ورغم المكاسب التي تَحَصَّل عليها النصارى مما لم يحدث مثله في ذي عهد سبق إلا أنهم يطمحون في تحقيق المزيد في تحدٍ واضح للدولة التي يسكنونها، أو حتى تسكن فيهم -كما يعبر البابا شنودة-، وصار البعض يستعدي الأمريكان والغرب على هذا البلد بزعم حقوق الإنسان، هذه الحقوق التي لا يتحصل المسلمون على شيء منها في العراق وأفغانستان وفلسطين، وهنا وهناك، ونسى هؤلاء أن من يلعب بالنار تحرقه، فلم ينصفهم إلا المسلمون حتى على ظلم بني دينهم وقصة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في فتح مصر شاهدة على ذلك، والنصارى هم أول من سيضيع حقه وأمنه إذا داهم الأمريكان الديار.

ثانيًا: نرفض ظلم النصارى، ولابد من إنصافهم وإعطائهم كافة الحقوق المشروعة، فالظلم ظلمات والعدل أساس الملك وبه قامت السموات والأرض (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة:8)، وربنا يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.

وقد تعلمنا من دين الله جواز البيع والشراء مع أهل الكتاب، والتزوج من نسائهم، والأكل من ذبائحهم، وعيادتهم في مرضهم، وهديتهم وضيافتهم، ورحمتهم بالرحمة العامة كإطعامهم من جوع، وسقياهم من عطش، ومداواتهم من مرض، ومجادلتهم بالتي هي أحسن.

هذا العدل وهذا الإنصاف لا يتحقق وفق أهواء وآراء العلمانيين أو الوطنيين أو النصارى، ولكن وفق ما جاء في كتاب الله وفي سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبتطبيق عقود وعهود الذمة.

فالأمة المسلمة ينبث دستورها من دين ربها لا من أهواء وزبالات أذهان البشر، وإذا تحاكم إلينا النصارى حكمنا فيهم بشرع الله -تعالى-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(المائدة:49).

ولسنا بدعًا في ذلك، فالأمريكان الذين يستعدونهم علينا، يتحكمون في رعايا الدولة من المسلمين بدستورهم حتى في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، ولا يسمحون للمسلمين بالتحاكم بشريعة ربهم في أمريكا، وبعض البلدان الأوروبية لا تسمح ببناء المساجد ورفع الآذان حتى يومنا هذا كإيطاليا وغيرها، رغم ادعاءات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

ثالثًا: خطاب الأب متَّى المسكين يصلح -إن صلح- للنصارى، ولا يصلح للمسلمين جملة وتفصيلاً، فالإسلام يعلو ولا يُعلى، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ)(آل عمران:19)، والإسلام دين ودولة، والخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، فليس دينًا كهنوتيًا، ورهبانية هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله، وهذا الدين يشمل كل ناحية من نواحي الحياة سياسة واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، وسواء تعلقت بالمسجد أو السوق، بالحرب أو بالسلم، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، ودين الإسلام هو الذي رضيه -سبحانه- للعالمين دينًا من لدن آدم حتى قيام الساعة.

وشريعة الإسلام حاكمة ومهيمنة على سائر الشرائع، وعندما ينزل عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان يحكم بشريعة الإسلام ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، فهو بذلك حاكم من حكام المسلمين.

وعندما يقف بين يدي ربه -سبحانه وتعالى- يوم القيامة، ويقال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وتكون إجابته: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد)(المائدة:116-117).

فهو لم يقل لهم أنا الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، ولكن قال لهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وشأنه في ذلك كشأن جميع الأنبياء والمرسلين.

وخطاب متَّى المسكين ينطبق عليه المثل السائر: «بعض الشر أهون من بعض»، وكنا نتمنى له ولغيره أن يُسلم وجهه لل؛ه فالإنجيل الذي بين يديه يأمر بذلك، والمسيح الذي يتابعه يدعوه للإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

رابعًا: العلمانيون اللادينيون يطيب لهم الاستدلال بحديث متَّى المسكين وما شابهه، لأنه يكرس لدعوتهم المستوردة في فصل الدين عن الدولة، وحتى ينفردوا هم بقيادة البلاد والعباد بالدين الذي ابتدعوه واخترعوه، ونحن بدورنا لا نقبل الاحتجاج علينا إلا بكتاب الله وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:65)، وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا)(الأحزاب:36)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)(النساء:59)، وقال: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:162-163).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حجة الوداع: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ) [رواه مسلم]، حتى لا نطلق على العلماء وصف رجال الدين ولا نفصل بين رجال الدولة وغيرهم ممن يسمونهم رجال الدين، ولا نساوي الأزهر بالكنيسة، ولا نضع شيخ الإسلام والبابا شنودة في سلة واحدة كما يفعل العلمانيون الذين لا خلاق لهم.

خامسًا: العلمانية والشيوعية والقومية أديان عند أصحابها، ومن عجيب الأمر أن تضيق صدور هؤلاء بشرع الله!! ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا سمعوا من يطالب بتطبيق الشريعة أو يُظهر شعائر إسلامه، ويستخدمون تعبيرات لا يفهمها معظم الناس كالليبرالية والدولة المدنية والثيوقراطية... في الوقت الذي لا يجد فيه العلماني مثلاً غضاضة في أن يحكمه شيوعي أو نصراني، وهذا وذاك صاحب عقيدة وقد يصبغ البلاد والعباد بهذه العقيدة كليًّا أو جزئيًا، والشواهد على ذلك كثيرة، وكل إناءٍ بما فيه ينضح، والسلوك مرآة الفكر.