قوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }. فيه مسألتان:
الأُولى ـ قوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } الدين في هذه الآية المعتقد والمِلّة بقرينة قوله: { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }. والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله:
{ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ }
[النحل: 106]. وقرأ أبو عبد الرحمن «قَدْ تَبَيَّنَ الرَّشَدُ مِنَ الْغَيِّ» وكذا روى عن الحسن والشعبيّ؛ يقال: رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِد يَرْشَد رَشَداً: إذا بلغ ما يُحِبّ. وغَوَى ضِدُّه؛ عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن السلميّ أنه قرأ «الرشاد» بالألف. وروى عن الحسن أيضاً { الرُّشْدُ } بضم الراء والشين. { الْغَيِّ } مصدر من غَوَى يَغْوِي إذا ضلّ في معتَقَد أو رَأْي؛ ولا يقال الغيّ في الضلال على الإطلاق.
الثانية ـ اختلف العلماء في (معنى) هذه الآية على ستة أقوال:
(الأوّل)
قيل إنها منسوخة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ }
[التوبة: 73]. وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
(الثاني)
ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً، وأنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية، والذين يُكرهون أهلُ الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ }
[التوبة: 73]. هذا قول الشعبيّ وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمِي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا { لاَ إكْرَاهَ في الدِّينِ }.
(الثالث) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مِقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي ?لدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ?لرُّشْدُ مِنَ ?لْغَيِّ }. قال أبو داود: والمِقلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنُكرِههم عليه فنزلت: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبيّ ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع. قال النحاس:
قول ابن عباس في هذه الآية أُولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي
المفضلات