إثبات عذاب القبر
الآن نذكر أدلة القائلين بعذاب القبر ونعيمه :
في قوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَليهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ " ( 1). قال القرطبي في تفسير هذه الآية :
احتج بعض أهل العلم في تثبيت عذاب القبر بقوله : " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " ما دامت الدنيا . كذلك قال مجاهد و عكرمة و مقاتل و محمد بن كعب كلهم قال : هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا ، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة : " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وفي الحديث عن ابن مسعود : أن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار بالغداة والعشي فيقال هذه داركم .
وقال الطبري في تفسير : قوله تعالى : وإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُوْنَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .( 2) اختلف أهل التأويل في العذاب الذي توعد الله به هؤلاء الظلمة من دون يوم الصعقة فقال بعضهم : هو عذاب القبر .
وقال الإمام القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى والآخرة :
في قول الله تعالى : " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً " قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود : ضنكاً : عذاب القبر ، وقيل في قوله عز وجل : إن للذين ظلموا عذاب دون ذلك " هو عذاب القبر لأن الله ذكره عقب قوله : " فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون " وهذا اليوم هو اليوم الآخر من أيام الدنيا ، فدل علي أن العذاب الذي هم فيه هو عذاب القبر . وروى زر بن حبيش عن عليِّ رضي الله عنه قال : كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة " ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر . كلا سوف تعلمون " (3 ) يعني في القبور .(4 )
ولما كانت المُساءلة في القبر تحتاج إلى عقل وشعور وتفكير للإجابة فقد رُدت الروح إليه في القبر , ولا نرى في ذلك شئ غريب فالله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الإنسان من طين علي غير مثال سابق , ونفخ فيه الروح , فهو القادر سبحانه علي رد الروح إلى جسدها في القبر لتحيى حياة بقدر الحاجة للإجابة علي سؤال الملكين .
ولكن من خلال الرأي والرأي المخالف نذكر:
أن الأمة قد اتفقت علي إثبات القيامة ورد الأرواح إلى أجسادها في ذلك اليوم للحساب , وإنما اختلفوا في إثبات سؤال القبر ونعيمه أو عذابه , ومن أسباب الإشكال عند من ينفي عذاب القبر :-
أولاً : - لم يوجد في القرآن نص محكم علي إثبات ما يحدث في القبر .
ثانيا :- الأحاديث النبوية متعارضة في هذا الشأن وهي بروايات الآحاد .
ثالثا :- لم يتفقوا علي معنى النفس التي يسمونها روح الجسد .
رابعا:- من أثبت العذاب في القبر للجسد قال إن العذاب للجسد والروح والنفس , ومن نفى العذاب للجسد في القبر كابن حزم وابن مرة قال إن العذاب للروح فقط .
ومن أجل ذلك اضطربت أقوال العلماء في هذا الموضوع ولم يتفقوا , كما قال الدكتور أحمد السقا : " وأرجعوا ذلك إلى الاعتقاد في المساءلة في القبر للنعيم أو للعذاب فيه , لأن الناس يشاهدون جسد الميت وقد فارقت روحه حال الموت , كما يفارق الحيوان روحه وقت ذبحه , وقالوا إن الروح المفارق شئ غير الجسد وهو الذي يعاد للقبر للمساءلة , والمشكلة أن الروح المنفصل ليس هناك من دليل قرآني محكم علي وجوده , وأن الروح المنفصل إذا حضر للمساءلة فلابد له من جسد , وإذا عُذِب بدون الجسد فإنه ما فعل شئ بمفرده يستحق عليه العذاب , لأن الجسد كان آلة له " (5 ).
فهذا ابن حزم ينفي أن يتأثر الجسد في القبر بشئ , ويثبت أن المساءلة وما يترتب عليها هي لغير الجسد , ويقول في الجزء الرابع من " الفصل " ( 6).
" إن فتنة القبر وعذابه والمساءلة فيه ؛ إنما هي للروح فقط بعد فراقه الجسد , إثر ذلك . قـُبر أو لم يقبر " وقال بعد ذلك بقليل : " وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها من الجسد , فهو قبر لها إلى يوم القيامة " أي أن ابن حزم يبين أن الروح هي النفس , وعذاب القبر ليس للجسد .
, ومن هذه النصوص قوله تعالى : " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً " ( 7) فقد بين النص الكريم : أن وضع الموازين ليس في القبر , وقوله تعالى : " ربنا امتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "(8 ) أي موت قبل الولادة وموت بعد الولادة , وحياة في الدنيا وحياة في الآخرة , فلو كان في القبر حياة لأعقبه موت , فيصير للمرء ثلاث موتات , هذا مخالف لمفهوم القرآن الكريم . ( 9)
نشكرك علي طرق هذا الموضوع وإن كان موضوعا شائكا والكلام فيه يطول بالرغم من أن أهل السنة والجماعة علي اتفاق تام بحقيقة عذاب القبر ونعيمة ولا نقبل الجدال فيه إلا بتوضيح حقيقته وسرد الأدلة التي تثبت ذلك .
شكرا لك مرة أخرى ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1) سورة غافر آية 46 . 2) سورة الطور آية 47 . 3) سورة التكاثر آية 1 - 3
4) الإمام القرطبي . التذكرة في أحوال الموتى والأخرة ص118
5) د. أحمد السقا . حياة القبور بين المسلمين وأهل الكتاب ص83
6) ابن حزم - الفصل - ج4 ص67 . 7) سورة النبياء آية 47 . 8) سورة غافر آية 11
9) د . أحمد السقا مرجع سابق ص105