ولكي تروج الخدعة على السفهاء؛ بدأ بتزيين عبادة الأصلح منهم فالأصلح، ليسبغ على الضلالة صفة المشروعية في أنفسهم، حتى وصل بهم إلى عبادة شياطين الإنس. ثم انتقل بهم بعد ذلك في سلسلة من الضلالات من عبادة الجمادات كالأشجار والأحجار والجبال والأنهار، والسماء والكواكب، والأعضاء التناسلية، وعبادة الحيوانات والحشرات والأسماك، كعبادة العجل والحمير، وعبادة الحيات والجعل، وعبادة الحيتان والتماسيح، وكلها وثنيات تتخفى ورائها الشياطين، حتى وصل بهم إلى عبادة شياطين الجن، ليتدرجوا في عبادتهم حتى ينتهوا إلى عبادة إبليس. فالسجود تحت قدمي إبليس، وتقبيل دبره، واستنشاق فيح ضراطه، هو الأمل المنشود الذي يعيش لأجله كل ساحر. فإن كان هذا مما تأنف منه الفطرة السليمة، وتأباه النفس القويمة، إلا أن السحرة يحسدون بعضهم بعض على هذا. فقد استغل الشيطان أهواء الناس ومخاوفهم فأضفى على بعض البشر الفوائق حتى يظن الجاهل أنها خوارق، ليظفروا بالتأييد والسلطان المسوغ لضلالهم، ومن هنا بدأ ظهور الرجل الخارق، والرجل الأسطورة الذي يفزع إليه في الملمات والمصائب، وينظر إليه بعين الرهبة والمهابة والتبجيل.
فالشيطان متخفيًا يستعين علينا بقدراته الفائقة، ومن ثم يسيطر على وظيفة عقولنا بفائق قدراته. وإذا كان التفكير هو وظيفة العقل، فالشيطان يوجه تفكيرنا باستفزاز انفعالاتنا بقدراته الفائقة، والتي تؤثر في سلامة التفكير، إذًا فالشيطان يوجهه تفكيرنا بفوائقه، وما هذا إلا هو السحر بعينه، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء: 64، 65]. فخيل الشيطان ورجله تفوق قدراتهم قدراتنا المتواضعة كبشر، فبقدراته الفائقة يتسلط على الإنسان ويشاركه في المال والولد، فيظهر المال الشيطاني المسخر في أعمال الشر، ويظهر الولد الشيطاني الفائق القدرات والمخرب الذي يحكم العالم ويدمره، كأمثال فرعون وهامان، والنمروذ، وقارون، هذا في الأزمان الغابرة، أما في زماننا فحدث ولا حرج، إلا ما رحم ربي منهم. فأيدي التخريب في أرجاء العالم، قد وضعهم أسيادهم في منصبهم ليكونوا أداة لتحقيق أهدافهم وأغراضهم. أو مخدوع تتلاعب به الأيادي الخفية وتحركه صوب أهدافها، هذا ليس إلا لجهله، وضحالة علمه بخبايا وخفايا السحر والسحرة، فالأمر لله من قبل ومن بعد.
فقد شاع في زماننا هذا استثمار المال على حساب استثمار الإنسان، فتفشت البطالة وعمت الفوضى، وبذلك أمكن إحكام السيطرة على البشر، وابتزاز طاقاتهم وتوجيه قدراتهم، ليتم إخضاعه تحت وطأة ظروف سياسية واجتماعية وأخلاقية تتنافى والفطرة، ليتم حجب المال عنه، وتجميده في صورة سبائك ذهبية مكدسة داخل خزائن عملاقة. فاستثمار المال وتحويله إلى سبائك ذهبية لا يمكن أن يتم إلا من خلال نظام ربوي عالمي، أي حصد الأموال بدون مقابل مادي لها. وهذا هو ما وفرته الآلة والتقنية الحديثة فجارت على اليد العاملة، وبذلك يحدث التضخم الاقتصادي، وتندر مصادر الدخل، لأن المال صار مجمدًا وغير مستغل في استثمار قدرات البشر والاستفادة منهم، هذه هي خطة الشطان القديمة الحديثة، لم تتغير ولم تتبدل. وهكذا تم صناعة العجز البشري، وذلك بشل قدرات الإنسان، والعودة به إلى البيئة البدائية وكأننا نعيش في عصر إنسان الكهوف، لا في عصر التقنية الحديثة والمتطورة، رغم الفارق الشاسع بين العصرين.
وليت المال متوافر ومتاح، بل إذا توفر شيء قليل منه؛ فإن آلاف المصارف في انتظاره قبل الحصول عليه. فالمال واقع تحت سيطرة حفنة من السحرة وعملاء الشيطان، يحركونه بين المصارف حسب مصالح إبليس وغاياته، وليته يتم حسب مصالحهم وأهواءهم الشخصية. وهذا ما عزز التواكل بين الناس، خاصة في زمن اختلاط التيارات الفكرية، وتنامي المذاهب الوضعية، حيث صارت الضرورة ملحة في ظهور رجل خارق يخلص الناس من معاناتهم وآلامهم، وهذا الرجل الأسطوري تختلف مسمياته بين الملل، أما خطرهم على الإطلاق فهو المسيح الدجال المنتظر ظهوره بين الحين والآخر، وزاد من فرصة خروجه علو اليهود في الأرض بالسحر.
إن ما ترسخ في عقول الناس عامة، من الاعتقاد في امتلاك بعض البشر لقدرات خارقة للعادة، لا يخفى على أحد العقلاء من أهل الفكر والملاحظة، وحتى هؤلاء برغم مكتسباتهم العلمية والثقافية، إلا أنه دائمًا ما يتوارى في عقولهم رواسب عقائدية مبهمة، على هيئة مخيلات وتساؤلات لا إجابة عليها، لتبقى مثل هذه الشوائب عالقة بالأذهان، لتظهر انعكاساتها تلقائيًا بمجرد الالتقاء برجل خارق، فإما يضطر حيالها لاتخاذ موقف المكذب، فيتخلص من عبئها بنسبها إلى الشعوذات، وإما يتقبلها باستسلام وتنبلة، فينسبها جورًا إلى الكرامات والمعجزات، بدون الالتفات إلى أصلها، فلا يسعى للتحقق من مصدرها؛ أهي من الله، أم من الشيطان؟ أما في عصرنا الحالي فالبعض يتناولها باعتبارها قدرات نفسية خاصة، وهذا إمعان منهم في التضليل.
وبسبب الجهل الشائع بخصائص عالم الجن وقدراتهم الفائقة، ومدى تداخلها في قدرات البشر، ولعدم تأصيل هذا العلم وتدوينه إلى عصرنا الحالي، فلن يصل أحد إلى إجابة شافية كافية لهذه التساؤلات. ولن تتبدد هذه الأوهام حول خارقية بعض البشر، بل سوف تزداد علوقًا بالأذهان وثباتًا، وستتعمق الرهبة منهم إلى دركات سحيقة، إلا ما قد يطرحه البعض من مجرد تفسيرات فضفاضة، ليضفوا عليها بأسلوبهم البلاغي مسحة يقينية، فتنتقل من مجرد فروض احتمالية ظنية، إلى نظريات حتمية يقينية، ليتأكد الباطل، ويثبت في العقول، وتتسع مساحة انتشار الجهالات، لأن هذا أو ذاك تكلم بصيغة الجزم، وربما بلا سند له من عقل أو نقل. فطرح التفسيرات الفضفاضة بأسلوب الجزم، ما هو إلا مجرد تخدير للعقول، ومثبط لنشاط حركة الوعي والإدراك، وكبح لجماح التساؤلات الثائرة في أذهان الناس، بصفتها أسئلة مؤرقة لجميع الأطراف، سواء السائل أم المسؤول، فلا إجابات واضحة عليها.
والسبب في ذلك غياب الربط بين دلالة النصوص الشرعية على الغيبيات، وبين الواقع الفعلي الملتمس بالتجربة، بما يفسر جزيئات النص الشرعي المبهمة، ويعيد الربط بينها في نسق متكامل صحيح. ولن يتاح هذا الربط إلا في وجود تجربة عملية، فالغيبيات المطروحة في النصوص الشرعية لا يمكن تفسيرها وفهمها إلا إذا أدركت بواسطة الحواس، فتحولها إلى أمر مدرك حسيًا ممكن وغير مستحيل، من خلال وسائل الاتصال بين عالم الجن وعالم الإنس، وهذا مما هو في قدرة الجن، وليس في جملة قدراتنا نحن بني البشر، فنحن مهيئون فقط لاستقبال هذا الاتصال، وعاجزون عن إرساله، وهذا يعني تجردها كتجارب شخصية، قد يدركها البعض، ولا يدركها البعض الآخر، لذلك ينحصر الإيمان بها في إطار النص شرعي. ولأن عالم الجن عالم غيبي فائق القدرة، فليس كل ما فيه يوافق قدرة العقل البشري على إدراكه، إلا فيما وافق ما انتهى إليه العلم البشري، لذلك فالتجربة المتخصصة في ضوء معطيات شرعية، لها وحدها القدرة على تفسير نصوص الغيبيات.
وسنستعرض واحدًا من حالات الاتصال بين الجن والإنس، وكيف نتج عن هذا الاتصال صناعة أحد الرجال الأسطوريين. حيث يصف (وولف ميسنج) كيفية حدوث هذا الاتصال، وقد كان لا يزال طفلاً صغيرًا، يقول: (ولدت في 10 أيلول 1899، فوق تراب الإمبراطورية الروسية في قرية صغيرة اسمها غورا كالواريا، قرب وارسو. كانت أسرة مسينغ مدقعة الفقر، ومشتطة في تدينها، وقد حفظ وولف (التلمود) عن ظهر قلب وهو في السادسة من العمر بفضل ذاكرته المعجزة. وقد قرر الحاخام أن على الولد أن يذهب إلى مدرسة دينية كي يصير حاخامًا بدوره. واغتبط والدا مسينغ للفرصة التي أتيحت لابنهما، لكن وولف رفض ذلك رفضًا قاطعًا. يتذكر مسينغ فيقول: (يومئذ حدثت أولى عجيبة في حياتي، فقد أرسلني والدي لأشتري علبة سجاير، وكان الليل قد أرخى سدوله لدى عودتي. كان مدخل كوخنا الخشبي غارقًا في الظلام. وفجأة ظهر على درجات السلم شخص مارد، يقدح شررًا، يرتدي ثوبًا أبيض، وقال صوت: (يا بني، إنني رسول من السماء، بعثت كي أتتنبأ بمستقبلك! اذهب إلى المدرسة! صلواتك مقبولة في السماء!). وعلى أثر هذه الكلمات، اختفى الشبح. كنت آنئذ عصبي المزاج، سريع التأثر والانفعال، صوفي الطبع؛ وقد كان لتلك الكلمات وقع الصاعقة علي؛ فسقطت على الأرض مغمى علي. حين ثبت إلى رشدي، كان أبي وأمي يتلوان الصلوات علي، ولما تمالكت نفسي، رويت لهما ما حدث لي. وبعد معجزة كتلك، لم يعد في مقدوري أن أقاوم وذهبت إلى المدرسة الدينية في القرية المجاورة).()
تابع الجزء الرابع
المفضلات