الراهب والأنثى.. والرغبة!

لو كان هذا الراهب المسكين يعتنق الإسلام ويعمل بمبادئه لتزوجها ببساطة متناهية ولحصل على سلامه النفسي وإشباعه الجنسي، وفوق كل هذا رضا خالقه عز وجل.


د. أيمن محمد الجندي

لا أذكر منذ كم من السنين قرأت هذه الرواية "تاييس" للأديب الفرنسي الكبير "أناتول فرانس"، لكنني أذكر الرجفة التي انتابتني وأنا أقرأ تفاصيل الرواية.. حياة رهبان الصحراء في مطلع المسيحية بما فيها من زهد وتقشف.. يأكلون الخبز بالملح ويلبسون وبر الإبل.. صيام حتى الغروب، وفي الليل -بعد طول التهجد- ينشدون المزامير.. أمراض البدن عندهم تطهر الروح، والبثور والقروح أشرف الحلي!. بطل هذه الرواية راهب شديد القسوة على جسده.. في خلوته بالصحراء – راح يتذكر أجمل امرأة شاهدها في حياته قبل الرهبنة: تاييس الغانية السكندرية بارعة الحسن التي كانت تشعل الشهوة في أجساد الرجال -وفي جسده أيضا-، فعقد العزم أن يحاول هدايتها وردها إلى طريق الله.

بين المغناطيس والحديد

فلنصاحب الراهب في رحلته لهداية الغانية.. بشكل ما تشعر أنه يمثل الإنسانية كلها أمام فتنة الجنس الآخر.. الرجل والمرأة، الذكر والأنثى، المغناطيس والحديد، السالب والموجب، الليل والنهار.. مخطئ من يظن أن التجاذب بينهما ما هو إلا نتاج هرمونات قلقة تدفع أحدهما إلى الآخر.. الأمر أعمق من ذلك وأكبر.. من منا لم يشعر بالحيرة صوب مشاعره الملتبسة نحو الجنس الآخر وهو بعد في غفلة الطفولة؟.

الحب، ثمرة الحياة وزهرتها، ضمانة الحياة لاستمرارها.. لولاه لما كان على ظهر الأرض مهر يركض، أو زهرة تعلن جمالها، أو فتاة تصبغ شفتيها.. الحب غالب، شئنا أم أبينا، والرغبة في الجنس الآخر ليست مما يستدعي الخجل.

المجتمعات الغربية حلت المشكلة بطريقتها بعد أن عانت أوروبا المسيحية لقرون طويلة من إهمال الجسد وتحقير النزعة الفطرية.. الجنس خطيئة يقبلون منها أهون الضررين (الزواج بواحدة مع حظر الطلاق).. بالطبع لم تفلح الشعارات البراقة في ترويض النهر الجامح فارتد السهم إلى النحر وأسهم -مع عوامل أخرى عديدة- في نبذ الدين كله هناك، ليتحول المجتمع إلى فوضى جنسية تحت شعار أن جسد الإنسان ملك للإنسان.

روح بلا جسد

هذا كله سيحدث فيما بعد، أما الآن فالراهب يسير على قدميه الحافيتين في طريقه للإسكندرية، غير عابئ باللصوص والوحوش الضارية، مبتعدًا عن القرى والأمصار، ممتنعا عن دخول المدن خشية فتنة الألوان الزاهية.. غذاؤه أوراق الشجر والثمار غير الناضجة حتى يبلغ الإسكندرية، وهناك يرى الغانية فيصعقه جمالها!.

في سره ابتهل إلى ربه أن يكون سببا لهدايتها لا أن تكون هي سببا لغوايته، بالفعل يتماسك ويحدثها حديثا لم تسمع مثله من قبل، لأجلها أتى من بلاده النائية، لأجلها غادر صحراءه، ونطق لسانه الذي نذر الصمت، وسمع ما يحرم عليه سماعه، ولأجلها واصل الليل والنهار في الصحاري الرملية المكتظة بالحشرات والهوام والخفافيش تطأ قدماه العاريتان العقارب والأفاعي، كل ذلك؛ لأنه يحبها أكثر من ذاته، بل أكثر مما تحب هي نفسها.. لكنه حب الروح الخالد لا الجوارح الفانية.. حب في الله وإلى الأبد.

لبثت تسمعه في رهبة وهو يطالبها بأن تنتزع جسدها من حياتها الدنسة التي لوثت روحها، وتتبعه إلى الدير لتنعم بالطهر وبهجة الأفراح السماوية، والذي لم يكن يعلمه أن تاييس كانت في لحظة فارقة، لتوها لاحظت في المرآة أول علامات تنذر بذبول الحسن فهالها ما ستصير إليه في لعبة الزمن القاسية من تجاعيد وشعر أبيض.. وبفطنة الأنثى أرادت اختباره فلوحت له بموافقتها أن تمنحه نفسها.

الراهب المسكين تلقى العرض المزلزل، لكنه تماسك، وبقوة الإيمان قال لها:
- أتظنين أنك إذا وهبت نفسك لي سوف تخفين على الله؟

وأسقط في يدها وقد خذلتها فتنتها أمام الرجال لأول مرة في حياتها، وقررت أن تسلم زمامها للراهب ليأخذ بيدها إلى الحياة الحقة، بثوب خشن لا هندام له، وبقدم حافية وشعر منسدل على كتفيها تبعته إلى الدير، خاشعة طائعة في المسالك الوعرة تحت أشعة الشمس المحرقة.

غواية الأنثى

في الدير كان سجنها الانفرادي.. أقفل الراهب الباب بنفسه، وقفل راجعاً إلى صحرائه المقدسة بعد أن أنجز مهمته، واعتكف بصومعته، ولكن عبثا ما حاول أن يستعيد سكينته.. شيء ما في داخله تغير: السقف المصنوع من الغاب لم يستقبله كصديق!، الجدران لم ترحب به!، وحتى الفراش لم يعرفه!.

طفق يصلي، وقضى الليل ساهرا لا ينعم بنوم ولا غفلة، وبرغم ذلك راحت صورة تاييس تطارده، تتراءى له ليل نهار، وفي الأحلام يراها، بشعرها المتوج بزهور البنفسج، رائعة في حلاوتها وفتنتها حتى صرخ من الخوف فاستيقظ يبلله العرق البارد، وقد أدرك أنه سقط من ذروة إيمانه المتقوض.

وراح يضرع إلى الله أن يصرفه عن التفكير في تاييس لكنها ظلت تراوده.. تارة بثوب أرجواني مرصع بالفضة، وتارة في غلالتها الشفافة، وتارة تندس في فراشه، ويدهمه الشقاء، ويقرر التكفير على قمة عمود شاهق.. تنهمر عليه أمطار الشتاء، تحرقه أشعة الشمس.

بالتدريج ذاع صيت هذه الكفارة العجيبة فأقبل عليه الناس يتلقون بركته، وحده كان يعلم الحقيقة: لم يزل اشتهاؤه لها متسلطا عليه، ممتزجا بلحمه ودمه حتى يوشك أن يرى لحمها مشرقا في كبد الليل الياقوتي هناك حيث جلس على قمة العمود.

نداء الجوارح

دعونا نتوقف للحظة عن متابعة الرواية الحارقة، السؤال الذي يطرح هنا: علام كل هذا الشقاء!، أن تسبح ضد التيار برغم أنه في مقدورك أن تسبح معه.. أن تعاند الطبيعة بلا مبرر وتقهر جسدك.. تستنفد طاقاتك بلا مبرر، وبدلا من أن تعمر بها الأرض وتقوم بمقتضيات الخلافة تتصرف كمراهق تعس مسكين.. تتكدس خساراتك.. دينك ونفسك وراحة بالك.

في المنظومة الإسلامية تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على النظافة والإشباع وتحمل التبعات.. غير مقبول أن توجد امرأة واحدة بغير زواج (وكذلك الرجل)، وبالغا ما بلغ تواضع حظ المرأة من الجمال أو تعثرت زيجاتها فلن تعدم رجلا يرغبها.. هذا هو التوازن الذي تبرع فيه الطبيعة بحكمتها "كل فوله لها كيال".

واندفع الراهب في الصحراء، حتى سمع من بعض الرهبان الخبر المزلزل: تاييس على وشك الموت، ويا له من خبر!، يا لشدة الهول المروع في تلك الكلمات الأربع!.. تاييس على وشك الموت!.. ما الحاجة للشمس والأزهار والدنيا والناس؟!.. صرخ مروعا وهو يركض صوب الدير الذي وضع فيه تاييس.. لشدة ما يلوم نفسه؛ لأنه أعرض عنها حينما كانت في متناوله.. فتحت له ذراعيها المصنوعتين من لحم ممتزج بعطر الزهر، لكنه لم يفعل!، لم يدرك أن السعادة الأبدية قبلة واحدة؟.

في الدير عرف سيرتها في الشهور الماضية، كيف أظهرت من الخضوع والتبتل ما ألهج الألسنة بالثناء عليها، كيف عاشت بينهم آية في الحشمة والوقار ومثالا للخفر.

الراهب لم يستوعب كلمة واحدة، كانت تحتضر وقد انفتحت عيناها البنفسجيتان، وتمد ذراعيها نحو التلال البعيدة.. وقتها بدت له أحلى من أي وقت آخر.. ركع أمامها وهو يصرخ:
- لا تموتي، إني أحبك يا تاييس فلا تموتي!، ما من شيء له وزن إلا الحب الجسدي فلا تموتي، تعالي نتبادل الحب ونرشف كئوسه.

لكنها لم تسمعه، فعانقها عناق اليأس والقنوط، وقد التهمها بعينيه في اشتهاء وغل وحب، فزجرته الراهبة وأبعدته عنها فتراجع وهو يرتجف، وعيناه مشتعلتان، وما لبثت الراهبات أن رحن يصرخن وهن ينظرن إليه:
- وطواط! وطواط!

تحسس وجهه بيده فأدرك بشاعة خلقته، وقد حلت عليه نقمة الرب فاستحال لشخص قبيح مروع.

هكذا انتهت الرواية الفاجعة.. عذاب حقيقي كابده الراهب، وأشد ما يؤلم فيه أنه كان بلا مبرر.. لن تستطيع أبدا أن تتجاهل السؤال الذي يفرض نفسه: ألم يكن من الأفضل لجميع الأطراف أن يتزوجها؟..

لو كان هذا الراهب المسكين يعتنق الإسلام ويعمل بمبادئه لتزوجها ببساطة متناهية ولحصل على سلامه النفسي وإشباعه الجنسي، وفوق كل هذا رضا خالقه عز وجل.

طبيب وكاتب من زوار "إسلام أون لاين.نت"

http://www.islamonline.net/servlet/S...ve%2FAEALayout