وقياس

لو نظرنا الى ما كانت عليه الأمم العربية في الجزيرة العربية قبل ظهور الاسلام ثم ما أحدثه الإسلام فيها من تغيير كبير، نجد أنفسنا على يقين تام بأن "الإسلام هو الحل" لواقعنا الذي نعيشه.

فالجاهلية المستحكمة وعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ووأد البنات وانتشار الخمر وألوان الفساد والعصبيات والحروب المستمرة ثم كيف قوبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته الى عبادة الله وحده بكل ألوان الحرب والكيد والإيذاء والتعذيب بل والقتل، ولكن الله حفظه ورعاه ونصره فإذا بهذه الأمة المتهلفة تتحول الى أمة تقود البشرية الى كل خير قوة وعزة.

لقد أتى على هذه الأمم الشرقية حين من الدهر جمدت وسكنت حتى كادت تفقد كيانها ولكنها الآن تغلي غليانا بيقظة شاملة في كل مناحي الحياة وتضطرم اضطراما بالمشاعر الحية القوية والأحاسيس العنيفة، ولولا ثقل القيود من جهة والفوضى في التوجيه من جهة أخرى لكان لهذه اليقظة أروع الآثار، ولن تظل هذه القيود قيودا الى الأبد فإنما الدهر قلُّب فما بين طرفة عين وانتباهتها يغيّر الله من حال الى حال، فبعد الحيرة هدى، وبعد الفوضى استقرار، ولله الأمر من قبل ومن بعد، لهذا لسنا يائسين أبدا وآيات الله تبارك وتعالى وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع ويرشدنا الى طريق النهوض.

والآيات الكريمة في أول سورة القصص نرى فيها كيف يطغى الباطل ويعتز بقوته ويطمئن الى جبروته ويغفل عن عين الحق التي ترقبه حتى إذا فرح بما أوتي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر وأبت إرادة الله إلا أن تنتصر للمظلومين وتأخذ بناصية المهضومين المستضعفين فإذا الباطل منهار من أساسه وإذا الحق قائم البنيان متين الأركان وإذا أهله هم الغالبون، يقول الله تعالى:{ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} القصص 1-6.