ساهموا يا احبة : دروس ومحاضرات مفرغة !

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

ساهموا يا احبة : دروس ومحاضرات مفرغة !

النتائج 1 إلى 10 من 20

الموضوع: ساهموا يا احبة : دروس ومحاضرات مفرغة !

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    المشاركات
    3,275
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    04-12-2012
    على الساعة
    11:58 PM

    افتراضي

    :start-ico وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ


    هذه الآية الكريمة تذكرنا دائما اننا ان بخلنا انما نبخل عن انفسنا اى لا نعطيها الفرصة لكى تكسب الأجر والثواب

    اى نحرم انفسنا من الخير الذى يسوقة الله لنا لنتغتنمه بأفعالنا



    فوجودوا بالخيرات لأنفسكم كما للناس
    التعديل الأخير تم بواسطة نسيبة بنت كعب ; 04-05-2005 الساعة 11:48 PM

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    المشاركات
    3,275
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    04-12-2012
    على الساعة
    11:58 PM

    افتراضي

    الأخـفــــياء
    د. إبراهيم الدويش


    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
    ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
    وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
    أما بعد ..
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذه ليلة الاثنين الموافق 23/10/1414هـ وعنوان هذا اللقاء (الأخفياء).
    فقد كنت تأملت، ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قوله:
    (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي).
    ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وسلم (الخفي) فمازالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود؛
    من هو هذا العبد الخفي ؟
    من الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى؟
    من هم الأخفياء ؟
    قلت ربما هم الذين عرفوا ربهم وعرفهم فأحبوه وأحبهم وحرسوا أن يكون بينهم وبينه أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيرا لهم.
    وقلت ولربما هم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم إلا لخوفهم من ربهم، وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس.
    وقلت ربما هم الجنود المجهولون الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة، فكم من ناصح ، وكم من مرب وكم من داع للحق لا يعرف، وكم من رسالة وكم من شريط طار في كل مطار، وسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء فهنيئا لهم.
    وقلت أيضا ربما هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء،وكم من دمعة بللت الأرض، فبهذه الدمعات وبهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا، ورزقنا وسقينا ربنا.
    وقلت فلربما أن الأخفياء هم اللذين يسعون في ظلمة الليل ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام، لإطعام الطعام، وبذل المال ليفكوا كربة مكروه، وليفرجوا هم أرملة ضعيفة، شديدة الحال، كثير العيال.
    وقلت فلربما أن الأخفياء هم أولئك اللذين لا يعرفهم الناس أو اللذين لا يعرفوا أعمالهم الناس، ولكن الله سبحانه وتعال يعرفهم، وكفا بالله شهيد، فهنيئا لهم .
    ثم قلت وما الذي يمنع أن يكون أولئك جميعا؟
    وما الذي يمنع أن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء؟
    ولذلك ترددت كثيرا في الحديث عن هذا الموضوع، فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم، وأستغفر الله جل وعلا.
    ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا، وقد قالها عبد الله بن المبارك.
    لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم........ليس صحيح إذا مشى كا المقعد
    رحمك الله يا بن المبارك، عندما قلت هذا لبيت، تعني به نفسك.
    فماذا نقول إذا نحن عن أنفسنا؟
    ورحم الله القائل :
    أحب الصالحين ولست منهم.......لعلي أن أنال بهم شفاعة
    وأكره من تجارته المعاصي..........ولو كنا سواء في البضاعة

    لماذا الحديث عن الأخفياء؟
    كان الحديث عن الأخفياء لأني ولربما لأنك أيضا نظرت الحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم ونرى أثارهم ومصنفاتها ونرى أنهم أحياء، أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتا بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة.
    فأسأل وتتساءل معي، ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟
    السر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر.
    فكان القلب علمه وعمله لله سبحانه وتعالى.
    وكان حبه وبغضه لله.
    وقوله وفعله لله.
    حركاته وسكناته لله.
    دقه وجله لله.
    سره وعلانيته لله.
    يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي ترفع، وهي الكلمات التي تتردد بالقلب قبل اللسان، وفي كل مكان:
     قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين .
    هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب.
    أما اليوم، فتعال وأنظر لحالنا يا أخي الكريم، أنظر لحالنا كأفراد؛
    فقلوبنا شذر مذر.
    ونفوسنا عجب وكبر.
    وأفعالنا تزين وإظهار.
    وأقوالنا لربما كانت طلب للاشتهار.
    وهمومنا في الملذات.
    وحديثنا في الشهوات.
    وصدق صلى الله عليه وسلم في قوله:
    ( إن الله كره لكم ثلاثة؛ قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال).
    وانظر حالنا كأمة؛
    ذل ومهانة وهوان واحتقار.
    ولا داعي لأن أواصل هذا الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلا قريبا، في شهر رمضان ثلاثة مذابح للمسلمين:
    مذبحة السوق في ساراييفو.
    ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين.
    ومذبحة في السودان.
    أكان ذلك يكون لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟ لا والله.
    أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى، لا والله لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة، لو توجهت قلوب أصحابها، وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا.
    رب ومعتصماه انطلقت......ملء أفواه الصبايا اليتم
    لا مست أسماعهم لكنها......لم نلامس نخوة المعتصم
    إذا فالسر في حياة أولئك التوحيد، التوحيد لله، ليس التوحيد قولا، فكلنا نقول لا إله إلا الله ولكنه التوحيد القلبي، يوم أن تكون الأفعال والأقوال محركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم، والآخرة دارهم.

    ثم أيضا سبب آخر ومهم جدا للحديث عن الأخفياء.
    فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة:
    إن فقدت الأعمال والأقوال – أيا كان نوعها – إن فقدت خلوص النية لله جل وعلا، انطلقت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله.
    ألم تسمع لذلك الحديث المفزع للقلوب الذي كما أراد أبو هريرة – رضي الله عنه وأرضاه –أن يرويه لنا، أو يرويه لأصحابه، وقع مغشيا عليه.
    يفعل ذلك ثلاثة مرات أو أربع، لهول ذلك الحديث المفزع.
    حديث أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة:
    (قارئ القرآن والمجاهد، والمتصدق بماله).
    أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحد المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله.
    وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال:
    (قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بعدهم؟، أو فكيف بمن بقي من الناس؟)
    ثم بكى معاوية. رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً.ة يقول الراوي حتى ضننا أنه هالك.
    انظروا صحابة رسول الله، يخشون على أنفسهم عندما يسمعون الحديث.
    فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟
    يقول الراوي: حتى ضننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية،.ومسح وجهه ودمعه بيده. رضي الله تعالى عنه، وقال صدق الله ورسوله:
     من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.
    لأنهم فعلوا ذلك ليقال قارئ، وليقال متصدق، وليقال جريء.
    ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء ومثل التسميع، بأن يقول فلان:
    سمعت وعلمت وفعلت وجئت وذهبت، مسمعا للناس بأفعاله عياذا بالله.
    التزام التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأغراض من جاه أو مال أو سمعة أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاسمة للظهر متى شابت النية.
    ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب لوصول إلى طريق المخلصين، جعلني الله وإياك منهم .





    ثم سبب ثالث: لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء.
    ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا ، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء ، ولإقبال الناس عموما على العبادات، وحرصهم على الخيرات- والحمد لله-، مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال وهذه العيادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون.
    كان لازما أن نتحدث في مثل هذا الموضوع، وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس ولذلك تكلمنا عن هذا الموضوع، تذكيرا وتنبيها وتحذيراً، لشدة الحاجة إليه .

    الخفاء في الكتاب والسنة
    والخفاء منهج شرعي، ولذلك اسمع أيها المحب لقول الحق جل وعلا:
     وإن تخفوها وتأتوها الفقراء فهو خير لكم.
    هذه الآية الكريمة – كما يقول الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى:
    ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها.
    ويقول سبحان :
     ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين .
    ويقول المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال:
    (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه).
    أنظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة، وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
    وقال أيضا الحافظ ابن حجر:
    ( وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة ).
    وفي الحديث نفسه صورة أخرى يذكرها صلى الله عليه وآله وسلم:
    ( ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ).
    ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلا على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
    ووجه الدلالة في هذا الحديث على أن الخفاء منهج شرعي.
    إن الصدقة المذكورة وقعت في الليل، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث:
    ( فأصبحوا يتحدثون). بل وقعت رواية أو لفظا صريحا كما في مسلم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الرجل: (لأتصدقن الليلة).
    فدل ذلك على أن صدقته كانت سرا في الليل، إذا لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهارا لما خفى عنه حال الغني، بخلاف حال الزانية وحال السارق فالغني ظاهرة حاله، فلذلك كانت الصدقة سرا في الليل .
    وأيضا حديث النافلة، صلاة النافلة في البيوت.
    فمن حديث زيد بن ثابت – رضي الله عنه وأرضاه – أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).
    وروى الطبراني من حديث صهيب بن النعمان قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس، كفضل المكتوبة على النافلة).
    أنظر الشاهد حيث يراه الناس إذا فالاختفاء عن الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل.
    ومن حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ، كما اخرج البخاري ومسلم، قال : قال النبي صلة الله عليه وآله وسلم :
    (من سّمع سمّع الله به ، ومن يرائي يرائي الله به).
    ومن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سمع الناس بعلمه سمع الله به مسامع خلقه ، وصغره وحقره ).
    أخرجه احمد في مسنده ، والطبراني ، والبيهقي ، وإسناده صحيح.
    وذكر الذهبي في السير في ترجمة عبد الله بن داود الخريبي، أنه رضي الله عنه قال:
    (كان يستحبون ( أي السلف الصالح) أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها).
    وذكر وقيع بن الجراح في كتابه الزهد، والإمام هناد ابن السري في كتاب الزهد، أن الزبير بن العوام قال: (من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل ).
    وسنذكر بإذن الله صور عديدة لحياة كثير من السلف ، تدل على أن هذا الأمر كان منهاجا لهم ،وكان يحرصون عليه ويتمسكون به.

    متى يكون الخفاء ؟
    قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم :
    وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيء أبد إذا ؟
    الإجابة على السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام ابن القيم –رحمه الله تعالى- في كتابه مدارج السالكين عندما قال :
    (ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة)
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
    (هذا فيه تفصيل أيضا وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان) (انتبه جيدا):
    (أولا مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه ، تبعث على العمل أو تقوي هذا العمل، فهذه مراآة خالصة أو مشوبة ، كما أن المشاهد القاطعة عنه أيضا من الآفات والحجب.)
    أي كما أن المشاهدة التي تجعلك تقطع العمل بتاتا أيضا هي من الآفات والحجب.
    ثم يقول: ( ثم يقول ومشاهدة – أي أخرى – لا تبعث عليه ولا تعين الباحث ، بل لا فرق عنده -أي عند صاحبها- بين وجودها وعدمها ، لا يهمه يراه الناس أو لا يرونه ، ولا تدخله في التزيين والمراءات ، ولا سيما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة).
    ما هي المصلحة ؟ يقول ابن القيم :
    (إما حفظا ورعاية ، كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها ، أو مشاهدة عدو يخاف هجومه ، كصرة الخوف عند المواجهة أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص، أو قصدا منك للإقتداء وتعريف الجاهل . يقول ابن القيم : فهذا رياء محمود والله عند نية القلب وقصده).
    ثم يقول – رحمه الله تعالى - :
    (فالرياء المذموم ، أن يكون الباعث قاصد التعظيم والمدح والرغبة فيما عنده من ثرائه ، أو الرهبة منه ، وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة.
    وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك ، فليس في هذه المشاهد رياء بل قد يتصدق العبد رياء وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر، مثل ذلك ، يقول ابن القيم :
    رجل مضرور سأل قوما ما هو محتاج إليه، فعلم رجل منه انه إن أعطاه سرا حيث لا يراه أحد لم يقتدي به أحد ولم يحصل له سوى العطية ، وانه إن أعطاه جهرا يقتدي به ويتبع ، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية ، فجهر له بالعطاء.
    فكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصده التعظيم والثناء ، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين). .انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
    وينقل لنا الحافظ ابن حجر أيضا في فتح الباري لما تكلم عن صدقة الفرض وصدقة النفل، وهل الأفضل إعلانهما أو إخفائهما ؟ قال رحمه الله تعالى ينقل عن الزين بن المنير قال:
    (لو قيل إن ذلك (أي الإخفاء أو الإظهار) يختلف باختلاف الأحوال لما كانت بعيدا ، فإذا كان الإمام مثلا جائرا ومال من وجبت عليه ( أي الزكاة أو الصدقة الفرض ) مخفيا فالإسرار أولى وإن كان المتطوع ممن يقتدي به ويتبع ، وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق، وسلم قصده فالإظهار أولى) انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
    ومن هنا نعلم أيها الأحبة أنه ليس دائما نخفي العمال، بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى .

    أخفياء ولكن !!
    ولكن يكثر في هذا الزمن الأخفياء ولكنهم أخفياء من نوع آخر.
    أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم.
    هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى اله عليه وآله وسلم في قوله:
    (لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال تهامة بيضاء ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا)، أعوذ بالله.
    يقول راوي الحديث ثوبان- رضي الله عنه - : يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا ، أن نكون منهم ونحن لا نعلم.
    اسمع! ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول : أن نكون منهم ونحن لا نعلم ، فرحمك الله يا ثوبان ، ورضي الله عنك ، قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم-:
    ( أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ). أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح .
    وأخفياء من نوع آخر.
    وهم المقصرون الفاترون أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله فقلت له مثلا ماذا حفظت من القرآن ؟
    وهل تحرص على صيام النوافل أم لا ؟
    وتقول له : ماذا قدمت للإسلام ؟
    وهل تنكر المنكرات ؟
    وهل وهل …وغيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه.
    أنت تريد الخير بنصيحته وتريد مكاشفته بحاله ، حتى يرى حاله على حقيقتها ، فتسأله هذه الأسئلة ، فيجيب هو على نفسه. لأجابك هذا الشخص بقوله:
    هذا بيني وبين الله ، وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟
    أنظر هو الآن ماذا يخفي هو يظهر لنا الإخلاص ، لكنه يخفي الحقيقة، ما هي الحقيقة؟
    أنه مقصر في أعماله ، وانه قد لا يكون عنده شيء.
    وقد لا يكون حفظ من القرآن شيء وإن حفظ فالقليل.
    وقد لا يكون قدم للإسلام شيئا وإن قدم فالقليل القليل.
    وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة.
    فبالتالي لا يملك حتى يبريء ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك هذا بيني وبين الله ، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه ؟.
    فانظر كيف وقع هذا المسكين ، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها ، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر.
    وما أكثر أولئك للأسف وهذا لا شك خداع للنفس وتشبع بما لا يعطى.
    وهكذا التصنع والتزين والتظاهر ، أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبد أن يخفيها:
     يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
    فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا .
    يقول عمر رضي الله عنه، اسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله عنه وأرضاه يقول:
    (فمن حسنت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ). ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين .

    عقبات في طريق الأخفياء
    انتبه لهذه العقبات، والعقبات في طريق الأخفياء – يا أخي الحبي وأختي المسلمة- كثيرة جداً، فالحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص طويل جداً، ولكن أسوق هنا عقبتين من هذه العقبات للاختصار:
    العقبة الأولى.
    هو ما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء –رحمه الله تعالى – حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي قال:
    (وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع عليه ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام.
    ويقابلوه بالبشاشة والتوقير.
    وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه.
    وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان.
    فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه، ووجد في ذلك استبعادا في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام والطاعة التي أخفاها، كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس، وهو لم يظهر العمل، والعمل الخفي بينه ويبن ربه، ولكنه ( ما دام أنه عمل ) نظر لنفسه.
    فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس ، فإن قصر الناس في هذه الأمور، إذا استبعد نفسه ونظر لحله ، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه).
    إلى آخر كلامه .
    هذه الصورة ، وصورة أخرى من العقبات في طريق الأخفياء.
    وهي ما أشار إليها ابن رجب عندما قال – رحمه الله تعالى - :
    (وهنا نكتة دقيقة ، وهي الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه ، فيرتفع بذلك عندهم ، ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء ، وقد نبه عليه السلف الصالح، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: (كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ، وكأنك تريد بذمها زينتها ، وذلك عند الله سفه).
    ما المعيار في الإخلاص والرياء ؟
    ما هو المعيار في الإخلاص ؟ والمعيار في الرياء ؟
    ولا بد أن ننتبه لهذا الأمر ولعلكم تتساءلون ، إذا فالقضية حساسة والقضية تصيب النفس بالخواطر والهواجس.
    وقد ينشغل الإنسان بملاحظة نفسه في هذا الباب.
    إذا ما هو المعيار والميزان والضابط في أن أعرف أني مخلص أو غير مخلص؟
    ذكر ذلك أهل العلم فبينوا:
    أن الضابط في الإخلاص هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن.
    أن تستوي أعمالك في ظاهرك وباطنك، هذا معيار الإخلاص.
    وأن الضابط في الرياء أن يكون ظاهرك خير من باطنك.
    أما الصدق والإخلاص أن يكون الباطن خير من الظاهر.
    ليست القضية أن يستوي الظاهر والباطن، هذا هو الإخلاص، أما صدق الإخلاص، أن يكون الباطن أفضل من الظاهر، وهذا تنبيها هاما جدا.
    لابد أن ننتبه له عند الحديث أو الكلام عن الإخلاص أو الرياء كما ذكرت، لأنه مسلك شائك، ولا ينبغي للإنسان أن يترك كثير من أعمال الخير بحجة الخوف من الرياء.
    أنتبه يا أخي الحبيب! انتبهي أيتها الأخت المسلمة!
    لا ينبغي لك ولا ينبغي لكي، أن تترك كثير من الأعمال بحجة الخوف من الرياء، أو حتى أن تفتح على نفسك باب الهواجس والوساوس، فيقع الإنسان فريسة لهذا الأمر.
    فيدخل الشيطان على القلب، فيصبح الإنسان دائما في وسواس وهواجس حول هذا الباب، ولذلك اسمع الإمام النووي رحمه الله وهو يقول كلاما جميلا جدا حول هذا الأمر المهم، في كتاب الأذكار، يقول في الصفحة الـ 8-9:
    (الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعا، فإن اقتصر على إحداهما فالقلب أفضل.
    ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوف من أن يضن به الرياء بل يذكر بهما جميعا ويقصد به وجه الله تعالى، وقد قدمنا عن الفضيل رحمه الله:
    أن ترك العمل لأجل الناس رياء).
    اسمع لهذه الكلمات واحفظها جيدا، احفظ هذه الكلمات كما تحفظ اسمك، حتى تنجو من قضية الوساوس والهواجس في الإخلاص والرياء، يقول الفضيل رحمه الله: ( ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس ، والاحتراس من ظنونهم الباطلة لأنسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين وليس هذه طريقة العارفين).
    انتهى كلامه رحمه الله تعالى وهو كلام نفيس جدا .
    واسمع لكلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى عندما يقول:
    (ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى ، أو قيام الليل، أو غير ذلك.
    فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يضع ورده المشروع لأجل كونه يسن الناس، إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا لله ، مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص).
    اسمع بعض الناس يدخل على بعض الناس من هذا الباب، فينهاه عن أمر لا يفعله أمام الناس، لماذا؟ يقول : خشيه الرياء.
    يقول ابن تيمية –رحمه الله تعالى- عن ذلك:
    (ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء فنهيه مردود عليه من وجوه:
    الأول: أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوف من الرياء، بل يؤمر بها والإخلاص فيها، فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء.
    ثانيهما: لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم- (إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق قلوبهم)..
    الثالث: إن تسويغ مثل هذا يقضي إلى أن أهل الشرك والفساد يمكرون على أهل الخير والدين، إذا رأوا من يظهر أمر مشروعا قالوا : هذا مراء فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذرا من المزعوم، فتعطل الخير. هذه كلمات جميلة جدا من ابن تيمية رحمه الله.
    الرابع: إن مثل هذا يعني إنكار الناس عمل مشروعا بحجة أنه رياء، يقول : إن مثل هذا من شعائر المنافقين ، وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال تعالى:
    الذين يلمزن المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فسيخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم. انتهى كلامه مختصر من الفتاوى .

    صور من حياة الأخفياء
    نأتي الآن وبعد هذا المشوار للب هذا الدرس، وهو صور من حياة الأخفياء وأسوق إليكم أيها الأحبة هذه الكوكبة، وهذه مواقف، وهذه الأحداث، من حياة أولئك الأخفياء.
    وهي مليئة بالدروس والعبر لمن تفكر ونظر وتدبر.
    فسير الصالحين المخلصين مدرسة تخرج الرجال والأجيال.
    ولعلي أكتفي بسرد هذه الصور ، أولا طلبا للاختصار، وثانيا حتى لا أقطع عليك لذة المواقف، والعيش معها برفعة إيمان، وسمو الروح، ورقة في القلب.
    فاسمع لهذه القصص، واسمع لهذه الأحداث:
    الأخفياء والصدقة، والقيام على الفقراء والمساكين.
    خرج عمر بن الخطاب يوما في سواد الليل واحدا، حتى لا يراه أحد، ودخل بيت، ثم دخل بيت آخر، ورآه رجل، لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه.
    رآه طلحة –رضي الله عليه وأرضاه- فضن أن في الأمر شيء أوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر لهذا البيت؟ ولماذا وحده؟ ولماذا في الليل؟ ولماذا يتسلل؟ ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟ ارتاب طلحة في الأمر، والأمر عند طلحة يدع إلى الريبة.
    ولما كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوز عمياء مقعدة، فسألها:
    ما بال هذا الرجل يأتيك؟ وكانت لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- قالت العجوز العمياء المقعدة:
    إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني، ويخرج الأذى عن بيتي. أي يكنس بيتها ويقوم بحالها، ويرعاها عمر –رضي الله عنه وأرضاه-.
    ولن نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكم من المرات فعل ذلك عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه-، فهذه الموقف ليست عجبا في حياة عمر. ولكن نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد، وفي الليل، وفي سواد الليل، ويمشي لواذا خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله .
    ومثل ذلك سار عليه أيضا زين العابدين –رضي الله عنه وأرضاه-، علي بن الحسين ، فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة:
    أن علي ابن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، ويقول:
    (إن الصدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل).
    وهذا الحديث مرفوع إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- من طرق كثيرة لا تخلوا أسانيدها من مقال، ولكنها بمجموع الطرق صحيحة، وقد صحح ذلك الألباني في الصحيحة.
    وأن عمر بن ثابت قال:
    لما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى أثار السواد في ظهره فقالوا ما هذا؟
    فقالوا كان يحمل جرب الدقيق (أكياس الدقيق) ليلا على ظهره، يعطيه فقراء المدينة.
    وذكر ابن عائشة قال: قال أبي:
    (سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين).
    رضي الله عنه وأرضاه.
    وعن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى (طرسوس).
    وكان ينزل الرقة في خان (يعني فندق)، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم يرى ذلك الشاب، وكان مستعجلا( أي عبد الله بن المبارك)، فخرج في النفير (أي إلى الجهاد).
    فلما قفل من غزوته، ورجع إلى الرقة، سأل عن الشاب.
    فقالوا إنه محبوس لدين ركبه.
    فقال عبد الله وكم مبلغ دينه ؟
    فقالوا عشرة آلاف درهم.
    فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال، فدعا به ليلا ووزن له عشرة آلاف درهم،وحلفه ألا يخبر أحد مادام عبد الله حيا، وقال إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس.
    وأدلج عبد الله (أي سار في آخر الليل).
    وأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك، وقد خرج.
    فخرج الفتى في أثره، فلاحقه على مرحلتين أو ثلاثة من الرقة.
    فقال يا فتى ( عبد الله بن المبارك يقول للفتى ) أين كنت؟.
    أنظر عبد الله يتصانع –رضي الله عنه وأرضاه- أنه ما علم عن حال الفتى فقال عبد الله المبارك : يا فتى أين كنت؟ لم أرك في الخان.
    نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين.
    وكيف كان سبب خلاصك؟
    قال : جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك.
    فلم يخبر ذلك أحد إلا بعد موت عبد الله .

    الأخفياء والعبادة.
    في الصلاة مثلا قالت امرأة حسن بن سنان:
    كان يجيء – أي حسان- فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي.
    قالت فقلت له يا أبا عبد الله، كم تعذب نفسك، أرفق بنفسك.
    فقال اسكتي ويحك ، فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا.
    وعن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة.
    وفي الصيام:
    فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير، قال الفلاس، سمعت ابن أبي علي يقول: (صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غذائه فيتصدق به في الطريق.)، وكان بعضهم إذا أصبح صائما أدهن، ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يري أنه صائم.
    وفي قراءة القرآن ، ذكر اين الجوزي في صفوة الصفوة. عن سفيان قال :
    أخبرتني مرية الربيع بن هيثم قالت: (كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه). أي إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يرى الرجل أنه يقرأ القرآن.
    الأخفياء والبكاء.
    أما الأخفياء والبكاء، فقال محمد بن واسع:
    (لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر امرأته).
    يقول رحمه الله تعالى:
    (إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم، ولقد أدركت رجال يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه).
    وذكر الذهبي في السير عن محمد بن زيد – رضي الله عنه ورحمه- قال:
    (كان أيوب السختياني في مجلس، فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام).
    يظهر-رحمه الله تعالى- أنه مزكوم لإخفاء البكاء.
    هكذا حرصهم على هذه الصفة الخفاء في الأعمال تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعاته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة.
    كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، وذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد يوم قال:(إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام).
    خفاء شديد.
    واسمع إلى هذه القصة العجيبة الغريبة، و والله لقد أدهشتني هذه القصة.
    واسمع لها يا أخي الحبيب، فهي قصة طويلة، فسر مع أحداثها وفصولها.
    واسمع عن محمد ابن المنكدر، وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة وذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن محمد بن المنكدر ، وفي ترجمته قال:
    (كانت لي سارية في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أجلس أصلي إليها الليل.
    فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا.
    فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي.
    فجاء رجل أسود، تعلوه صفرة، متزر بكساء، وعلى رقبته كساء أصغر منه.
    فتقدم إلى السارية التي بين يدي وقمت خلفه.
    فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال:
    أي رب أي رب، خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقيهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم.
    يقول ابن المنكثر: فقلت مجنون.
    قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي .يعني من كثرة المطر.
    فلم سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، ثم قال:
    ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكني عذت بحمدك، وعذت بطولك.
    ثم قال فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه ثم قام، فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس.
    ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى الباب.
    فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسطت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد، ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر.
    وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معهم.
    ثم إذا سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي واتبعه حتى دخل دار عرفتها من دور المدينة.
    ورجعت إلى المسجد فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعدا يخرز وإذا هو إسكافي.
    فلما رآني عرفني، وقال: أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة، تريد أن أعمل لك خفا ؟
    فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولى؟
    فاسود وجهه، وصاح بي، وقال: ابن المنكدر ما أنت وذلك.
    قال وغضب، قال ففرقت والله منه أي (خفت والله من غضبه).
    وقلت: أخرج من عنده الآن، فلم كانت الليلة الثالثة صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسطت إليها، فلم يجئ فقلت: أن لله ما صنعت! إنا لله ما صنعت!.
    فلما أصبحت جلس في المسجد حتى طلعت الشمس ، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح وإذا ليس في البيت شيء.
    فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟
    قلت ماله ؟ قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كسائه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج، فلم ندر أين ذهب.
    يقول ابن المنكدر:
    فلم يبقى في المدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها، فلم أجده.
    -رحمه الله- خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عُرف خرج من المدينة كلها، وهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله.
    يا أختي الحبيب يا أختي المسلمة.
    أترك لكم هذه القصة العجيبة ، أتركها لكم لتعيش معها، ولتقفوا معها، انظروا إليها وانظروا إلى أنفسكم، لنرى من أنفسنا عجبا.
    ذكر الذهبي في السير بإسناده إلى جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته ، وقد فرغ من التشهد، يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، فقال له جبير:
    (ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟
    فقال دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل يقلب عن دينه في الساعة الواحدة، فيخلع منه). وقال الذهبي في إسناده الصحيح..
    الأخفياء والجهاد.
    أما الأخفياء والجهاد ، فقد ذكر الذهبي عن أبي حاتم الرازي، قال:
    (حدثنا عبدة بن سليمان المروزي، قال كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو قلما التقى الصفان خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز.
    فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله.
    ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده سعد فطعنه فقتله.
    ( أي الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو).
    فازدحم إليه الناس ، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه ، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال (أي عبد الله أبن المبارك لعبدة بن سلمان) وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا،) يعني (يفضحنا).
    وعن عبيدة الله بن عبد الخالق قال:
    (سبى الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر الرق وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين.
    فقيل لمنصور بن عمار أحد العلماء :
    لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين، فحرضت الناس عل الغزو.
    ففعل منصور بن عمار، وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم يقول:
    إذا نحن بخرقة مسرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار، وإذا بكتاب مضمون إلى الصرة، ففك الكتاب ، فقرأه فإذا فيه:
    إني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك.
    فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتي (يعني جديلتي) فقطعتهما وصررتهما في الخرقة المختومة فأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله.
    فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال، فينظر إلى نظرة فيرحمني بها.
    قال: فبكى منصور بن عمار وأبكء الناس.
    وأمر هارون الرشيد أن نيادي بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى بالروم، وفتح الله عليه).
    وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول:
    كيف القرار وكيف يهدأ المسلم........والمسلمات مع العدو المعتدي
    الضاربات خدودهن برنة..............الداعيات نبيهن محمد
    القائلات إذا خشين فضيحة...........جهد المقالة ليتنا لم نولد
    ما نستطيع وما لها من حيلة...........إلا التستر من أخيها باليد.
    أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات، لينظرن إلى المرأة المسلمة إذا أخلصت إلى الله وكان همها العمل لله، فإنها دائما تبحث عن العمل.
    أيا كان هذا العمل لا يقف آمالها ذلك السؤال ماذا أعمل؟
    وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع ؟
    فإن من اهتم لأمر عمل وفكر بالعمل، ووجد ماذا يعمل.
    هذه المرأة عملت وسمعت واهتمت واحترق قلبها فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها، أكرم شيء في بدنها حتى يصنعوا من هاتين الجدلتين قيد فرس غازي في سبيل الله.
    وقل ماذا قدمتي أيها المسلمة للمسلمات وأنت تسمعين الروم كيف يفعلن بهن ؟
    ومذا قدمت يا أخي الحبيب؟ وماذا فعلنا؟
    وماذا فعلتي للمسلمين في كل مكان؟
    والروم وغيرهم ترون وتسمعون، بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يفعل بالمسلمات .

    الأخفياء والعلم.
    جاء في ترجمة الإمام الماوردي – رحمه الله- كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه ((وفيات الأعيان)) ، قال:
    إن الماوردي لم يظهر شيء من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه:
    (الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، فإن عاينت الموت ووقعت في النزاع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فأعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى الكتب فألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يديك فأعلم أنها قبلت ، وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة.
    قال ذلك الشخص:
    فلما قارب الموت ووضعت يدي في يده، فبسطها ولم يقبض على يدي ، فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده).
    وقبله كان الإمام الشافعي- رحمه الله- يقول:
    (وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأوجر عليه ولا يحمدوني).
    فالإمام الشافعي –رحمه الله- يظن أن حمد الناس به منقصة للأجر، ونقص من صفة الخفاء، تلك الصفة التي عشقت منهم –رحمهم الله تعالى- .
    وينقل الذهبي أيضا في السير قول هشام الدستوائي، -واسمع لهذا القول- يقول هشام:
    (والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث، أريد به وجه الله عز وجل).
    سبحان الله!! القائل هشام الدستوائي!
    يقول الذهبي معلقا على هذا الكلام:
    (والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق).
    إلى آخر كلامه الجميل في السير، في ج7ص52، لمن أراد أن يرجع إليه.
    فإذا كان هذا كلام هشام، وكلام الذهبي – رحمهما الله تعالى ورضي عنهما – فماذا يقول إذا طلاب العلم اليوم؟
    بل ماذا يقول المتعلمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى؟
    ويصل الخفاء منتهاه عند أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – رحمه الله تعالى ورضي عنه- قال محمد بن منصور:
    كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري.
    رفع إنسان قذاة من لحيته، وطرحها إلى الأرض، أي في المسجد.
    فرأيت البخاري، (أنظر إلى حركة البخاري) ينظر إليها أي القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أحرجها وطرحها إلى الأرض.
    سبحان الله! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفائها بدقة.
    رحمهم الله تعالى ورضى الله عنهم.
    هذا الموقف وهذه الصور من حياة أولئك العلام، وحياة أولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من العمل.
    الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار.
    وتلك العمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا وتكشف الصحف.
    فإذا الصحف مليئة بتلك العمال، وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل .
    والقصص وهذه الصور ليست لمجرد القصص أيها الأخ الصالح، وليست لمجرد الحديث.
    بل هي للعبرة والعضة.
    يا أخي الحبيب، أنت تجلس في المجالس، وتتحدث مع الآخرين.
    ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها ؟
    أو في الغيبة والنميمة و الكلام عن فلان وعلان!
    يا أختي المسلمة، لنعلم مثل هذه المواقف ولنحفظ شيء منها وإن كان قليلا.
    ولنملأ مجالسنا بذكرها، حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور، ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال، فيخرج الأجيال من مدارسهم -رحمهم الله تعالى- بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم..

    الأخفياء في كلمات
    قال ابن المبارك –رحمه الله تعالى- :
    ما رأيت أحد أرتفع مثل ذلك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة.
    إذن فالقضية ليست قضية كثرة الصيام ولا الصلاة وإنما بالإخلاص والإخفاء لهذه الأعمال.
    وقال ابن وهب: ما رأيت أحدا أشد استخفاء بعمله من حيوة بن شريح، وكان يعرف بالإجابة (أي بإجابة الدعاء).
    وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر.
    واسمع لقوله -رحمه الله تعالى (وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي).
    فالاجتهاد في البعد عن الرياء والتسميع وطلب محمدة الناس وثنائهم أمر كانوا يعانون منه -رحمهم الله تعالى- وقال بان القيم:
    أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص، وعن نفسك بشهود المنة، فلا ترى في نفسك ولا ترى الخلق.
    وقال الأخفياء –رحمهم الله تعالى-، وصاحوا بملء أفواههم لمن لا يخلص نيته، ولمن غفل عن هذا الأمر، صاحوا بقولهم، -كما مالك بن دينار:
    قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتعب.
    فقولوا أيها الأحبة لمن لم يكن صادقا بعمله لله جل وعلا، ومخلصا بعمله لله سبحانه وتعالى:
    لا يتعبن، لا يتعب نفسه.
    فقد رأيتم وسمعتم أولئك الثلاثة وتلك الطاعات العظيمة، التي أصبحت وابلا على أصحابها، فكانوا أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله.
    فقولوا ورددوا وصيحوا بأعلى أصواتكم لمن لم يكن صادقا في عمله، وفي دعوته، وفي أفعاله كلها: لا يتعبن، لا يتعب نفسه .

    وأخيرا كيف تكون من الأخفياء
    ما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء؟
    ما هو العلاج والوصول لطريق الأخفياء رحمهم الله تعالى؟
    ألخصه بالنقاط السريعة التالية :
    أولا: الدعاء والإلحاح فيه، ومواصلة هذا الدعاء، وتحري ساعة الإجابة.
    وأهمية الاستمرار في الدعاء، والإلحاح، والاستمرار، لاتكل ولا تمل، ولذلك قال –صلى الله عليه وآله وسلم- وعلمنا بذلك الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره، عندما قال:
    (الشرك أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم).
    أحفظ هذا الدعاء، وكرره كثير وأسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال .
    ثانيا: الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين.
    إن وجدتهم في هذا الزمن فعض عليهم بالنواجد، وإن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح، رضوان الله عليهم، بقراءة أقوالهم والنظر في الكتب والتراجم للاطلاع على تلك الأحوال، ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك .
    ثالثا: معرفة عظمة الله تعالى، معرفة الله من خلال أسمائه وصفاته.
    أعرف من تعبد وأعرف لمن تعمل، واعرف عظمة الله جل وعلا، واملأ قلبك بتوحيد الأسماء والصفات تطبيقا علميا، حتى تعظم الله، وقديما قالوا:
    من كان بالله أعرف كان لله أخوف، ومن عظم الناس خاف من الناس، وعمل للناس، وسمع للناس وطلب ثناء الناس ومحمدة الناس، ولكن الله هو الذي سيجازي وهو الذي سيحاسب .
    رابعا: أحرص أن يكون لك خبء من عمل.
    احرص دائما أن يكون لك سر بينك وبيم الله جل وعلا ، لا يعلمه أحد من الناس إن استطعت حتى ولا زوجتك.
    إن استطعت أن تعمل عمل بينك وبين الله لا يعلم عنه أقرب الأقربين إليك، فلا شك أن هذه الأعمال هي منجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
    خامسا: دائما كن خائفا من الله، دائما كن خائفا على عملك، أن لا يقبل.
    دائما كن خائفا أن يخالط هذا العمل رياء أو سمعه، مع الانتباه لذلك التنبيه المهم، الذي أشرنا إليه أثناء الموضوع، وقد تقدم الكلام عن ذلك، وأخشى أن تقدم على الله جل وعلا بتلك الأعمال المثيرة، والقوال الكثيرة، فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم:
    وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
    وقانا الله وإياك من حال أولئك.
    سادسا: وأخير تذكر ثمرات الإخلاص.
    تذكر هذه الثمرات، تذكر حلاوة القلب.
    تذكر حب أهل السماء للمخلص.
    تذكر وضع القبول له في الأرض.
    وتذكر محبة الناس له، وطمأنينة القلب، وحسن الخاتمة، واستجابة دعائه، والنعيم له في القبر وفي الآخرة.
    نسأل الله جل وعلا نعيم جناة الفردوس.
    ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا إخلاصا يخلصنا يوم أن نقف أمامه سبحانه وتعالى.
    ونستغفر الله ونتوب لله من أحوالنا ومن تقصيرنا.
    ( اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيء ونحن نعلمه ونستغفرك مما لا نعلمه).
    وسبحانك اللهم وبحمدك ، نشهد ألا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.


    ********************************************************
    لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
    بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
    - إبلاغنا عن الخطأ الإملائي أو الهجائي كي يتم التعديل.
    - نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
    - مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
    ايها الأحبة لا تحرمو نا من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
    من خلال اقتراحاتكم وتوجيهاتكم يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
    اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
    التعديل الأخير تم بواسطة نسيبة بنت كعب ; 06-05-2005 الساعة 11:24 PM

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    98
    آخر نشاط
    07-01-2011
    على الساعة
    10:26 PM

    افتراضي

    محاضرة : هكذا علمتني الحياة
    فضيلة الشيخ : علي عبد الخالق القرني



    بسم الله الرحمن الرحيم
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
    نعوذ بالله منى شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
    أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وأبن عبده وأبن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
    أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، ففتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان وسلم تسليما كثيرا.
    )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران102) )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء1) )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جناة ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
    أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عن ما في النفس:
    والنفس تعرف في عيني محدثها......... إن كان من حزبها أو من أعاديها
    عيناك قد دلتا عيني منك على......... أشياء لولاهما ما كنـت أدريها
    اللهم لا تعذب جمعا التقى فيك ولك، اللهم لا تعذب اللسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب قلوبا تشتاقُ إلى لقائك، اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظرِ إلى وجهك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
    أحسن الظن أخوتي بي إذ دعوني فأجبت الدعوة، وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة، أو كبائع التمر على أهل المدينة، أو كبائع السمك على أهل جده.
    لكني اسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيرا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وأن لا يؤاخذني بما تقولون.
    يا منزل الآيات والقرآن................ بيني وبينك حرمة الفرقان
    إشرح به صدري لمعرفة الهدى......... واعصم به قلبي من الشيطان
    يسر به أمري وأقض مآربي ........... وأجر به جسدي من النيران
    واحطط به وزري وأخلص نيتي.........واشدد به أزري وأصلح شاني
    واقطع به طمعي وشرف همتي ..........كثر به ورعي واحي جناني
    أنت الذي صورتني وخلقتني............وهديتني لشرائع الإيمان
    أنت الذي أطعمتني وسقيتني............ من غير كسب يد ولا دكان
    أنت الذي آويتني وحبوتني............. وهديتني من حيرة الخذلان
    وزرعت لي بين القلوب مودة.......... والعطف منك برحمة وحنان
    ونشرت لي في العالمين محاسنا.......... وسترت عن أبصارهم عصياني
    والله لو علموا قبيح سريرتي............ لأبى السلام علي من يلقاني
    ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.......... ولبؤت بعد كرامة بهوان
    لكن سترت معايبي ومثالبي ............وحلمت عن سقطي وعن طغياني
    فلك المحامد والمدائح كلها............. بخواطري وجوارحي ولساني

    هكذا علمتني الحياة:
    أي حياة تعلم، وأي حياة تدرس، وأي حياة تربي أيها الأحبة ؟
    أهي حياة اللهو واللعب؟
    أهي حياة العبث واللعب ؟
    أهي حياة الضياع والتيه ؟
    لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية، إنها الحياة التي تجعلك متفاعلا مع هذا الكون تتدبر فيه وتتفكر. حياة على الحق نعم الحياة......وبئس الحياة إذا لم نحق
    إنها الحياة الحقيقة، حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس.
    حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور ومات على نور ولقي الله بنور وعبر الصراط ومعه النور: ) نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ )(النور35)
    إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين، عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى.
    سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون:
    ) انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)(الحديد13)
    في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: )يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
    الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)(الحديد12)
    فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
    )أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(الأنعام122)
    كلا وألف كلا. )وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ) (فاطر:22) لا يستوي عاقل كلا وذي سفه....... لا والذي علم الإنسان بالقلم
    هل يستوي من على حق تصرفه.... ومن مشى تائها في حال الظلم
    لا يستوون أبدا.
    أحبتي في الله، الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
    فأليكم هذه الليلة أزف دروسا علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
    أسال الله أن يرزقنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة، والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن سهلا إذا شئت.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن توحيد الله هو محور الرسالات السماوية:
    ومحور حياة الإنسان الحقة، فقيمة الإنسان تظهر عندما يجعل ربه محور حياته، فيستعبد كل ذرة من ذرات جسده، وكل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناته ونفسه لله رب العالمين.
    فصلاته لله، ونسكه لله، وحياته لله، وموته لله، وشعاره:
    )قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162) وبذلك تتفق وجهة الكون مع وجهة هذا الإنسان، تتفق وجهة الإنسان مع هذا الكون الذي يعيش فيه.
    الكون - أيها الأحبة - كله مطيع لله جل وعلا خاضع لسلطان الله، مسبح بحمد الله، فإذا تمرد العبد على ربه أصبح نشازا في هذا الكون، إذا تمرد هذا العبد أصبح شاذا في هذا الكون الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخشوع والخضوع. الكون كله في اتجاه وهو في اتجاه مضاد:
    )مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم:44) خلق الله سوانا كثير وكثيُر وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم، وطاعتك أيها العبد لك، ومعصيتك أيها العبد عليك ولن تضر الله شيئا. في صحيح مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
    ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومه إلا نفسه).
    إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل....... خلوت ولكن قل علي رقيب
    ولا تحسبن الله يغفل ساعة............. ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن توحيد الله هو نقطة البداية في حياة المسلم والأمة:
    وأن التوحيد هو كذلك نقطة النهاية في حياة المسلم والأمة، من ضل عنه خسر الدنيا والآخرة، فهو أضل من حمار أهله، قلبه لا يفقه، وعينه لا تبصر، وأذنه لا تسمع بهيمة في مسلاخ بشر، حياته ضنك وسعيه مردود، وذنبه غير مغفور:
    )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48)
    ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(الحج: الآية31)
    ) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: الآية72)
    نعوذ بالله من النار.
    وفي المقابل من ضفر توحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة، وسعد الدنيا والآخرة، فسعيه مشكور وذنبه مغفور وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108) العز في كنف العزيز ومن.......... عبد العبيد أذله الله.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر.
    (وعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خيرن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.
    علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه.
    فرضي فرضيَ الله عنه، وسعد بدنياه وأخراه، واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم.
    في الموقف العظيم يوم يقول الله للناس وهم يدوكون في عرصات القيامة، يقول لأناس من بين الخلائق جميعهم:
    ادخلوا الجنة بلا حساب.
    فيقولون يا ربنا ويا مولانا قد حاسبت الناس وتركتنا؟
    فيقول قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين ادخلوا الجنة.
    فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.
    في الحديث الصحيح كما في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول:
    (ما لي عبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
    ويا له من جزاء، ما لا عين رأت ولا أذن سمعة ولا خطر على قلب بشر.
    في الحديث الصحيح كما في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول لملائكته:
    ( قبضتم أبن عبدي المؤمن، قبضتم ثمرة فؤاده –وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة نعم، فيقول وماذا قال –وهو أعلم جل وعلا- قالوا حمدك واسترجع، فيقول الله جل وعلا ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).
    ) وَبَشِّرِ الصَّابِرِين ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156) فطب نفس إذا حكم القضاء:
    ولا تجزع لحادثة الليالي........ فمالي حوادث الدنيا بقاء
    ومن نزلت بساحته المنايا....... فلا أرض تقيه ولا سماء
    مروا بيزيد أبن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي:
    ما فعلت العينان الجميلتان يا أبن هارون ؟
    فقال ذهب بهما بكاء الأسحار وإني لأحتسبهما عند الواحد القهار.
    فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضاء، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته.
    صبرت ومن يصبر يجد غب صبره......ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
    فأحرص على ما ينفعك وأرضى بما قسم الله لك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل.
    ولست بمدرك ما فات مني...........بلهف ولا بليت ولا لو أني

    علمتني الحياة في ضل العقيدة أنه كما تدينُ تدان، وكما تزرعُ تحصد، والجزاءُ من جنسِ العمل:

    ) وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف الآية49).
    حصادك يوما ما زرعت وإنما............يدان الفتي يوما كما هو دائن
    إن زرعتَ خيراً حصدتَ خيراً، وإن زرعتَ شراً حصدتَ مثلَهُ، وإن لم تزرع وأبصرتَ حاصداً ندمتَ على التفريطِ في زمنِ البذرِ.
    هاهوَ رجلُ كان له عبد يعملُ في مزرعته، فيقولُ هذا السيد لهذا العبد:
    ازرع هذه القطعةَ برا.
    وذهبَ وتركه، وكان هذا العبد لبيباً عاقلا، فما كان منه إلا أن زرعَ القطعة شعيراً بدل البر.
    ولم يأتي ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده.
    فجاء فإذا هي قد زُرعت شعيراً.، فما كان منه إلا أن قال:
    أنا قلت لك ازرعها برا، لما زرعتها شعيرا؟
    قال رجوت من الشعيرِ أن ينتجَ برا.
    قال يا أحمق أفترجو من الشعيرِ أن يُنتجَ برا؟
    قال يا سيدي أفتعصي اللهَ وترجُ رحمتَه، أفتعصي اللهَ وترجُ جنتَه.
    ذعر وخافَ واندهشَ وتذكرَ أنه إلى اللهِ قادم فقال تبتُ إلى الله وأبت إلى الله، أنت حرٌ لوجه الله.
    كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل، ولا يظلمُ ربك أحدا.
    )مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل:97) وفي المقابل:
    ( فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(القصص:الآية84)
    هاهوَ رجلٌ كان له أبُ قد بلغَ من الكبر عتيا، وقام على خدمته زمناً طويلا ثم مله وسئمه منه.
    فما كان منه إلا أن أخذه في يومٍ من الأيامِ على ظهر دابةٍ، وخرجَ به إلى الصحراْء.
    ويوم وصل إلى الصحراء قال الأبُ لأبنهِ يا بني ماذا تريدُ مني هنا ؟
    قال أريدُ أن أذبحَك، لا إله إلا الله ابنٌ يذبحُ أباه.
    فقال أهكذا جزاءُ الإحسانِ يا بني.
    قال لا بد من ذبحِك فقد أسأمتني وأمللتـني.
    قال إن كان لابدَ يا بني فاذبحني عند تلكَ الصخرةِ.
    قال أبتاه ما ضركَ أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك ؟
    قال إن كان الجزاءُ من جنسِ العمل فاذبحني عند تلك الصخرةِ فلقد ذبحتُ أبي هناك.
    ولك يا بنيَ مثلُها والجزاءُ من جنسِ العمل، وكما تدينُ تدان، ولا يظلمُ ربكَ أحدا.

    علمتني الحياة في ضل العقيدة أن العقيدة قوة عظمى:
    لا يعدلها قوة مادية بشرية أرضية أي كانت هذه القوة والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالمثال يتضح المقال.
    هاهي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤته تقابل مؤتي ألف بقلوب ملئها العقيدة.
    يقول قائل المسلمين والله ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين.
    فسل خالدا كم سيف أندق في يمينه؟
    يجبك خالد، اندق في يميني تسعة أسياف.
    وسل خالدا ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين ؟
    يجب إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.
    أنظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف فيهجموا عليهم هجمة واحدة يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لخالد:
    يا خالد إلى أين الملجئ، إلى سلمى وأجا.
    فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول لا إلى سلمى ولا إلى أجا، ولكن إلى الله الملتجأ.
    فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.
    بربك هل هذه قوة جسدية في خالد أبن الوليد؟
    لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها العقيدة وكفى.
    إن العقيدة في قلوب رجالها.............من ذرة أقوى وألف مهند
    وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر، صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله، تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وكان أسيرا في يد الصليبيين يوم ذاك. تقول الرسالة:
    يا أيها الملك الذي............. لمعالم الصلبان نكس
    جاءت إليك ظلامة............ تسعى من البيت المقدس
    كل المساجد طهرت ...........وأنا على شرفي أنجس.
    فينتخي صلاح الدين، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر ويشحذ الهمم قبل ذلك فيمنع المزاح في جيشه ويمنع الضحك في جيشه ويهيأ الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك.
    ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بأذن الله إلى حظيرة المسلمين.
    ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الأحبة ؟
    عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى من تخلى عن مبادئ صلاح الدين، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا ها قد عدنا يا صلاح الدين، ها قد عدنا يا صلاح الدين. وهم ينشدون:
    محمد مات خلّف بنات.
    فما الحال الآن أيها الأحبة ؟
    إن ما يجري هناك تتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى بلسان حاله ليصيح بالأمة المسلمة.
    هل من صلاح، هل من عمر ؟ فلا آذن تجيب ولا قلوب تجيب. أواه ......أواه.
    إني تذكرتُ والذكرى مؤرقةٌ..............مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
    أن اتجهت إلى الإسلام في بلد............. تجده كالطير مقصوصا جناحاه
    كم صرفتنا يد كنا نصرفها................وبات يملكنا شعب ملكناه
    استرشدَ الغربُ بالماضي فأرشده...........ونحنُ كان لنا ماضٍ نسيناه
    إنا مشينا وراء الغربِ نقبسُ من...........ضيائهِ فأصابتنا شظاياهُ
    باللهِ سل خلفَ بحرِ الروم عن عرب....... بالأمسِ كانُ هنا واليومَ قد تاهوا
    وانزل دمشقَ وسائل صخرَ مسجِدها......عن منً بناهُ لعل الصخرَ ينعاهُ
    هاذِ معالمُ خرسٌ كل واحدة ...............منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ
    اللهُ يعلمُ ما قلبتُ سيرَتهم يوماً.............وأخطاءَ دمعُ العينِ مجراهُ
    لا درَ درُ إمرءٍ يطري أوائله...............فخراً ويطرقٌ إن سألتُه ما هو
    يا من يرى عمراً تكسوه بردتُه.............والزيتُ ادمٌ له والكوخُ مأواهُ
    يهتزُ كسرا على كرسِيه فرقاً..............من خوفه وملوكُ الرومَ تخشاه
    يا ربي فأبعث لنا من مثلهم نفراً...........يشيدونَ لنا مجداً أضعناه
    هاهو قلب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله كان عائدا من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمة خرسان، سمع به إمبراطور القسطنطينية رومانس.
    فجهز جيشا قوامه ست مائة ألف مقاتل، والله ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملئها الخور والضعف والهون.
    جاء الخبر لأرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله.
    انظروا ووازنوا بين الجيشين، ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعمائة، هل هذه قوى جسدية ؟ إنها قوى العقيدة وكفى أيها الأحبة.
    نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال ما بين مصاب وما بين جريح قد أنهكه السير الطويل.
    فكر وقدر ونظر في جيشه أيترك هذا الجيش الكافر ليدخل إلى بلاده ويعيث فيها الفساد، أم يجازف بهذا الجيش، خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف.
    فكر قليلا ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلا:
    إن الإسلام اليوم في خطر، وإن المسلمين كذلك وإن أخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود.
    ثم صاح وإسلامهَ، وإسلامه، ها أنا ذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله.
    فما هو إلا الوحي أو حد مرهف............تقيم ظباه اخدعي كل مائل
    فهذا دواء الداء من كل عاقل.......... وهذا دواء الداء من كل جاهل
    فما هي إلا ساعة ويتكفن الجيش الإسلامي، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماوات بصيحات الله كبر، يا خيل الله اثبتي يا خيل الله اركبي، لا إله إلا الله.
    هل سمعتم بجيش مكفن ؟
    هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة ؟
    هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد ؟
    هل تخيلتم صور جيش كامل يسير إلى معركة يظن ويثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور ؟
    التقى الجمعان واصطدم الفئتان، فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوت صيحات الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله وعجلت إليك ربي لترضى.
    تطايرت رؤوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشرا أنهزم الرومان وأسر قائدهم رومانس. الله أكبر، لا إله إلا الله صدق وعده ونصر جنده.
    ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية249)
    ذهب من جند الله كثير وكثير نحسبهم شهداء، وبقي الباقون يبكون، يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد. لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله.
    أما القائد المسلم فبكى طويلا، وحمد الله حمدا كثيرا، وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه ...آه أمال لم تنل وحوائج لم تقضى وأنفس تموت بحسراتها.
    كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش.
    إن العقيدة في قلوب رجالها .......... من ذرة أقوى وألف مهند
    فتعرف يا أبن أمي في العقيدة
    يا أخ الإسلام في الأرض المديدة
    ما حياة المرء من غير عقيدة
    وجهاد وصراعات عنيدة
    فهي طوبى واختبارات مجيدة
    فانطلق وأمضي بإيمان وثيق
    وإذا ما مسك الضر صديقي
    فلأن قد مشينا في الطريق.


    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن من حفظ الله حفظه الله.
    ومن وقفَ عند أوامرِ الله بالامتثال، ونواهيهِ بالاجتناب، وحدودِه بعدمِ التجاوزَ حفظَه الله.
    من حفظَ الرأسَ وما وعى، والبطنَ وما حوى حفظَه الله.
    من حفظَ ما بين فكيه وما بين رجليه حفظَه الله.
    من حفظَ اللهَ في وقتِ الرخاء حفظَه اللهَ في وقتِ الشدةَ.
    من حفظَ اللهَ في شبابه حفظَه الله عند ضعفِ قوتِه:) فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف64).
    هاهوَ الإمامُ الأوزاعي ذلكم الإمامُ المحدثُ الورعُ الفقيه.
    حين دخل عبدُ الله ابن علي ذلكم الحاكمُ العباسيُ دمشقَ في يوم من الأيام فيقتلُ فيها ثمانيةً وثلاثين آلفَ مسلم.
    ثم يُدخلُ الخيولَ مسجدَ بني أميةَ، ثم يتبجحُ ويقول:
    من ينكرُ علي في ما أفعل؟
    قالوا لا نعلمُ أحداً غير الإمامُ الأوزاعي.
    فيرسل من يستدعيه، فعلمَ أنه الامتحان وعلم أنه الابتلاء، وعلم أنه إما أن ينجحَ ونجاحٌ ما بعدَه رسوب، وإما أن يرسبَ ورسوبٌ ما بعده نجاح، فماذا كان من هذا الرجل ؟
    قام واغتسلَ وتحنطَ وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه، ثم أخذَ عصاه في يده، ثم اتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزةِ التي لا تضام، والركنَ الذي لا يرام.
    يا من لا يهزمُ جندُه ولا يغلبُ أوليائهُ أنتَ حسبي ومن كنتَ حسبَه فقد كفيتَه، حسبي اللهُ ونعم الوكيل.
    ثم ينطلقَ وقد اتصلَ بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذلك الحاكم.
    ذاك قد صفَ وزرائَه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها.
    قال فدخلت وإذ السيوف مصلته، وإذ السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع.
    قال فدخلت ووالله ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزا والمنادي ينادي:
    فريق في الجنة وفريق في السعير.
    فوالله ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا.
    قال فأنعقدَ جبينُ هذا الرجل من الغضب ثم قال له أأنتَ الأوزاعي ؟
    قال يقولُ الناسُ أني الأوزاعي.
    قال ما ترى في هذه الدماء التي سفكناها ؟
    قال حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جَدُك أبن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أي هريرة وعن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
    ( لا يحلُ دمُ امرأ مسلمٍ إلا بأحدِ ثلاث، الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة).
    قال فتلمظَ كما تتلمظُ الحيةَ وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لألا يصيبَهم دمي، ورفعتُ عمامتي ليقعُ السيفُ على رقبتي مباشرة.
    وإذ به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموالِ التي أخذنا ؟
    قال سوفَ يجردُك اللهُ عرياناً كما خلقَك ثم يسأُلك عن الصغيرِ والكبيرِ والنقيرِ والقطميرِ، فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
    قال فأنعقدَ جبينُه مرة أخرى من الغضبِ وقام الوزراء يرفعون ثيابهم وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة.
    قال وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول أخرج.
    قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزا.
    ذهب وما كان منه إلا أن سار بطريقه حتى لقيَ الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى.
    ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي ووقف عليه وقال:
    والله ما كنتُ أخافُ أحداً على وجهِ الأرضِ كخوفي هذا المدفونُ في هذا القبر.
    واللهِ إني كنتُ إذا رأيتُه رأيتُ الأسدَ بارز.
    اعتصمَ بالله وحفظَ اللهَ في الرخاء فحفظَه اللهُ في الشدة:
    ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
    والأمثلة كثيرة أيها الأحبة.
    وما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء.
    يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة.
    ولا بد من الابتلاء: )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) هاهوَ الأسودُ العنسيُ ذلكم الساحرُ القبيحُ الظالمُ الذي ادعى النبوةَ في اليمن:
    يجتمعُ حولَه اللصوصُ وقطاعُ الطرق، ليكونُ فرقةً تسمى فرقةُ الصدَ عن سبيلِ الله، ليذبحَ الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرقَ منهم من أحرق، وطردَ منهم من طرد، وهتكَ أعراضَ بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلمٍ الخولاني عليه رحمةُ الله ورضوانه.
    عذبَه فثبتَ كثباتِ سحرةِ فرعون، حاول أن يثنيَه عن دعوته قال كلا والذي فطرني لن أقف فأقضي ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
    فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها وقال لهم:
    إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، إن كان على غيرِ ذلك فسترون.
    ثم أمرَ بنارِ عظيمةِ فأضرمت، ثم جاءَ بأبي مسلم الخولاني عليه رحمة الله فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم
    نسفوه في لهيب النار ولظاها، وإن هذه النار كما يقولون كان يمر الطير من فوقها من عظم ألسنة لهبها فتسقط الطيور في وسطها. وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا وكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
    ليسقطَ في وسط النار، وكادت قلوبُ الموحدين أن تنخلع وكادت أن تتفطر، وانتظروا والنارُ تخبو شيئاً فشيئاً وإذ بأبي مسلم قد فكتُ النارُ وثاقَه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهدد هم ويتوعُدهم.
    أما هذا الرجل فأنطلق إلى المدينة النبوية، إلى أصحابِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) في خلافةِ أي بكر، ويصلُ إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمعُ عمرُ رضي الله عنه بهذا الرجلِ، فينطلقُ إليه يأتي إليه ويقول:
    أأنت أبو مسلم قال نعم.
    قال أنت الذي قذفت في النارِ و أنقذك اللهُ منها ؟
    قال نعم، فيعتنقُه ويبكي ويقول الحمد لله الذب أراني في أمةِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) من فعلَ به كما فعلَ بإبراهيم عليه السلام.
    من حفظَ أبا مسلم ؟
    إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظَه الله. ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
    وها هو أبن طولون والي من ولاة مصر ولا زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، نسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان، هذا الوالي - يا أيها الأحبة - قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقتلهم بقتلة هي أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعا وعطشا، فسمع أبو الحسن الزاهد عليه رحمة الله، فأقض مضجعه أن يسمع بأخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول:
    (أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر).
    ذهب إليه وقال له أتق الله في دماء المسلمين وخوفه بالله.
    فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن في سجن وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام.
    ثم جاء فجمع الناس جميعهم وجاء بهذا الرجل، وأطلق ذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام.
    قام هذا الرجل يصلي متصلا بالله الذي لا إله إلا هو، أما الأسد فأنطلق حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها.
    فما كان من الناس إلا أن ذهلوا وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام.
    من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء.
    ما كان من الناس إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا:
    يا أبا الحسن في ما كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد ؟
    قال والله ما فكرت قي ما فيه تفكرون، ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي ألعاب الأسد نجس أو طاهر لأن لا ينقض وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو.
    حفظوا اللهَ فحفظَهم الله، ما اعتصمَ عبدُ بالله فكادتُه السماءُ والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجا.
    اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك الله أن نغتال من تحتنا.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن الظلمَ مرتَعهُ وخيمٌ.
    وأن الظلمَ يفضي إلى الندم، وأنهُ ظلماتٌ يومَ القيامة.
    وأن الله لا يغفلُ عما يعملُ الظالمون، لكن يؤخرُهم ليومٍ تشخصُ فيه الإبصار.
    في الحديثِ القدسي يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يقول الله :
    ( يا عبادي إنيِ حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرما فلا تظالموا).
    وظلموا ذوي القربى أشد مضاضة........على المرء من وقع الحسام المهند.
    ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن:
    نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم، فاجتمعوا وعقدوا مؤتمرا لهم وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا، ونعوذ بالله منه.
    فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه، يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر.
    فما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل والراضي كالفاعل. أي ظلم أيها الأحبة وأي ظلمات أن يقع الأب على أبنته أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه ؟ إنه والله الظلم والظلمات.
    ماذا كانت النتيجة وماذا كان منهم.
    يرسل الله عز وجل جندي من جنوده : ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر:31).
    يخرج عليهم نمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الأخر.
    فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت فسرق من أموالهم ما سرق وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين وحفر له تحت صخرة من الصخرات وعلمه بهذه الصخرة وذهب هاربا إلى مكة.
    ولم يبقى في تلك القرية إلا النساء.
    بقي ذلك الرجل في مكة ردحا من الزمن، قيل أنه عشرون سنة أو أكثر من ذلك.
    فما كان منه بعد عشرين سنة وقد تذكر ذلك الذي حصل إلا أن أرسل واحد من أهل مكة، ما استطاع هو بنفسه أن
    يرجع إلى هناك، وقال أذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا خذه
    وأتنا به ولك كذا وكذا.
    ذهب الرجل على وصفه وسأل على المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة، وكان ذلك الرجل أمينا فلم يغير
    فيه ولم يبدل بل أخذه كما هو وجاء به إلى مكة.
    وعندما فتحه ذلك الرجل وإذ بنملة على ظهره فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت.
    )وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (ابراهيم:42) وهاهوَ المعتمدَ حاكمُ بعضِ ولايةِ الأندلس:
    ذلكم الشجاعُ القويُ المترف، يستعينُ به حاكم ولاية مجاورة التي غزى عليها أحدُ أعدائه، فيسرعُ المعتمدُ لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحورا لما رأى جيوش المعتمد.
    هنا انتهت مهَمةُ المعتمد، لكنَه في ظلام الليل يقوم ليبثَ جيوشَه في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتلُ المدينة، ويالها من مجير: والمستجير بعمر عند كربته........كالمستجير من الرمضاء بالنار
    أصيب ذلك الحاكم بصدمةٍ عنيفةٍ شُل منها، قبضَ عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع لسجن، وسبيت زوجاتُه وبناتُه، ثم أخرج من ولايته مهانا ذليلا، يقول أبوه:
    والله إن هذا بسبب دعوة مظلومٍ ظلمناه بالأمس، ثم يرفعُ يديه إلى من لا يغفل عن ما يعملُ الظالمون قائلا:
    اللهم كما انتقمتَ للمظلومين منا، فأنتقم لنا من الظالمين.
    وتصعدُ الدعوة إلى من ينصرُ المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة ينام والمظلوم يدعُ عليه وعينُ اللهِ لم تنمِ، وتجتاحُه دولةُ المرابطين في ليلةٍ من الليالي وتأسرُه في أخرِ الليل:
    يا راقدَ الليلِ مسروراً بأولِه........... إن الحوادثَ قد يطرقنَ أسحارا
    ويقضي حياتَه في أغمات في بلاد المغرب أسيرا حسيرا كسيراً، وأصبحَ بناتُه المترفاتُ الآتي كنا يخلطُ لهن التراب بالمسكِ ليمشينَ عليه، أصبحن حسيراتٍ يغزلنَ للناس الصوفَ، ما عندَهن ما يسترن به سوءتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجنِ يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعرا:
    في ما مضى كنتُ بالأعيادِ مسرورا............ فساءكَ العيدُ في أغمات مأسورا
    ترى بناتِك في الأطمارِ جائعة................. يغزلنَ للناسِ ما يملكنَ قطميرا
    برزنَ نحوكَ لتسليم خاشعةً................... أبصارُهن حسيراتٍ مكاسيرا
    يطأنَ بالطينِ والأقدام حافية...................كأنها لم تطىء مسكاً وكافورا
    من باتَ بعدك في ملكٍ يسرُ به................فإنما بات بالأحلامِ مغرورا
    كم من دعوةِ مظلومٍ قصمت ظهر طاغيةٍ، والعدل أساس الملك ولا يظلمُ ربُك أحد.
    هاهوَ حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا، وما عذبوهم إلا أن أمنوا بالله، يقول لهك متبجحا:
    أين إلهكم الذي تستغيثون لأضعنه معكم في الحديد – جل الله وتبارك سبحانه وبحمده -.
    ويخرجَ ويركبَ سيارتَه وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنةٍ ليدخل الحديدُ في جسده فلا يخرجونَه منه إلا قطعة قطعه.
    ( إن اللهَ ليملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يفلتِه).
    )وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) لما أهينَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ اللهِ من قبل أبن أبي دؤاد، رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال:
    (اللهم إنه ظلمني ومالي من ناصرٍ إلا أنت، اللهم أحبسهُ في جله وعذِبه).
    فما ماتَ هذا حتى أصابه الفالج فيبست نصف جسمه وبقي نصف جسمه حي.
    دخلوا عليه وهو يخورُ كما يخور الثور ويقول:
    أصابتني دعوةُ الإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد. ثم يقول واللهِ لو وقعَ ذبابُ على نصفِ جسمي لكأنَ جبال الدنيا وضعت عليه، أما النصف الآخر فلو قرضَ بالمقاريض ما أحسستُ به.
    فإياك والظلم ما استطعت، فظلم العباد شديد الوخم.
    في الأثر أن الله عز وجل يقول:
    (وعزتي وجلالِ لا تنصرفون اليوم ولأحدٍ عندَ أحدٍ مظلمةٌ، وعزتي وجلالِ لا يجاورَ هذا الجسرَ اليومَ ظالم).
    لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مقتدرا.............فالظلمُ آخره يفضي إلى الندمِ
    تنامُ عينُكَ والمظلوم ُمنتبهاً................ يدعُ عليك وعينُ اللهِ لم تنمِ

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن البناء جد صعب، والهدم سهل جد سهل.
    فما يبنى في مئات الأعوام من المدن والقرى والقصور والدور يمكن هدمه في لحظات، وما يبنى من الأخلاق والقيم والمثل في قرون يمكن هدمه أيام وليالي.
    ما رأيكم أيها الأحبة إن كان هناك ألف باني وورائهم هادم واحد هل يقوم البناء ؟
    كلا لا يمكن أن يقوم، فما رأيكم إن كان الباني واحدا والهادم ألفا:
    أرى ألف بان لا يقوموا لهادم.............فكيف بباني خلفه ألف هادم.
    وسائل في غالبها تهدم ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين، لكن الحق يعلو والباطل يسفل:
    فهل يستقيم الظل والعود أعوج.
    أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمو.............قد ضل من كانت العميان تهديه

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أيئس وأن لا أقنط.
    وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه، فلا ييئس من روح اله إلا القوم الكافرون. )قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56) لو تأملت أخي الحبيب قصة نوح عليه السلام الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، ولم يزدهم دعائه إلا فرارا، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا،والدعوة لمدة تسع مائة وخمسين عاما، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل:
    قيل اثنا عشر وغاية ما قيل أنهم ثمانون بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحد أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحد، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.
    يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في الصحيح:
    (يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه أحد).
    ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    وهاهم أصحاب قرية إنطاكية يرسل الله لهم رسولين فكذبوهما فعززنا بثالث فكذبوه، ثالثة رسل إلى قرية واحدة ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة:
    )قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (يّـس:26) أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، وتحاول صعود الجدار مرة فتسقط، ثم تحاول أخرى فتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثا وأربعا حتى تصعد الجدار.
    أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة ؟.
    أيها الأحبة (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين).
    إن الله جل وعلا يقول: )أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:20) ثم ماذا قال بعدها ؟ )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية:21) وكأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله:
    أن يأخذوا صبر الأبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك:
    )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)
    ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.
    هاهو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته، فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاما ولا شرابا، ويأس من الحياة فقام ينشد:
    إذا شاب الغراب أتيت أهلي............وصار القار كاللبن الحليب
    لا يمكن أن يكون القار كاللبن، ولا يمكن أن يشيب الغراب، ومعنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت.
    وإذا بهاتف يهتف ويقول:
    عسى الكرب الذي أمسيت فيه...............يكون ورائه فرج قريب
    وبينما هو يسمع هذا النداء وإذ بسفينة تمر فيلوح لها فتأتي وتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا:
    عسى فرج يأتي به الله إنه.............له كل يوم في خليقته أمر
    إذا لاح عسر فأرجو يسؤ فإنه.........قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
    ولن يغلب عسر يسرين، فأعمل أخي لا تيئس وأبذر الحب.
    فعليك بذر الحب لا قطف الجنى..........والله للساعين خير معين
    ستسير فلك الحق تحمل جنده.............وستنتهي للشاطئ المأمون
    بالله مجراها ومرساها فهل.................تخشى الرد والله خير ضمين
    ولنا بيوسف أسوة في صبره..............وقد ارتمى في السجن بضع سنين
    لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى...........وطغى فإن يقين قلبي أكبر
    في منهج الرحمان أمن مخاوفي............. وإليه في ليل الشدائد نجأر

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أنظر في أمور دنياي إلى من هو تحتي فذلك جدير أن لا أزدري نعمة الله علي.
    وأن أنظر في أمور آخرتي لمن هو فوقي فأجتهد اجتهاده لعلي الحق به وبالصالحين، فلا أحقد على أحد ما استطعت، ولا أحسد أحدا ما استطعت.
    يقول أحدهم عن أبن تيمية عليه رحمة الله:
    (وددت والله أني لأصحابي مثله –يعني أبن تيمية- لأعدائه وخصومه، يقول:
    والله ما رأيته يدعو على أحد من خصومه بل كان يدعو لهم، جئته يوما مبشرا بموت أكبر أعدائه، قال:
    فنهرني واسترجع وحوقل وذهب إلى بيت الميت فعزاهم، وقال إني لك مكان أبيكم فسألوا ما شئتم، فسروا به كثيرا ودعوا له كثيرا وعظموا حاله ولسان حالهم والله ما رأينا مثلك).
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمو .......لطالما ملك الإنسان إحسان
    لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب...... ولا ينال العلا من طبعه الغضب
    ماذا استفاد الحاقدون ؟ ماذا استفاد الحاسدون ؟

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    98
    آخر نشاط
    07-01-2011
    على الساعة
    10:26 PM

    افتراضي

    ما استفادوا إلا النصب وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات.
    ووالله لن يردوا نعمة أنعم الله على عبد أي كان، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
    أصبر على مضض الحسود...... فإن صبرك قاتله
    كالنار تأكل نفسها............إن لم تجد ما تأكله

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن من عرف الحق هانت عندَه الحياة.
    فيتعالى على مُتع الحياة وزخارفِها لأنه ينتظرُ متعةً أبديةً سرمدية في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
    فيقدمُ مراد على شهواتِه ولذائذه،ويقدم مراد الله على كل ما يلذ لعينه وما يلذ لقلبه فيسعدُ في دنياه ويسعدُ في أخراه.
    في الأثر أن الله جل وعلا يقول:
    ( وعزتي وجلاليِ ما من عبدٍ آثرَ هوايَ على هواه ( أي قدم مرُاد الله على لذائذ نفسه) إلا أقللتُ همومَه، وجمعةُ له ضيعتَه ونزعتُ الفقرَ من قلبِه، وجعلتُ الغناء بين عينيه، واتجرتُ له من وراءِ كلِ تاجر).
    هاهوَ أحدُ صحابة أحدُ صحابةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، دميمُ الخِلقة، لكنه رجلُ أعطاه اللهُ من الإيمانِ ما أعطاه، وما ضرَه أنه دميمُ الخِلقة.
    تقدم ليتزوجَ من أحد البيوت، وكلما تقدم إلى بنت رفضته لأنه دميمُ الخلقةَ ولأنه قصير لا ترغبُ فيه النساء.
    فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يشكو أصحابَه ويقول:
    يا رسولَ الله أليسَ من أمن بالله وصدقَ بك يدخلُ الجنة ويزوجُ من الحورِ العين ؟
    قال بلى، قال فمالُ أصحابكَ لا يزوجوني.
    قال اذهب إلى بيتِ فلان وقل لهم رسولُ اللهِ يطلبُ ابنتَكم.
    فذهبَ إلى بيتِ رجلٍ من الأنصار، وطرق الباب عليهم فخرجَ صاحبُ البيت فسلم عليه وقال:
    رسولُ اللهِ يطلبُ ابنتَكم.
    قالوا نعم ونعمةٌ عين من لنا بغير رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أي نسبٍ نريدَه غيرَ هذا النسب.
    قال لكنَه يطلبُها لي أنا.
    فقال اللهُ المستعان، ثم ذهب ليستشير زوجه، فأخبرها بذلك فقالت رسول الله يطلب ابنتنا نعم ونعمة عين.
    قال لكنه يطلبها لفلان وسماه بأسمه.
    فما كان منها إلا أن ترددت وقالت أما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان ألم يجد رسول الله غير هذا.
    وكانت البنتُ التقيةُ العابدة الزاهدة التي تقدمُ مراد اللهِ على لذائذ وشهوات النفس تسمع ذلك، فخرجت إليهم وقالت:
    ما بكم؟
    قالوا إن رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يطلبكِ لفلان، قالت وما تقولان ؟
    قالوا نستشير ونرى، قالت أتردانِ أمرَ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، أين تذهبانِ من قول الله:
    )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب36)
    ادفعوني إليه فإن الله لا يضيعني.
    ويسمعُ الرجل وينتقل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ويخبرُه الخبر .
    وتبرقُ أساريرُ وجهُه (صلى الله عليه وسلم) ويفرحُ بها، ويدعو لهذه المرأة ففازت بدعوته (صلى الله عليه وسلم).
    قيل أن المال كان يأتيها لا تعلمُ من أين يأتيها.
    وفي ليلةِ الزفاف ليلةِ الدخول وإذ بمنادي الجهاد ينادي أن يا خيل الله أركبي.
    هنا يقف موقف أيدخلُ على زوجتهِ في أولِ ليلة في كاملِ زينتِها، أم يجيبَ داعي الله جل وعلا.
    فما كان منه إلا أن تركَ هذه البنت وأنطلقَ يطلبُ الحور العين، وانتهت المعركة.
    وقام النبي (صلى الله عليه وسلم) يتفقدُ أصحابه، فيقول هل تفقدون من أحد؟
    قالوا نفقدُ فلاناً وفلاناً وفلانا وما فقدوا هذا الرجل خفي تقي.
    قال هل تفقدون من أحد ؟، فقالوا نفقدُ فلاناً وفلاناً وما فقدوه.
    فما كان منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن قال لكني أفقدُ أخي جليبيب، قوموا معي لنطلبه في القتلى.
    ذهبَ يبحثُ عنه (صلى الله عليه وسلم)، ووجدَه قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه.
    فأخذَه (صلى الله عليه وسلم) على ذراعيه ومسحَ التراب عن وجهه وقال قتل سبعة من المشركين وقتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه.
    لا إله إلا الله ماذا قدمَ هذا الرجل ؟ قدمَ قليلاً وأخذَ كثيراً وكثيراً وكثيرا.
    وها هو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثنى على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له كيف أولاده وزوجته ؟
    قال لقد تحولت زوجته بالأمس إلى منزل آخر، والله ما رأيتها خلال إثني عشر عاما وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت، وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام.
    يعيش معها ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد لأنه يعلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
    (الحمو الموت، الحمو الموت).
    لقد آثر أن يكون خطيب جامعا عن أن يكون رئيسا للقضاة في عهده رحمه الله.
    هاهوَ صاحبيٌ أسمه أبو لبادةَ يختلفُ مع يتيمٍ على نخلةٍ كانت بين بستانينِ لهما، يدعي اليتيمُ الصغير أن هذه النخلةَ له، فيخرجُ النبيُ (صلى الله عليه وسلم) ليعاين المكان، فإذا النخلةُ في بستانِ الصحابي أبي لوبادة فيحكمُ بها لهذا الصحابي فتذرفُ دموع اليتيم، ما كان الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) أن يغيرَ حكمَه أبدا لأنه العدل والحقُ، لكنَه أعلنَ عن مسابقةٍ قال لأبي عبادة أتعطيه النخلةَ ولك بها عذقٌ في الجنة ؟
    لكنه كان مغضباً إذ كيف يشكوه والحقُ له، كان في المجلسُ أبو الدحداج عليه رحمة الله وهو رجل يبحثُ عن مثلِ هذه الأمنية فقال: يا رسول الله ألي العذقُ في الجنة إن اشتريتُ نخلته بحديقتي وأعطيتُها هذا اليتيم ؟
    قال لك العذق، فما كان من أب الدحداح إلا أن لحقَ بأبي لبادةَ رضي الله عنه وقال له أتبيعُني النخلةَ بحديقتي كلها ببستاني كُله ؟
    قال بعتك إياها لا خيرَ في نخلةٍ شكيتُ فيها لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فباعه إياها.
    فذهبَ أبو الدحداح ودخل ونادى على أم أبي الدحداد وأولاد أبي الدحداح أن أخرجوا فقد بعناها من الله بعذقٍ في الجنة، حتى قيل أن بعض أطفالهِ في أيديهمُ بعض الرطب فكان يأخذَه ويقول قد بعناه من الله ويرميه في البستانَ.
    خرج ولم يكتفِ بذلك ولم يرضى ثمنا للجنة إلا أن يقدم دمَه ليزهق في سبيل الله عز وجلِ.
    وتأتي موقعة أحد، ويشارك الجيش ويكون الرسول فيها في حالة تعلمونها في آخر المعركة وقد شج وجهه وكسرت رباعيته بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).
    ولم ينسى أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر فإذا هو بأبي الدحداح فيمسحُ التراب عن وجهه ويقول:
    يرحمُك الله، كم من عذقٍ مذللٍ الآن لآبي الدحداح في الجنة.
    ماذا خسر أبو الدحداح ؟
    خسر تراب، وشجيرات ونخيلات، لكنه فاز بجنةٍ عرضها الأرضُ والسماوات. وذلك هو الفوز، ومن عرف الحق هانت عنده التضحيات.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أحقر شيء مهما قل:
    بل أتعلم وأعمل وأدأب وأداوم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأحب العمل إلى الله ادومه وإن قل، والقليل إلى القليل كثير وإنما السيل اجتماع النقط: اليوم شيء وغدا مثله....... من نقب العلم التي تلتقط
    يحصل المرء به حكمة........ وإنما الشي اجتماع النقط


    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحسن الظن بالمؤمنين:
    وأن أحملهم على خير المحامل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ذلك الخلق الذي لا يتصف به حقا إلا المؤمنون:
    )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35) ها هو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا (صلى الله عليه وسلم) شهرا من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب بعد أن تنـزلت البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب ارأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟
    قالت لا والله، قال فوالله لعائشة خير منك وخير من نساء العالمين.
    قال يا أبا أيوب ارأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن ن تفعل ما رمي به صفوان ؟
    قال لا والله، قالت فصفوان واله خير منك.
    إحسان ظن بالمؤمنين وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والذي بقيت وقتا من الزمن لا يرقأ لها دمع، دموعها وقلبها يتفطر، تسمع رجلا يسب حسان لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول دعوه، أليس هو القائل:
    فإن أبي وولده وعرضي..........لعرض محمد منكم وقاء

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعداء الأعداء من لا يواجهك.
    وإنما يغدر بك ويقتلك ويتقمص شخصك، ويتقمص عملك أحيانا لينقض عليك وهو يتبسم وهذا هو أشرس الأعداء، وهو أقوى الأعداء ظاهريا وإلا ففي باطنه فهو على شرف حرف هار.
    إذا رأيت نيوب الضبع بارزة........... فلا تظن أن الضبع يبتسم
    إنه النفاق والمنافقون:
    إن النفاق لآفة فتاكة إن.......... أهملت أدت إلى الأسقام
    وقضت على آمالنا في أمة........ راياتها في البحر كالأعلام
    المنافقون ذلكم السوس الذي ينخر في جسد الأمة المسلمة منذ عهد النبوة وإلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما يريدون أن يتكلم داعية، ما يريدون أن يؤمر بمعروف ولا أن ينهى عن فاحشة فقبحهم الله وأرداهم في الحافرة.
    إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الذين من دون إذا هم يستبشرون.
    لهم ألف وجه بعد ما ضاع وجههم.......... فلم تدري فيها أي وجه تصدق
    ملعونين أينما ثقفوا فهم في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيرا.
    إن المنافقين جراثيم تسمم وبكتيريا عفونة يتربصون بالمؤمنين الدوائر، خذلوا المؤمنين في أحد وتبوك، ولا زالوا يخذلونهم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لسان حالهم:
    لن تستريح قلوبنا إلا إذا........... لم يبقى في الأرض الفسيحة مسلم
    يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون قائدهم وكبيرهم ومنظرهم الذي علمهم الخبث أبن سبأ الذي ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأندس في الصفوف على أنه مسلم، وكم من مندس في الصفوف على أنه مسلم:
    ولو كان سهما واحدا لاتفيته.......... ولكنه سهم وثاني وثالث
    يدير رحاها ألف كسرى وقيصر........وألف مدير للمدير مدير
    تقولون من هم؟
    نقول: ) وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )(محمد30).
    ظهر هذا الرجل في عهد عثمان وقام يجوب البلدان ليجمع قطاع الطرق والمفسدين ليكون عصابة من المنافقين وبعض المغفلين ليفسد نفوسهم على عثمان رضي الله عنه، وقد نجح إلى حد ما، ونجاحهم دائما مؤقت. وهو خسارة وإنما تسميته بالنجاح من باب تسمية اللديغ بالسليم.
    حتى أنه ليأتي في يوم من الأيام مع عصابته ليدفعهم ليحاصروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته.
    ولينفردوا به ليضربه الغافقي بحديدة معه، ثم بضرب المصحف برجله وهو يقرأ منه رضي الله عنه ليستدير المصحف ويستقر مرة أخرى بين يدي عثمان، ويتخضب بالدماء .
    ويغشى عليه ويجر برجله رضي الله عنه وأرضاه، ويأتي أحدهم في سيفه يريد وضعه في بطنه فتقيه إحدى الناس بيدها فيقطع يدها قطع الله دابره.
    ثم يتكأ بالسيف على صدر عثمان، وبينما هو كذلك إذ وثب شقي آخر على صدر عثمان وبه رمق رضي الله عنه فطعنه تسع طعنات قائلا: أما ثلاث منها فلله وأما ست فلشيء كان في صدري عليه.
    ثم يثب آخر عليه فيكسر ضلعا من أضلاعه، فلا إله إلا الله.
    إنها مجزرة دموية يدبرها السبئيون في كل مكان وفي كل زمان يريدون قطع رأس هذا الدين وكسر أضلاع معتنقيه، والمبرر أنها لله، ولو صدقوا لقالوا: ستا منها لما في الصدور.
    ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة30)
    وبصيحة لله الصادرة من المنافقين في كل زمان ضاع كثير من شباب المسلمين، وثبط شباب آخرون وكشفت أسرار وملأت سجون وكلها لله كما يزعمون ولو صدقوا وأنصفوا لقالوا:
    ستا منها لما في الصدور، وولله إنها كلها لما في الصدور.
    حتى عثمان وهو يُذهب به ليدفن يرجم سريره ويحاول أن يمنع من الدفن في البقيع، ويقتل معه عبدان كان يدافعان عنه ويرمى بهما لتأكلهما الكلاب ولما تدفن جثثهم بعد.
    أنظر أخي الكريم كيف وصلت الأمور بالمنافقين إلى أن يقدموا جثثا أعزها الله طعاما للكلاب.
    لهم أشد على المؤمنين من الكلاب والنصارى.
    )ْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون:4) ولا إله إلا الله، يقول الحسن:
    لو كان للمنافقين أذنابا لما استطعنا أن نمشي في الطرقات.
    قوله على عهده رضي الله عنه وأرضاه، فما نقول نحن الآن، لكن نقول كل سيلقى الله بسريرته وعلانيته وعندها يتبين من بكى ممن تباكى.
    يذكر أأمتنا أن رجلا تاب من عمل كان يقوم به وهو من أرذل الأعمال، كان يأتي على قبر الميت في أو ليلة من لياليه فيفتح القبر ويسرق الكفن ويذهب ليبيعه، هذه حالته لفترة طويلة ثم ترك هذا العمل فسأل:
    قيل له لما تركت هذا العمل؟
    قال والله لقد فتحت ألف قبر من قبور أهل القبلة فما وجدت واحدا منهم موجه إلى القبلة، وأنا أفتحه في أو ليلة من ليالي الدفن.
    فما الذي حوله عن القبلة؟ ما الذي حوله عن ذلك إلا ما كان يظهره هنا ويسر، ما كان يخادع به هنا ظهر هناك.
    بيننا وبينهم يوم تبلى السرائر، بيننا وبينهم يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.
    وأقول مع ذلك:
    فتنبهوا يا معشر الإسلام من............ أحلامكم فالضعف في الأحلام
    لا تغفلوا عن حاقد يقضان يرقب....... نومكم كالوحش في الأجام
    حرب المعاصي والنفاق صراحة......... ليست سوى حرب على الإسلام
    لا تقل زال عصر النفاق، فلكل عصر رجاله:
    ما زال فينا ألوف من بني سبأ..........يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا
    ما زال لأبن سلول شيعة كثروا........أضحى النفاق لهم وسما وعنوانا
    لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه......رب إذا قال كن في أمره كانا
    ) وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(آل عمران120)
    والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون........... لا شيئا يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون
    لو مر واحدهم على فرعون يجتز الرؤوس...... لأراك في لإفصاح هارون وبالإقدام موسى
    )َّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون8)

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أنه لا نجاح للدعوة ولا ثمرة لها إن نحن أعطينها فضول أوقاتنا.
    إذا لم ننسى معها طعامنا وشرابنا وراحتنا، إذا لم نجند كل طاقاتنا فلن نفلح في إيصال الأمانة التي كلفنا الله بها.
    يقول (صلى الله عليه وسلم): (بلغوا عني ولو آية).
    لم يدع فرصة لكسول ولا لخامل ولا لتنبل ولا لبطال، بلغوا عني ولو آية.
    ألا فليكن الوجود للإسلام، والرسالة الإسلام والهوية الإسلام، له نحي وبه نحي وعليه نموت، حزننا لله وغضبنا لله ورضانا لله، حياتنا لله، ومماتنا لله لسان حال الواحد منه:
    قد اختارنا الله في دعوته.........وإنا سنمضي على سنته
    فمنا الذين قضوا نحبهم......... ومنا الحفيظ على ذمته
    ها هو نوح يدعو ويسعى كما سمعتم لا يفتر ولا ييئس بالليل والنهار لمدة تسع مائة وخمسين عاما، ماذا بقي من حياة نوح لم يسخر للدعوة إلى الله، وما النتيجة كما سمعتم لم يؤمن معه لا قليل.
    رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحمل هم هذا الدين ويدخل الهم به حتى يواسيه ربه سبحانه بقوله:
    ) فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات)(فاطر: من الآية8)
    يريد حياتهم ويريدون موته، يريد نجاتهم ويريدون غرقه، يأخذ بحجزهم وهم يتهافتون كالفراش على النار.
    ثم أنظر من بعده إلى صحابته رضوان الله عليهم تجد حياتهم قد أوقفت لله رب العالمين، في اليقظة يعملون لهذا الدين، في الليل يعملون لهذا الدين، أمانيهم لخدمة هذا الدين، لم تكن حول قضايا شخصية ولا هموما أرضية، يجمع عمر أصحابه يوما من الأيام ويقول تمنوا:
    فيقول أحدهم أتمنى أن يكون معي ملئ هذه البيت جواهر فأنفقها في سبيل الله.
    ويقول الآخر أتمنى أن يكون معي ملئ هذا البيت ذهبا أنفقه في سبيل الله.
    فيقول عمر لكني أتمنى أن يكون معي ملئ هذا البيت رجالا أستعملهم في طاعة الله.
    حملوا هم هذا الدين:
    لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم.......... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
    لكن هل أعجبتك خصالهم ؟
    إذا أعجبتك خصال أمرء ........ فكنه يكن منك ما يعجبك
    فليس على الجود والمكرمات...... إذا جئتها حاجب يحجبك
    ليسأل كل واحد منها نفسه كم جعل من وقته للدعوة إلى الله ؟
    ماذا قدم لدين الله عز وجل ؟
    ماذا قدم لنفسه ؟
    كم اهتدى على يديه ؟
    إن الإيجابيات واضحة ومخجلة.
    لم نعطي للدعوة سوى فضول أوقاتنا، وسوى فضول جهودنا إلا عند من رحم الله.
    لكن الفرصة لا زالت قائمة فجد واجتهد عبد الله، وسارع فستبقى طائفة على الحق منصورة فجند نفسك أن تكون في ركاب هذه الطائفة:
    لأن عرف التاريخ أوسا وخزرج.......... فلله أوس قادمون وخزرج
    وإنا لندعو الله حتى كأنما.................نرى بجميل الظن ما الله صانع


    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن صوت الحق لا يخمد أبدا إذ هو أبلج، والبطل زبد لجلج.
    الباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة.
    والحق يعلو والآباطل تسفل.......... والحق عن أحكامه لا يُسأل
    وإذا استحالت حالة وتبدلت.......... فالله عز وجل لا يتبدل
    ها هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقف صفا واحدا في بداية دعوته والبشرية كلها ضده تريد إطفاء النور الذي جاء به ومع ذلك خسروا وما كيد الكافرين إلا في ظلال، يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون، ولو كره الفاسقون.
    ويأتي صحابته من بعده (صلى الله عليه وسلم) فيصدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ومن بعدهم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تزال هناك طائفة فيها خير عظيم قد أخبر بها النبي (صلى الله عليه وسلم).
    ولأن لا نيئس ولأن لا نقنط نأتي بهذه الحادثة:
    الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله كما ورد في تاريخ الجزائر ورد أن المندوب الفرنسي أيام الاستعمار كان يقول بكل صراحة: جئنا لطمس معالم الإسلام، واستدعى الشيخ عبد الحميد وقال له إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت الجنود لقفل المسجد وإخماد أصواتكم المنكرة، فقال الشيخ بثبات المؤمن:
    إنك لن تستطيع فاستشاط غضبا وأرغى وأزبد وقال كيف ؟
    قال إن كنت في حفل عرس علمت المحتفلين.
    وإن كنت في اجتماع علمت المجتمعين.
    وإن ركبت سيارة علمت الراكبين.
    وإن ركبت قطارا علمت المسافرين.
    وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين.
    وإن قتلتموني ألهبتم مشاعر المسلمين.
    وخير كم ثم خير لكم ثم خير لكم أن لا تتعرضوا للأمة في دينها.
    فوالله لا نقاتلكم لا بهذا الدين ووالله لا نقاتلكم إلا لهذا الدين:
    إذا الله أحياء أمة لن يردها......... إلى الموت جبار ولا متكبر
    ديننا الحق والكفر ذا دينهم........كل دين سوى ديننا باطل

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الأذى لا يهزم دعوة أبدا.
    ولن يصل الطغاة إلى قلب مؤمن مهما فعلوا:
    )إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) أبو بكر النابلسي عليه رحمة الله، ذلكم الزاهد الورع العابد يوم ملك الفاطميون الروافض بلاد مصر عطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وذبحوا من علماء السنة الكثير، واستدعى المعزٌ الحاكم أبا بكر النابلسي عليه رحمة الله فقال له:
    بلغني عنك أنك قلت لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت الفاطميين بسهم.
    قال أبا بكر لا... فظن المعز أنه رجع عن قوله، قال المعز كيف ؟
    قال أبا بكر بل ينبغي رميكم أيها الفاطميون بتسعة ورمي الروم بالعاشر.
    فأرغى وأزبد وأمر بضربه في اليوم الأول، ثم أمر بإشهاره في اليوم الثاني، ثم أمر في اليوم الثالث بسلخه حيا.
    فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن حتى أشفق عليه اليهودي فلما وصل في سلخه إلى قلبه طعنه بالسكين ليلقى ربه فكان يسمى بالشهيد.
    علو في الحياة وفي الممات، فهل انتهت دعوة أبي بكر بقتل أبي بكر، هل خلف أبو بكر أحدا ؟
    نعم خلف أبو بكر ألف أبي بكر من أهل السنة، وأهل السنة يقوم بذمتهم أدناهم.
    إذا سيد منا مضى قام سيد........... قئول بما قال الكرام فعول
    وهكذا كم عالم سقط على الطريق وعاشت كلمة الحق، وكم عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عالية، وبقيت كلمة الحق، وكم من عالم حُرم جميع حقوقه من أجل أن يُحفظ حق الله، وبقيت كلمت الحق:
    ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون8)
    تالله ما الدعوات تهزم بالأذى ........... أبدا وفي التاريخ بر يميني
    ضع في يدي القيد ألهب أضلعي......... بالسوط ضع عنقي على السكين
    لن تستطيع حصار فكري ساعة......... أو كبح إيماني ورد يقيني
    فالنور في قلبي وقلبي في يدي........... ربي وربي حافظي ومعيني

    علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن سهام الليل لا تخطئ ولكن لها أمد وللأمد انقضاء.
    فإذا ادهمت الخطوب وضاقت عليك الأرض وعز الصديق وقل الناصر وقل الناصر وزمجر الباطل وأهله، ودعم الفساد وأهله وكبت الحق وأهله ونطقت الرويبظة وغدا القرد ليثا وأفلتت الغنم، فأرفع يديك إلى من يقول:
    )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(غافر60)
    يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر........ وحملته في فلكك المشحون
    يا من أحال النار حول خليله.......... روحا وريحانا بقولك كوني
    يا من أمرت الحوت يلفظ يونس...... وسترته بشجيرة اليقطين
    يا رب إنا مثله في كربة............... فأرحم عبادا كلهم ذو النون
    تم الكلام وربنا محمود........وله المكارم والعلا والجود
    وعلى النبي محمد صلواته.... ما ناح قمري وأورق عود
    سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
    وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وبحمده
    .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    98
    آخر نشاط
    07-01-2011
    على الساعة
    10:26 PM

    افتراضي

    محاضرة : هكذا علمتني الحياة (2)
    فضيلة الشيخ : علي عبد الخالق القرني


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد.
    نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
    ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
    أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
    وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
    اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت نبيا عن أمته وأعلي على جميع الدرجات درجته واحشرنا تحت لوائه وزمرته وأوردنا حوضه في الآخرة.
    اللهم لا تجعل لقلوبنا الآن حوضا ترده إلا كتابك وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه.
    اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
    اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقا والباطل باطلا ووفقنا لأتباع الحق والعمل به والدعوة إليه والصبرَ على الأذى فيه ابتغاء وجهك وطلب مرضاتك.
    ( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ). ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً). سلام عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
    ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها.
    أحبتي في الله:
    لقائنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة هكذا علمتني الحياة.
    لكم غنم هذه المحاضرة وعلي غرمها، لكم صفوها وعلي كدرها.
    هذه بضاعتي وإن كنت قليل البضاعة تعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تزف إليكم، فإن صادفت قبولا فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان والله المستعان.
    ما كان من صواب فمن الله الواحد المنان.
    وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله المستعان.
    وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان نُبذ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة.
    أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرا ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
    وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. رباه،رباه:
    يظن الناس بي خيرا وإني....... لشر الناس إن لم تعفو عني
    وما لي حيلة إلا رجائي ........وعفوك إن عفوت وحسن ظني
    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، وأغفر لي ما لا يعلمون، وهكذا علمتني الحياة:

    علمتني الحياة في ظل العقيدة إنه لا خيرَ ولا أفضل ولا أجملَ ولا أحسنَ من كلمةٍ طيبة:
    )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). أخي: إن البر شيء هين..........وجه طليق وكلام لين
    هاهو أعرابي كما يروى يدخل على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أصحابه:
    فيمسكه بتلابيبه ويهزَه ويقول:
    أعطني من مالِ اللهِ الذي أعطاك لا من مالي أبيكَ ولا من مالِ أمِك.
    فيقومُ صحابةُ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخصِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) فيقول عليه الصلاة والسلام:
    على رسلِكم المالُ مالُ الله، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
    ثم يأخذُ هذا الأعرابيُ يداعبُه ويلاطِفُه، ويذهبُ به إلى بيتِه (صلى الله عليه وسلم) فيقول:
    خذ ما شئت ودع ما شئت.
    لكن ماذا يأخذ من بيتِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟
    بيتٌ لا توقدُ فيه النارِ شهرينِ ولا ثلاثةَ أشهر، بيتٌ لم يشبعَ أهلُه من خبزِ الشعير، ولم يشبع من دقل التمر ورديء التمرِ، بيتُ يأتي السائلُ يسأل فلا يوجد يوم من الأيام في بيته إلا عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته (صلى الله عليه وسلم) سوى تمرة واحدة، لكنه خيرُ بيتٍ وجدَ على ظهرِ الأرضِ بأبي وأمي صاحبُ ذاك البيت (صلى الله عليه وسلم).
    ما ملك الأعرابيُ إلا أن قال: أحسنتَ وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا.
    قال عليه الصلاة والسلام:
    إن أصحابي قد وجدوا عليك أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، فأخرج إليهم وقل لهم ما قلتَ لي الآن، فخرجَ وجاء إليهم فقال (صلى الله عليه وسلم) هل أحسنتُ إليكَ يا أعرابي؟ قال نعم وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم).
    فقال (صلى الله عليه وسلم):
    إنما مثلي ومثلكم و مثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة، فنفرت منه فذهب يطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون فما ازدادت الدابة إلا نفارا وشراد، فقال دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوح به لهذه الدابة فما كانت منها إلا أن انساقت إليه وجاءت إليه فأمسك بها، أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه فأوجعتموه فذهب من عندِكم على كفرهِ فماتَ فدخل النار.
    أريتم إلى الكلمةِ الطيبةُ يا أيها الأحبة، فلا إله إلا الله لا أفضلَ من دفعِ السيئةِ بالحسنة، إنها آسرةُ القلوبِ والأرواح، إنها مستلةُ الأضغانِ والأحقاد والسخائم من القلوب.
    )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). المؤمنُ الحق يا أيها الأحبة كالشجرةِ المثمرةِ كلما رُجِمت بالحجارةِ أسقطت ثمراً طيبا.
    فيا له من قمة ويا لها من مُثل.
    هاهوَ يهوديُ معه كلبُ، واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شركهم، يمرُ على إبراهيمَ ابن أدهم – عليه حمة الله - ذلكم المؤمنُ فيقولُ لهُ:
    ألحيتُك يا إبراهيم أطهرُ من ذنبِ هذا الكلب، أم ذنبُ الكلبِ أطهرُ من لحيتِك ؟
    فما كان منه إلا أن قال بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعود الله عز وجل:
    إن كانت في الجنةِ لهيِ أطهرُ من ذنبِ كلبك، وإن كانت في النارِ لذنبُ كلبيكَ أطهرُ منها.
    فما ملك هذا اليهوديُ إلا أن قال:
    أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاقُ الأنبياء.
    ) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). أقولُ هذا لعموم الناس، أما نحن الدعاة ونحن طلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم، ليس لنا أن ننـزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشقِ برديءِ الكلام.
    ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور ولو حاول غيرنا جرنا إلى هذه الأمور.
    يكن تحركنا ذاتيا، فلا يحركنا غيرنا لأن لا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك، ثم علينا أن لا نغضبَ لأنفسِنا بل علينا أن نسموَ بأنفسِنا عن كلِ بذيءٍ وعن كلِ ساقط.
    لو كل كلب عوى ألقمته حجرا.......لأصبح الصخر مثقالا بدينار
    ومن عاتب الجهال أتعب نفسه....... ومن لام من لا يعرف اللوم أفسد
    ليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحيانا يا أيها الأحبة تكون بالسكوت.
    والمدافعة أحيانا تكون بالاختفاء.
    والمدافعة أحيانا تكون بالإعراض عن الجاهلين.
    في يوم أحُد وما أدراكم ما يوم أحُد، يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان، ولا زال مشركا رضي الله عنه وأرضاه، قال:
    هل فيكم محمد ؟
    فلم يرد عليه (صلى الله عليه وسلم) ولم يأمر أحدا بالرد.
    هل فيكم أبو بكر، هل فيكم عمر؟
    فلم يجبه أحد مع أن الجواب قد كان أغيظ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:
    إذا نطق السفيه فلا تجبه........ فخير من إجابته السكوت
    فإن كلمته فرجت عنه......... وإن خليته كمدا يموت
    ومن باب قول الآخر:
    والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ....... وفيه أيضاً لصونِ العرض إصلاحُ
    أما ترى الأسدَ تخشى وهي صامتةٌ ........ والكلبُ يخزى لعمرُ اللهِ نباحُ
    وهاهوَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيهُ من السفهاء، فيسبُه ويشتُمه ويقذعه بالسب والشتم، فيقولُ له طلابُه وتلاميذُه:
    يا أبا عبد الله رد على هذا السفيه، قال لا والله فأينَ القرآنُ إذاً:
    )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً). إذ سبني نذلٌ تزايدتُ رفعةً .......... وما العيبُ إلا أن أكونَ مساببُه
    ولو لم تكن نفسي عليَ عزيزةً ....... لمكنتُها من كـلِ نذلٍ تحاربُه
    هاهوَ مصعبُ ابنُ عميرٍ رضي اللهُ عنه سفيرُ الدعوةِ الأولُ إلى المدينةِ النبوية، يأتيهِ أسيدُ أبنُ حضيرٍ بحربته وهو لا يزالُ مشركاً، فيقول لمصعبُ :
    ما الذي جاءَ بك إلينا تسفهُ أحلامنَا وتشتمُ آلهتَنا وتضيعَ ضعفائَنا ؟
    اعتزلنا إن كنتَ في حاجةٍ إلى نفسِك و إلا فاعتبر نفسَك مقتولاَ.
    فما كان من مصعب بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعودِ الله وبنصر الله لهذه الدعوة إلا أن قال له في كلماتٍ هادئة:ٍ أو تجلسُ فتسمع، فإن رضيتَ أمرَنا قبِلته، وإن كرهتَهُ كففنا عنكَ ما تكره.
    قال: لقد أنصفت.
    وكانَ عاقلاً لبيبا، فكلمه مصعبُ رضي الله عنه عن الإسلام وقرأ عليه القرآن فتهللَ وجهُه وبرقت أساريرُه وجهه واستهل وجهه ثم قال:
    كيفَ تصنعونَ إذا أردتم الدخولَ في هذا الدين ؟
    جاءَ ليقتلَه والآن يريدُ أن ينهلَ من ما نهلَ مه مصعب.
    قال اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله (صلى الله عليه وسلم).
    أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية، قول:
    إن ورائي رجلا إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه هو سعد أبن معاذ.
    وذهب إلى هذا الرجل واستفزه بكلمات معينة فجاء هذا يركض إلى مصعب ويقول:
    إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك.
    قال أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فجلس.
    فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين فما كان منه إلا أن استهل وجهه وبرقت أسارير وجهه وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟
    قالوا اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
    ففعل، ثم خرج من توه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل وقال:
    كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأي وخيرنا وأيمننا.
    قال فإن كلامكم علي حرام رجالكم والنساء حتى تأمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتصدقوا برسالة محمدا (صلى الله عليه وسلم).
    يقول فلم يبقى رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.
    فلا إله إلا الله الكلمةَ الطيبةَ، الإحسانَ الإحسان والله يحبُ المحسنين.
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ........ لطالما ما ملك الإنسان إحسان

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الاجتماع والمحبةَ بين المؤمنين قوةً، وأن التفرُقَ والتشتتَ ضعفٌ، فإن الإنسانَ قليلٌ بنفسهِ كثيرٌ بإخوانه.
    وما المرء إلا بإخوانه............. كما تقبض الكف بالمعصم
    ولا خير في الكف مقطوعة...... ولا خير في الساعد الأجذم
    يقولُ عمرُ رضي اللهُ عنه وأرضاه:
    ما أعطيَ عبدُ بعد الإسلامِ خيرٌ من أخٍ صالحٍ يذكرُه بالله، فإذا رأى أحدُكم من أخيه وداً فليتمسك به.
    تمسك به مسك البخيل بماله....... وعض عليه بالنواجذ تغنم
    ويقولُ الحسنُ عليه رحمةُ الله:
    إخوانُنا أحبُ إلينا من أهلِنا و أولادِنا، لآن أهلُنا يذكروننا بالدنيا وإخوانُنا يذكرُننا بالآخرة، ويعنوننا على الشدائد في العاجلة.
    إن يختلف نسبٌ يؤلفُ بيننا ...... .ديننا أقمناه مقامَ الوالدِ
    أو يختلف ماء الوصالِ فماؤنا....... عذبُ تحدر من غمامٍ واحدِ
    يقولُ عمرُ رضي الله عنه:
    واللهِ لو لا أن أجالس اخوةً لي ينتقونَ أطايبَ القول كما يلتقط أطايبُ الثمر لأحببتُ أن ألحق بالله الآن.
    وها هي جماعة من النمل تصادف بعيرا فيقول بعضها:
    تفرقنا عنه لا يحطمكن بخفه، فقالت حكيمة منهن اجتمعن عليه تقتلنه.
    تأبى الرماح إذا اجتمعنا تكسرا...... وإذا انفردنا تكسرت أحاد
    بنيانُ واحد، جسدُ واحد، أمةٌ واحدة.
    لو كبرت في جموعِ الصينِ مإذنةٌ ......... سمعتَ في الغربِ تهليلُ المصلينَ
    )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا تضيعَ فرصةً في طاعة:
    فإن لكل متحركٍ سكونَ، ولكلِ إقبالٍ أدبار، ورحم اللهُ أبا بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه يوم يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في صحيح مسلم:
    ( من أصبحَ منكم اليومَ صائما، قال أبو بكرٍ أنا، من تبعَ منكم اليومَ جنازةً، قال أبو بكرٍ أنا، من عاد منكم اليومَ مريضاً، قال أبو بكرٍ أنا، من تصدقَ اليومَ على مسكين، قال أبو بكرٍ أنا، قال (صلى الله عليه وسلم) ما اجتمعنا في رجلٍ إلا ودخل الجنة).
    من لي بمثل مشيك المعتدل....تمشي الهوين وتجي في الأول
    خرجَ أبو بكرٍ من عندِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن عمرُه في الإسلامِ بضعة أيامٍ، وعاد وهو يقود الكتيبةَ الأولى من كتائبِ هذه الأمة، عاد وقد أدخل في الإسلام ستةً من العشرةِ المبشرين بالجنة يأتي يومَ القيامةِ وهم في صحيفةِ حسناته، وبعضُنا يعيشُ عشرين عاما وثلاثين عاما وستين عاما ومائة عاما وما هدى الله على يديه رجلاً واحد، إلى اللهِ نشكو ضعفنا وتقصيرَنا.
    ليسَ هذا فحسب بل يمرُ يوماً من الأيامِ على بلالَ رضي الله عنه وهو يعذبُ في رمضاءِ مكةَ وبه من الجهدِ ما به وهو يقول أحدُ أحد فيقول ينجيك الواحد الأحد.
    ويذهب ويرى أنها فرصةٌ لا تتعوضَ لإنقاذِ هؤلاء الضعفاء لآن لا يفتنوا في دينِهم فيصفي تجارتِه ويصفي أموالَه ويأتي إلى أميةَ ابنَ خلف ويقولُ:
    أتبيعُني بلالاً؟ قال أبيعُك إياهُ لا خيرَ فيه، فيعطيهِ فيه خمسَ أواقيً ذهبا.
    فيأخذَ أمية الخمسَ ويقول:
    واللهِ لو أبيت إلا أوقيةً واحدةً لبعتُك بلالا.
    قالَ أبو بكر: و واللهِ لو أبـيت يا أمية إلا مائة أوقيةً لأخذته منك.
    لأن لأبي بكرٍ موازينَ ومقاييسَ ليست لهذا ولا لغيره من البشر فرضي اللهُ عنه وأرضاه.
    يقولُ أبوه: إن كنتَ ولا بدَ منفقُ أموالَك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقتِ الشدائد.
    فيقولُ أبتاه إنما أريدُ ما أريد.
    ماذا يريدُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه؟
    إنه يريدُ ما عندَ الله ويريدُ وجه الله والدار الآخرة0.
    يقولُ الناسَ ما أعتقَ بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال، يعني لمعروفٍ أسداه بلال إليه فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى اللهُ سبحانه وتعالى الردَ من فوقِ سبعِ سماوات:
    )وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى).
    رضي اللهُ عنه وأرضاه قد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.
    وها هو خيثمة أبن الحارث كان له أبن يسمى سعد، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، أرادوا الجهاد في سبيل الله، فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لأبنه:
    يا بني تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن.
    وراء هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض، جهاد في سبيل الله، قال:
    والله يا أبتاه لا أجلس مع هؤلاء النساء، للنساء رب يحميهن، والله ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله لو كان غير الجنة يا أبتاه لآثرتك به، ولكنها الجنة، ووالله لا آثر بها أحدا.
    ثم ذهب الشاب وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فأستشهد في سبيل الله، بأذن الله نحسبه شهيدا ولا نزكي على الله أحدا.
    يقول أبوه بعد ذلك:
    والله لقد كان سعد أعقل مني، أواهُ أواه لقد فاز بها دوني، والله لقد رأيته البارحة في المنام يسرح في أنهار الجنة، وثمارها ويقول أبتاه، الحق بنا فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
    وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوما فوجد كل واحدة منهما قد رشت عريشها بالماء، وبردت له الماء ووضعت له الطعام.
    فلما رأى ذلك بكى وقال: أواهُ أواه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد، والله ما هذا بالنصف.
    ورأى أنها فرصة لو فاتته لعد من المنافقين، قال:
    والله لا أذوق شيئا حتى ألحق برسول الله (صلى الله عليه وسلم).
    فهيئ زاده وهيئ راحلته وأنطلق وحيدا في صحاري يبيد فيه البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.
    ولحق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فأدركه قرب تبوك، وراءه الناس فقالوا:
    ركب مقبل يا رسول الله.
    فقال (صلى الله عليه وسلم) كن أبا خيثمة، كن أبا خيثمة، قال الصحابة هو أبو خيثمة.
    فدعاء له (صلى الله عليه وسلم) ففاز بدعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) وياله من فوز.
    )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى).
    كانوا سباقين إلى فعل الخير، لا يضيعون فرصة في طاعة الله عز وجل.
    والي من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه وأكثر فيه من الزخرفة ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له، فما كان من الحسن البصري رحمه الله يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تعوض أن يعض الناس ويذكرهم بالله ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في ما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق ثم وقف بجانبهم هناك فحمد الله وأثناء عليه فاتجهت إليه القلوب والأبصار ثم قال:
    لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلا من ما بنى وشيد أعلا مما شيد، أليس هو القائل: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه، ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غروه، وأندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه أحد السامعين من هذا الوالي فقالوا حسبك يا أبا سعيد حسبك.
    قال لا والله، لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
    من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار.
    ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجلسائه يتميز من الغيظ ويدخل عليه ويقول:
    تبا لكم وسحقا وهلاكا وبعدا، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء.
    ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله، فتقدم ودخل، فلما رأى السيف والجلاد تمتم بكلمات ولم يعرف الحجاب والحراس ماذا يقول.
    ويوم دخل وقد خاف الله، فخوف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي، فما كان منه إلا أن قال:
    أهلا بك أيها الإمام، وقام يرحب به ويقول هاهنا يا أبا سعيد، حتى أجلسه على مجلسه وعلى كرسيه بجانبه، ويسأله بعض الأسئلة ثم يقول له أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد، انصرف راشدا بعد أن طيب لحيته.
    فخرج من عنده فلحق به أحد الحجاب وقال:
    والله لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول ؟
    قال دعني ونفسي، قال أسألك بالله ماذا كنت تقول وأنت داخل؟
    قال كنت أقول: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي أجعل نقمته علي بردا وسلاما كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم.
    اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه فأنجه وأنقذه وحفظه.
    والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
    فالحياة أيها الأحبةُ فرص، من اغتنمها فاز ومن ضيعها خسر: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
    إذا هبت رياحك فاغتنمها........ فإن لكل خافقة سكون
    ولا تغفل عن الإحسان فيها....... فلا تدري السكون متى يكون
    وإن درت نياقك فاحتلبها..........فلا تدري الفصيل لم يكون
    أترجُ أن تكونَ وأنت شيخٌ ......كما قد كنتَ أيامَ الشبابِ
    لقد خدعتك نفسُك ليسَ ثوبٌ.... دريس كالجديدِ من الثيابِ

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أعيبَ أحداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
    وأن أشتغلَ بإصلاحِ عيوبي، وإنها لكبيرة جد كبيرة، آما يستحي من يعيبَ الناس وهو معيب.
    ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها........ كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
    من ذا الذي ما ساء قط....... ومن له الحسنى فقط.
    تريد مبرأ لا عيب فيه......... وهل نار تفوح بلا دخان.
    هاهو عمر أبنُ عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه يختار جلاسه أختيارا، ويشترطُ عليهم شروطا، فكان من شروطه أن لا تغتابوا ولا تعيبوا أحدا في مجلسي حتى تنصرفوا.
    السهلًُ أهونُ مسلكا........ فدع الطرق الأوعرَ
    واحفظ لسانك تسترح......فلقد كفى ما قد جرى
    هاهوَ ابنُ سيرين عليه رحمةُ الله كان إذا ذُكرَ في مجلسه رجل بسيئةٍ بادر فذكرَه بأحسنِ ما يعلمُ من أمره، فيذبُ عن عرضه فيذبُ اللهُ عن عرضه.
    سمع يوما أحد جلاسه يسبُ الحجاجَ بعد وفاته، فأقبل مغضباً وقال:
    صه يا أبن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربِه، وإنك حين تقدُمُ على اللهِ ستجدُ أن أحقرَ ذنبٍ ارتكبتَه في الدنيا أشدَ على نفسِك من أعظمِ ذنبٍ اقترفَه الحجاج و )لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
    واعلم يا أبن أخي أن اللهَ عز وجل سوف يقتصُ من الحجاجِ لمن ظلمَهم، كما سيقتصُ للحجاجِ ممن ظلموه، فلا تشغلنا نفسك بعد اليومِ بعيبِ أحد ولا تتبعَ عثراتِ أحد.
    ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها..........ولا يسلم له الدهر صاحب
    يا عائبَ الناسِ وهو معيب اتقِ الله، أعراضُ المسلمينَ حفرةٌ من حُفرِ النار.
    وخواص المسلمين هم العلماء والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب.
    وكم من عائب قولا صحيحا..........وآفته من الفهم السقيم
    ومن يكو ذا فم مر مريض............. يجد مرا به الماء الزلال
    فإن عبت قوما بالذي فيك مثلُه..........فكيف يعيبُ من الناسَ من هو أعورُ
    وإن عبتَ قوما بالذي ليسَ فيهمُ....... فذلك عند اللهِ والناسِ أكبرُ
    من طلبَ أخا بلا عيبٍ صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضى:
    فعينُ الرضى عن كل عيبٍ كليلةُ.........ولكن عين السخطِ تبدي المساوي.
    فكيف ترى في عينِ صاحبك القذى..... ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ
    بعض الأخوة ظلمة، بعضُ الأخوة غيرُ منصفين، يرون القذاةَ في أعين غيرهم ولا يرونَ الجذعَ في أعينِهم.
    فحالُهم كقولُ القائل:
    إن يسمعوا ُسبةً طاروا بها فرحا...... مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
    صمُ إذا سمعوا خيرا ذكرت به........ وإن ذكرتُ بسوءٍ عندهم أذنوا
    إن يعلموا الخيرَ أخفوه......وإن علموا شرا أذاعوا... وإن لم يعلموا كذبوا.
    طوبى لمن شغلته عيوبُه عن عيوبِ غيره. وكان حالُه:
    لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها..... لنفسيَ عن نفس من الناسِ شاغلُ
    والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الصاحبَ ساحب وأن القرينَ بالقرين يقتدي:
    وأن الناسَ أشكالٌ كأشكالُ الطير، الحمامُ مع الحمام، والغراب مع الغراب والدجاجُ مع الدجاج، والنسور مع النسور والصقورُ مع الصقور، وكلاً مع شكلِه، والطيورُ على أشكالها تقعُ، والخليلُ على دينِ خليله، ففرَ من خليلِ السوء فِرارك من الأسد، فهو أجربُ معدٍ، يقودُك إلى جهنَم إن أجبتهُ قذفَك فيها وسيكون لك عدواً بين يدي الله الواحد الأحد: )الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
    هاهوَ عقبةُ ابن أبي مُعيط كان يجلسُ مع النبيِ (صلى الله عليه وسلم) بمكة ولا يؤذيه، وكانَ كافرا، وقد كان بقيةُ قريشُ إذا جلسواُ معه (صلى الله عليه وسلم) يؤذونَه.
    كانَ لأبنِ أبي معيط صديقٌ كافرٌ غائبٌ في الشام وقد ظنت قريش أن عقبةَ قد أسلم لما يعامل النبي (صلى الله عليه وسلم) من معاملة حسنة.
    فلم قدِمَ خليله من الشام قالت قريش هاهو خليلك ابنَ أبي معيطٍ قد أسلم.
    فغضب خليله وقرينه غضبا شديداً وأبى يكلِمَ عقبةَ وأبى أن يسلمَ عليه حتى يؤذي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاستجاب عقبةَ له، وأذى النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى أنه خنقه بتلابـيبه ذات مرة، وحتى أنه بصق في وجهه الشريف مرة أخرى فأستأثرَ بكلِ حقارةٍ ولؤم على وجه الأرض في تلك الساعة.
    وكان عاقبته أن مات يومَ بدرٍ كافرا، فأنزل ال فيه وفي أمثاله قرأناً يتلى إلى يومِ القيامة:
    )وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً). فإياك وصديق السوء فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ.
    إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارَهم......ولا تصحبِ لأردى فتردى مع الرديء
    عن المرءِ لا تسأل واسأل عن قرينهِ......فكلُ قرين بالمقارنِ يقتديِ
    من جالس الجرب يوما في أماكنها......لو كان ذا صحة لا يأمن الجرب
    أنت في الناس تقاس....... بالذي اخترت خليلا
    فأصحب الأخيار تعلو.... وتنل ذكرا جميلا

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعمل بما أقول ما استطعت إلى ذلك سبيلا:
    ومن لم يعمل بما يقول وبما يدعو له فإنما يسخر من نفسه أولا:
    كالعيس في البيداء يقتلها الضما...........والماء فوق ظهورها محمول
    كحامل لثياب الناس يغسلها.............وثوب غارق في الرجس والنجس
    ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها........ إن السفينة لا تجري على اليبس
    ركوبك النعش ينسيك الركوب على.....ما كنت تركب من بعل ومن فرس
    يوم القيامة لا مال ولا ولد...............وضمت القبر تنسي ليلة العرس
    ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها..............فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
    فهناك ينفع ما تقول ويحتفى..............بالوعظ منك وينفع التعليم
    لا تنهى عن خلق وتأتي مثله..............عار عليك إذا فعلت عظيم
    فأحرص على ما ينفعك واعمل بما تقول ما استطعت: )كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن إرضاء الناس غاية لا تدرك:
    نعم إرضاء البشر ليس في الإمكان أبدا، لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتورهم الهوى ويعتورهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك فلا يمكن إرضاءهم، فمن ترضي إذا ؟
    أرضي الله جل وعلا وكفى.
    هاهو رجل يبني له بيتا فيضع بابه جهة الشرق، فيمر عليه قوم فقالوا:
    هلا وضعت بابه جهة الغرب لكان أنسب.
    فيمر آخرون ويقولون هلا وضعت بابه جهة الشمال لكان أجمل.
    ويمر آخرون ويقولون لولا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب.
    وكل له نظر ولن ترضيهم جميعا فأرضي الله وكفى.
    هاهو رجل وأبنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم فقالوا:
    يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشي وراءه.
    فما كان منه إلا أن نزل وأركب هذا الطفل، فمروا على قوم آخرين فقالوا:
    ياله من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة.
    فركب الاثنان على الدابة ومروا على قوم آخرين فقالوا:
    يا لهم من فجرة حملوها فوق طاقتها.
    فنزل الاثنان ومشيا وراء الدابة فمروا على قوم فقالوا:
    حمقى مغفلون يسخر الله لهم هذه الدابة ثم يتركونها تمشي ويمشون ورائها.
    )وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ َ). من ترضي أخي في الله ؟ أرضي الله وكفى. من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
    لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أما إرضاء رب الناس فهو الممكن سبحانه وبحمده، بل هو الواجب، لأن سبيل الله واحد، ولأن دينه واحد:
    )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ). يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف) حدثا يناسب هذه النقطة.
    يذكر أن طفلة صغيرة من بيت محافظ تعود لأمها من المدرسة ذات يوم وعليها سحابة حزن وكآبه وهم وغم، فتسألها أمها عن سبب ذلك فتقول:
    إن مدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة.
    فتقول الأم ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا.
    فتقول الطفلة، لكن المدرسة لا تريدها.
    قالت الأم، المدرسة لا تريد والله يريد فمن تطيعين إذا؟ الذي خلقك وصورك وأنعم عليك أم مخلوقا لا يملك ضرا ولا نفعا.
    فقالت الطفلة بفطرتها السليمة، لا.. بل أطيع الله وليكن ما يكون.
    وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس وتذهب بها إلى المدرسة، فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، أكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أليم أذهل المعلمة، ثم كفكفت دموعها وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، تقول:
    والله لا أدري من أطيع أنتي أم هو!
    قالت المعلمة ومن هو ؟
    قالت الله رب العلمين الذي خلقني وخلقك وصورني وصورك، أأطيعك فألبس ما تريدين وأغضبه هو، أم أطيعه وأعصيك أنتي، لا، لا سأطيعه وليكن ما يكون.
    إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا........ فما حيلة المضطر إلا ركوبها
    ذهلت المعلمة وشدهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة، ووقت منها الكلمات موقعا عظيما، وسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أم البنت وتقول:
    لقد وعظتني أبنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله وأبت إلى الله، فقد جعلت نفسي ندا لله حتى عرفتني ابنتك من أنا، فجزاك الله من أم مربية خيرا.
    وهنا أقول – أيها الأحبة- إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تأثر في السامعين أبدا.
    ألا فأرضي الله جل وعلا وكفى.
    فلست بناجي من مقالة طاعن......... ولو كنت في غار على جبل وعر
    ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما..... ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
    )وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
    (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحبَ الحقَ وفلاناً ما اجتمعا:
    فإذا افترقا كان الحقَ أحبَ من فلانٍ ونفسي ومالي وأهلي ولدي والناسِ أجمعين.
    لأنني مولع بالحق لست إلى سواه..........أنحو ولا في نصره أهن
    دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا.....من مات من غيظه منهم له كفن
    هاهوَ سعد ابنَ أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، يستجيبُ لدعوةِ الهدى والحق فيكونَ ثالثُ ثلاثةٍ أسلموا، لكن إسلامه لم يمرَ هيناً سهلا، وإنما تعرضَ الفتى إلى تجربةٍ من أقسى التجارب أنزل الله في شأنها قرأناً يتلى، فلما سمِعت أمهُ بخبرِ إسلامِه ثارت ثائرتُها، يقول:
    وكنت فتى براً محباً لها، قال فأقبلت تقول يا سعد ما هذا الدينُ الذي اعتنقته فصرفَك عن دينِ آبائِك وأجدادِك، لتتركنَ هذا الدين أو لامتنعنَ عن الطعامِ والشراب حتى أموتَ فيتفطرُ قلبُك حزنٌ علي ويأكلَك الندمُ بفعلتك التي فعلت ويعيرَك الناس بها أبد الدهر.
    قال قلت يا أماه لا تفعلي فأنا لا أدعو ديني لشي.
    لكنها نفذَت وعيدها وامتنعت عن الطعامِ والشراب أياما، كان يأتيها ويسألَها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفضُ ذلك، فما كان منه ذلك اليومَ إلا أن جاءها وقال:
    يا أماه إني لعلى شديدِ حبي لكي لأشدُ حباً لله ورسولِه، واللهِ لو كانت لكِ آلفُ نفسٍ فخرجت منكِ نفساً بعد نفسٍ ما ارتددت عن ديني فكلي أو دعي.
    فلما وضعها أمام هذا الأمرَ ما كان منها إلا أن أكلَت على كُره منها فأنزل اللهُ فيه وفيها: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
    وهاهو الإمام مالك يأتيه رجل يستفتيه وهو في حلقة العلم في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يدخل هذا الرجل إليه ويقول:
    يا إمام قد قلت لزوجتي أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر.
    ففكر الإمام قليلا ثم قال: ليس هناك أحلى من القمر، هذه طلقة ولا تعد لذلك.
    كان تلميذه الشافعي يجلس إلى سارية من السواري، ولم يدري ما الذي حدث بينهما، وكان حريصا على طلب العلم، فلحق بهذا الأعرابي وقال: ما السؤال وما الإجابة، يريد أن يستفيد فائدة.
    قال: قلت للإمام كذا وكذا، فقال القمر أحلى من زوجتك فزوجتك قد طلقت طلقة.
    فقال: الإمام الشافعي لا، بل زوجتك أحلى من قمر.
    قال أو قد رأيتها، وكانوا ذا غيرة، اغتاظ منه، قال لا، ألم تسمع قول الله جل وعلا:
    )وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ *لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). فخلق الإنسان أحسن خلق، وأقوم خلق وأعدل خلق.
    قال إذا نرجع إلى الإمام مالك، قال نرجع إليه.
    فرجعوا إلى الإمام مالك فأخبروه الخبر فقال، الحق أحق أن يتبع أخطأ مالك وأصاب الشافعي.
    فما أحوجنا إلى معرفة الرجال بالحق لا العكس.
    والحق يعلو والأباطيل تسفل.... والحق عن أحكامه لا يُسأل
    وإذا استحالة حالة وتبدلت..... فالله عز وجل لا يتبدل
    .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    98
    آخر نشاط
    07-01-2011
    على الساعة
    10:26 PM

    افتراضي

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا نفرح في صفوفنا بالهازلين:
    المضيعين لأوقاتهم المفرطين في المزاح المنغمسين في الملهيات.
    نريد رجالا أشداء لا ينثنون للريح، يشقون الطريق بعزم وجد، لا تلهيهم كرة، ولا يضيعهم تلفاز ولا هراء، وقتهم أعظم وأثمن من أن يضيع في مثل هذه الترهات.
    نريد من يأخذ الحياة بجد، فالحياة الحقيقية للشجعان الأقوياء العاملين، ولا مكان فيها للكسالى والتنابلة والبطالين والمتخاذلين.
    نريد من يشق طريقه معتمدا على الله بعيدا عن التفكير الهامشي السافل، التفكير في الشهوات، التفكير في الملهيات، والركض ورائها والتفكير المادي المنحط.
    نريد شباب يتربى على معالي الأمور، ويترفع عن سفاسف الأمور ليكونوا ممن قيل فيهم:
    شباب ذللوا سبل المعالي........ وما عرفوا سوى الإسلام دين
    إذا شهدوا الوغى كانوا حماة.... يدكون المعاقل والحصون
    وإن جن المساء فلا تراهم........ من الإشفاق إلا ساجدين
    شباب لم تحطمه الليالي......... ولم يسلم إلى الخصم العرين
    وما عرفوا الأغاني مائعات...... ولكن العلا صيغة لحون
    ولم يتشدقوا بقشور علم....... ولم يتقلبوا في الملحدين
    ولم يتبجحوا في كل أمر....... خطير كي يقال مثـقفون
    كذلك أخر الإسلام قومي...... شبابا مخلصا حرا أمين
    وعلمه الكرامة كيف تبنى........ فيأب أن يذل وأن يهون
    أين نجد هؤلاء الشباب ؟
    نجد هؤلاء في المسارح، أعلى المدرجات، أعلى الأرصفة ؟
    لا... إنما نجدهم في حلقات العلم والتعلم، في بيوت الله، في الأمر والنهي.
    فلتأخذ الحياة بجد، ولتعد الأنفس ليوم الشدائد، فما ندري ما المرحلة القادمة.
    يا رقد الليل مسرورا بأوله...... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
    كيف يرجو من به كسل....... نيل ما قد ناله الرجل
    من يريد العز يطلبه............. في دروب ما به سهل

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن النفس البشرية كالطفل تماما:
    إن هذبتها وأدبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدت وندت وشردت.
    النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات والملذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، وإذا لم يقيدها وازع دين عظيم تنقاد إلى السقوط والهلاك.
    والنفس كالطفل إن تهمله شب على .......حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
    فخالف النفس والشيطان واعصهما........ وإن هما محضاك النصح فاتهمي
    وإصلاح نفسك بما يكون أيها الحبيب ؟
    بالمجاهدة: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). يقول ثابت البناني عليه رحمة الله:
    تعذبت في الصلاة عشرين سنة، يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله، قال ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها.
    وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
    يقول أحد السلف، ما من شيء فعلته صغر أو كبر إلا وينشر له ديوانان، لما وكيف.
    لما فعلت ؟، ما علت الفعل وما باعث هذا الفعل؟ هل هو لحظ دنيوي، لجلب نفع لدفع ضر، أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده.
    هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظك وهواك.
    وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل الفعل وفق ما شرعه الله ورسوله، أم ليس عليه أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) القائل: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
    فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية.
    يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي.
    يا نفس أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز، وطوبى لمن صحة له خطوة يراد بها وجه الله.
    هاهو أبن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته، تحل به سكرات الموت فيشتد بكائه ونحيبه، فيقول جلاسه: يا إمام أحسن الظن بالله، ألست من فعلت ومن فعلت.
    قال والله ما أخشى إلا قول الله: ) وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).
    )وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
    أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت.
    وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر:
    قد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عيني متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوما واعظا فنظرت حوالي أكثر من عشرة آلاف ما منهم من أحد إلا رق قلبه أو دمعت عينه، قال فقلت في نفسي:
    كيف بك يا بن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، كيف بك يا ابن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، ثم صاح إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غدا فلا تخبرهم بعذابي لأن لا يقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه.
    إلهي وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين لا تخيب من علق أمله ورجائه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبدك إلى دينك ولم يكن أهلا لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك أنت أهل الجود والكرم.
    فأخلصوا تتخلصوا، طوبى لم صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن كثيرا من الناس محاضن خالدة لتربية الأجيال:
    ولبعضهن مواقف مشرفة تصلح نبراسا وأنموذجا لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة وهي الأسوة إلا عند من رحمهن الله سبحانه.
    فإليكم بعض النماذج:
    هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، يتوفى عنها زوجها ويترك له أبنا هو الزبير رضي الله عنه، فنشأته نشأة الخشونة وربته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل حط، فإذا أحجم ضربته ضربا حتى أنها عوتبت من بعض أعمامه حيث قال لها إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم، قالت مرتجزة:
    من قال قد أبغضته فقد كذب.... وإنما أضربه لكي يلب .....ويهزم الجيش ويأتي بالسلب.
    آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهاجرت مع من هاجر وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحُد جاهدت مع أبن أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه، ذرية بعضها من بعض.
    فلم انكشف المسلمون في أحد كما تعلمون هبت هذه المرأة كاللبؤة وانتزعت رمحا من أحد المنهزمين وانقضت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد وتقول ويحكم أتفرون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
    ويراها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقول لأبنها الزبير :
    ردها فإن أخاها حمزة قد مثل به المشركون.
    فقال لها ابنها إليك يا أماه، قالت تنحى عني لا أم لك، أتفر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
    قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرك أن ترجعي.
    وقد كانوا وقافين عند أمر الله وأمر رسوله- قالت الأمر أمر الله وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
    توقفت وقالت ولما يردني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إنه قد بلغني أنه قد مثل بأخي وذلك قي ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله.
    فقال (صلى الله عليه وسلم) لأبنها خلي سبيلها، فخاضت المعركة حتى انتهت.
    ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفت العظماء، وقد بقر بطنه وأخرجت كبده، وجدع أنفه، وقطعت أذناه، وشوه وجهه، فاستغفرت له وجعلت تقول:
    إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب:
    وليس الذي يجري من العين مائها....... ولكنها روح تسيل فتقطر
    تقول الأصبرن واحتسبن إن شاء الله، الأصبرن واحتسبن إن شاء الله.
    هذا موقف من مواقف صفية، وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي (صلى الله عليه وسلم) مع نساء المسلمين في حصن حسان وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود فأرسلوا واحدا ليرى هل أبقى الرسول (صلى الله عليه وسلم) حماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يبقي أحدا، فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعامود فضربته أولى وثانية وثالثة حتى قتلته، ثم احتزت رأسه ثم طلعت به إلى أعلى الحصن ثم رمت برأسه فإذا هو يتدحرج بين أيد اليهود، فقال قائل اليهود قد علمنا أن محمدا لم يترك النساء من غير حماة.
    فرحم الله صفية رحمة واسعة فقد كانت مثلا فذا للأم المربية المسلمة، ربت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركا في الإسلام فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالا كصفية.
    وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظى به امرأة قبلها ولا بعدها وهي خدمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في طريق الهجرة في الغار.
    ثم أنظر إلى تلك المرأة في أواخر سني عمرها، في أحلك المواقف وقد بلغت السابعة والتسعين، أبنها يحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف وماذا يفعل.
    فقالت تلكم المؤمنة الصابرة:
    أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق فأصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبأس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك.
    قال يا أماه والله ما أردت الدنيا، وما جرت في حكم وما ظلمت وما غدرت والله يعلم سريرتي، وما في قلبي، فقالت الحمد لله وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله.
    تعانقا عناق الوداع، ثم قالت:
    يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك0.
    فأكب على يديها ورجليها ووجهها يلثمها ويقبلها دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس أبنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها وهي تقول ما هذا الذي تلبسه؟
    قال درعي، قالت يا بني ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك فهو أقوى لوثبتك وأخف لحركتك، وألبس بدلا منه سراويل مضاعفة حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك.
    فنزع درعه وشد سراويله ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول لا تفتري عن الدعاء يا أماه.
    فرفعت كفها قائلة اللهم أرحم طول قيامه، وشدت نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم أرحم جوعه وظمئه في هواجر مكة والمدينة، اللهم إني قد أسلمته لك ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين.
    ويذهب أبنها وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ تلقى أبنها عبد الله ضربة الموت ليلقى الله عز وجل، ليس هذا فحسب بل يصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون.
    علو في الحياة وفي الممات...... بحق أنت إحدى المكرمات
    كأنك واقف فيهم خطيبا...... وهم وقفوا قياما للصلاة.
    وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس حتى تصل، فتأتي فإذا هو الطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة ويقول:
    يا أماه إن الخليفة أوصاني بك خيرا.
    فتصيح به لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب وعند الله تجتمع الخصوم.
    ويتقدم أبن عمر رضي الله عنه معزيا لها ومواسيا لها، فيقول اتقي الله واصبري، فتقول له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله:
    يا ابن عمر ماذا يمنعني أن أصبر وقد أهدي رأس يحي ابن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
    أريتم ما أعظم الأم وما أعظم الابن وما أعظم الأب.
    سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، وسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين.
    النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف ناهيك عن النساء.
    فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) تتزوج علي رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تأثر الرحى في يدها، وتستقي في القربة حتى أثرت في نحرها، وتقم البيت، وتوقد النار، وتربي أبنائها فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، هي بنت من ؟ هي أم من؟ هي زوج من؟
    من ذا يساوي في الأنام علاها ؟
    أما أبوها فهو أكرم مرسل........ جبريل بالتوحيد قد رباها
    وعلي زوج لا تسل عنه سوى..... سيف غدا بيمينه تياها
    فلو كان النساء كمن ذكرنا....... لفضلت النساء على الرجال
    وما التأنيث لأسم الشمس عيب... وما التذكير فخر للهلال
    آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة، بصفية وأسماء وعائشة وفاطمة.
    فالأم مدرسة إذا أعددتها..... أعددت شعبا طيب الأعراق

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الدهر دول والأيام قلب لا تدوم على حال:
    ) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ).
    الدنياً غرارةُ خداعةُ إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وكم من ملك رفعت له علامات فلما علا مات.
    هي الأقدارُ لا تبقي عزيزا ........ وساعاتُ السرورِ بها قليلة
    إذا نشر الضياءَ عليك نجمُ ........ وأشرقَ فأرتقب يوما أفوله
    فيومُ علينا ويومُ لنا ......... ويومُ نساءُ ويومُ نسر
    الأمرُ جدُ وهو غيرُ مزاح.............. فأعمل لنفسك صالحا ياصاح
    كيف البقاءُ مع اختلافِ طبائعٍ......... وكرورُ ليلٍ دائمٍ وصباح
    تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما.......... تجري عليه سفينةُ الملاح
    تجري بنا في لجِ بحرٍ ماله................ من ساحلٍ أبدا ولا ضحضاح
    فاقضوا مئارَبكم عجالا إنما..............أعمارُكم سفرُ من الأسفار
    وتراكضوا خيل الشباب وبادروا..........أن تسترد فإنهن عوار
    الدهر يومان ذا أمن وذا خطر........ والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
    أما ترى البحر يعلو فوقه جيف.......وتستقر بأقصى قاعه الدرر
    وفي السماء نجوما لا عداد لها....... وليس يكسف إلا الشمس والقمر.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن ميت الأحياء من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر:
    )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). ويقول (صلى الله عليه وسلم): (لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه وتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم).
    (لتأمر بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم).
    (لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم).
    كم من ميت هو حي بأعماله، بأمره ونهيه بعلمه وعمله، وكم حي ميت يرى المنكر فلا يهزه:
    يا رب حي رخام القبر مسكنه....... ورب ميت على أقدامه انتصب

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن العصا أداة للتقويم والتربية والإصلاح:
    إذا صاحبتها يد حانية ولسان هادئ وقلب رحيم، العصا أداة نافعة متى ما وجدت من يستخدمها بحكمة ولطف، متى ما وضعت في موضعا أفادت كالدواء تماما.
    إننا نريد العصا حين نستنفذ كل سبيل للعلاج وعنده آخر الدواء الكي، ومن الكير يخرج الذهب.
    وقسا ليزدجروا ومن يكو حازما...... فليقس أحيانا على من يرحم
    وهي كذلك أداة لتوكأ والهش على الغنم وفيها مآرب أخرى، وإن للخير سبل، وكم من مريد للخير لا يدركه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

    علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لكل بداية في الدنيا نهاية:
    ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع:
    إذا تم شيء بدأ نقصه............ ترقب زوالا إذا قيل تم
    بينما المولود يولد ويفرح به ويؤذن في أذنه، إذ به بعد وقت ليس بالطويل يحمل ليصلى عليه ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين آذان وصلاة، ولا إله إلا الله ما أقصرها من حياة.
    آذان المرء حين الطفل يأتي......... وتأخير الصلاة إلى الممات
    دليل أن محياه يسير ............... كما بين الآذان إلى الصلاة
    بينما الإنسان في أهله في ليلة آمنا مطمأنا فرحا يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيدا فريدا لا مال ولا ولد ولا أنيس ولا صاحب سوى العمل، وإذا به خبر يخبر به.
    بينا يرى الإنسان فيها مخبرا........فإذا به خير من الأخبار
    بينما الطبيب يعالج من مرض إ به يصاب بنفس المرض، فلا طبه ينفعه، ولا دواءه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقي غيره على يديه وحال الناس:
    مال الطبيب يموت في الداء الذي..........قد كان يبرأ مثله في ما مضى
    مات المداوي والمداوى والذي............جلب الدواء وباعه ومن اشترى
    ما أنت والله إلا كقطعة ثلج تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى وكأن لم تكن:
    سيصير المرء يوما.....جسدا ما فيه روح
    نح على نفسك يا.....مسكين إن كنت تنوح
    لست بالباقي ولو.....عمرت ما عمر نوح
    فأنتبه من رقدت..........الغفلة فالعمر قصير
    واطّرح سوف وحتى.....فهما داء دخيل
    واتقي الله وقصر أملا...ليس في الدنيا خلود للملأ
    الموت لنا بالمرض ...... إن لم يفاجئ اليوم فاجئ في غد
    الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب، ومن باب إلا وبعده دار.
    لا دار للمرء بعد الموت يسكنها....... إلا الذي كان قبل الموت يبنيها
    فإن بناها بخير طاب مسكنه.......... وإن بناها بشر خاب بانيها
    كتب الموت على الخلق فكم......... فل من جيش وأفنى من دول
    أين نمرود وكنعان ومن ............. ملك الأرض وولى وعزل
    أين من سادوا وشادوا وبنوا......... هلك الكل ولم تغني الحيل
    أين أرباب الحجى أهل التقى......... أين أهل العلم والقوم الأول
    سيعيد الله كل منهم................. وسيجزي فاعلا ما قد فعل
    هل شاهدت محتضرا في شدة سكراته ونزعاته ؟، هل تأملت صورته بعد مماته ؟، هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته ؟
    هل تذكرت ذلك فاستعديت لتلك اللحظات العصيبة فزدت في عملك وزدت في اجهاد نفسك واجتهادك.
    هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على يعوده فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به فيرجع إلى أهله حزينا كئيبا بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له:
    يا إمام الطعام يحرمك الله، قال يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم فو الذي نفسي بيده لقد لقيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
    فمثل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكيك الأسيرة وتتضرع وتقول من ليتمي بعدك ؟
    وابنك ينظر ما يتعجل من اليتم بعدك ويقول من لحاجتي أبتاه ؟، وأنت تسمع فلا ترد الجواب.
    هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتوارى في التراب، ثم تسألت عن حالها ما حالها.
    في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قالَ قال (صلى الله عليه وسلم):
    (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقها، إن كانت صالحت قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق).
    تصرخ صرخات تقض المضاجع، فهل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات، يا ويلها أين تذهبون بها، والله لصعقنا ولما حملنا جنازة أبدا، وهذا ما خشيه علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم قال كما في صحيح مسلم:
    (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
    فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل
    وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والأخوان، فما ينفع البكاء وما ينفع العويل وما ينفع إلا ما قدمت من صالح الأعمال.
    هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابدا قد حضرته الوفاة وحوله أهله يبكون فقال لوالده أيها الشيخ ما الذي يبكيك ؟
    قال أبكي فقدك وما أرى من جهدك.
    فبكت أمه فقال أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟
    قالت فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
    فبكى صبيانه وأهله وزوجه قال يا معشر اليتامى ما الذي يبكيكم؟
    قالوا نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.
    فما كان منه إلا أن صرخ وقال كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآ لا ةخرتي، أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهي، أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي، ثم صرخ صرخة عظيمة شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.
    أيها المسلم هل نظرت إلى القبور؟
    ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رق قلبه وذرفت عيناه إذ يرى فيها الأباء والأمهات والأصحاب والأخوان والأخوات، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريبا سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
    قد يتدانى القبران وبينهما ما بين السماء والأرض نعيما وجحيما.
    ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رق قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفورا فهيأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر فرأى صاحبه يدلى فيه فسأل نفسه على ماذا أغلق؟
    على نعيم أم على جحيم، على مطيع أم على عاص إلا رق قلبه.
    فلا إله إلا الله، هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم، ألا فتذكر هادم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات ليهتز قلبك خشية من الله فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.
    هاهو أبن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع وكنت قابضا على يده فأختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على قبر فبكى بكاء طويل.
    فقلت ما لك يا أمير المؤمنين ؟
    قال يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا ابن عوف هذه الحفرة، قال فأبكاني والله.
    فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.
    هاهو (صلى الله عليه وسلم) كما في المسند من حديث البراء، أنه رأى أناسا مجتمعين فسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل على قبر يحفرونه ففزع (صلى الله عليه وسلم) وذهب مسرعا حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبته وبكى طويلا ثم أقبل على الناس وهو يقول:
    يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
    فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أبي ذر:
    (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تأط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومالك واضع جبهته ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، (وفي رواية المنذر)، ولحثوتم على رؤوسكم التراب).
    والله لو علمن حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته،الأمر خطير جد خطير:
    يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل..... فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
    فلتنزلن بموضع ينسى الخليل به الخليل.............. وليركبن عليك من الثرى حمل ثقيل
    قرن الفناء بنا فلا يبقى العزيز ولا الذليل
    خالف هواك إذا دعاك لريبة.......... فلرب خير في مخالفة الهوى
    حتى متى لا ترعوي يا صاحبي........ حتى متى ولا ترعوي و إلى متى

    علمتني الحياة في ظل العقيدة :
    أن من خدم المحابر خدمته المنابر، وكم من سراج أطفأته الريح وكم من عبادة أفسدها العجب.
    وأن وضع الندى في موضع السيف في العلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى.
    وأن من أراد أمير كأبي بكر فليكن كخالد وسعد.
    وأن سوف جندي من جنود إبليس.
    وأن معظم النار من مستصغر الشرر
    وأن الحق لا بد أن تحرسه قوة.
    وأنه بالشكر تدوم النعم
    وأن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
    وأن النار من بري العودين تذكى... وأن الحرب مبدأها كلام
    وأن ثمن العزة قد يكون قطرة دم.
    وأن الجواد قد يكبو، وأن الصارم قد ينبو.
    وأن النار قد تخبو.
    وأن الإنسان محل النسيان.
    وأن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.

    وأخيرا علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعظم سلاح بأيدي المؤمنين هو الدعاء:
    سهام الليل لا تخطئ ولكن...... لها أمد و للأمد انقضاء
    لا تسألن بُني آدم حاجة........ واسأل الذي أبوابه لا تحجب
    الله يغضب إن تركت سؤاله.... وبني آدم حين يسأل يغضب
    سلاح عظيم غفل عنه المؤمنون، لن يهلك معه أحد بأذن الله، إنه الدعاء، الالتجاء إلى رب الأرض والسماء: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
    )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
    يقول ابن كثير عليه رحمة الله:
    كان بقي ابن مخلد أحد الصالحين الأخيار عابدا قانتا خاشعا أتته امرأة صالحة فقالت:
    يا بقي إن ابني أسره الأعداء في أرض الأندلس وليس لي من معين بعد الله إلا ابني هذا فسأل الله أن يرد علي ابني وأن يطلقه من أسره.
    فقام وتوضأ ورفع يديه إلى الحيي الكريم الذي يستحي أن يرد يد العبدين صفرا خائبتين سبحانه وبحمده، دعا الله عز وجل أن يفك أسر ابنها، وأن يجمع شملها بابنها، وأن يفك قيده.
    وبعد أيام وإذ بابنها يأتي من أرض الأندلس، فتسأله أمه ما الذي حدث ؟
    قال في يوم كذا في ساعة كذا، وهي ساعة دعاء بقي، سقط قيدي من رجلي فأعادوه فسقط، الحموه فسقط فذعروا ودهشوا وخافوا وقالوا أطلقوه، قالت فعلمت أن ذلك بدعاء صالح من عبد صالح.
    )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
    الدعاء الدعاءَ هو العبادة.
    هاهو صلة ابن أشيم كان في غزوة فمات فرسه، فتلفت يمينا وشمالا ثم قال:
    اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة فأني استحي من سؤال غيرك.
    وعلم الله صدقه في سرائه وضرائه فأحي الله عز وجل له فرسه.
    فركبه حتى إذا وصل أهله قال لغلامه فك السرج فإن الفرس عارية، فنزع السرج فهبط الفرس ميتا.
    ولا عجب فمن توكل على الله ومن التجأ إلى الله أجاب دعائه وحفظه ولو كادته السماوات والأرض لجعل الله له من ذلك فرجا ومخرجا.
    فمرة أخرى إذا ادلهمت الخطوب.
    وضاقت عليك الأرض، وقل الناصر.
    وزمجر الفساد، ودعم الباطل، وكبت الحق.
    وعير البخيل الكريم، وعير العيي الفصيح، وعير الظلام الشمس.
    وطاولت الأرض السماء سفاهة...... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
    وتمنط كل جبان، وتخلى الأمناء، ورفع السفهاء، وتظاهر بالوفاء كل خوان.
    ونطق الرويبضة، وغدى القرد ليثا وأفلتت الغنم فأرفع يديك إلى من يقول:
    )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
    يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر...... وحملته في فلكك المشحون
    يا من أحال النار حول خليله........ روحا وريحانا بقولك كون
    يا من أمرت الحوت يلفظ يونسا..... وسترته بشجيرة اليقطين
    يا رب إنا مثلهم في كربة........... فأرحم عبادا كلهم ذي النون
    اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المبارك باسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت، أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا اللسنة ذاكرة، وقلوبا خاشعة، وأعينا مدرارة، وإيمانا نجد حلاوته يوم أن نلقاك.
    رباه إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك وحملة كتابك وأتباع رسولك يرجون رحمتك ويخشون عذابك.
    اللهم الطف بنا، اللهم الطف بنا، اللهم ارحمنا.
    رباه لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
    يا مغيثا لمن لاذ بحماه، يا قريبا لمن دعاه، يا معيذا من استعاذ به أجرنا من النار، ومن دار الخزئ والبوار.
    اللهم إن أردت بعبادك فتنة فأقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
    نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفنا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين.
    اللهم وأجعل ما قلناه خالصا لوجهك الكريم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
    تم الكلام وربنا محمود....... وله المكارم والعلا والجود
    وعلى النبي محمد صلواته..... ما ناح قمري وأورق عود

ساهموا يا احبة : دروس ومحاضرات مفرغة !

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كتب ومحاضرات دعوية(انكليزي)
    بواسطة هادي كيلاني في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 20-07-2008, 08:02 PM
  2. ساهموا في انشاء مسجد لندن بضغطة زر
    بواسطة الفارس2 في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 22-03-2007, 12:51 PM
  3. هل يوجد محاضرات مفرغة
    بواسطة rafate87 في المنتدى منتديات محبي الشيخ أحمد ديدات
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-04-2006, 12:09 PM
  4. كلنا ذو خطأ- محاضرة مفرغة للدكتور على القرنى
    بواسطة نسيبة بنت كعب في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 12-07-2005, 12:00 AM
  5. ساهموا في انشاء مسجد لندن بضغطة زر
    بواسطة الفارس2 في المنتدى منتدى نصرانيات
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-01-1970, 03:00 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

ساهموا يا احبة : دروس ومحاضرات مفرغة !

ساهموا يا احبة : دروس ومحاضرات مفرغة !