لقد قرن الله تبارك وتعالى بين الخوف والحزن في آيات كثيرة، وهما من أشد أدواء النفس فتكًا بالإنسان وتأثيرًا عليه، ثم جعل النجاة منهما في اتباع هديه قال تعالى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38]. وبموالاته تبارك وتعالى، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62]. وبالإسلام له عز وجل، قال تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112]. وبالاستقامة على منهجه وشرعه قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13]. فمن حاد عن أسباب النجاة هذه وقع في شباك الخوف والحزن فهلك، ومن تمسك بها عصم نفسه من تأثير الخوف الحزن فنجا. وما حدث أن الناس فزعوا إلى الأسطوريين سواء من الجن أو الإنس، فاستعاذوا بهم للنجاة والتخلص من الحزن والخوف، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. وبهذا غالى الناس في الرجل الأسطورة بغير وجه ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، فعميت أبصارهم عن رؤية هؤلاء الخلق على حقيقتهم.

وإن الخوف والحزن هما من شراك الشيطان التي يحرص على الإيقاع بفرائسه فيها، سواء وقعوا فيها في الدنيا أو الآخرة وهي الاختيار الأولى والأجدر بتوصيل فريسته إليه، والوقوع في الخوف والحزن في الآخرة هما من وسائل سيطرة الشيطان واستحواذه على العباد، قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. فباتباعهم خطوات الشيطان تسلط على أجسادهم وعقولهم، واستفزز انفعالاتهم النفسية، فأصابهم بالحزن، فهيجهم بعضهم على بعض، قال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة: 10]، فالشيطان يوقع الناس في النجوى، ثم ينهض إلى المؤمنين يوسوس إليهم ليصيبهم بالحزن والاكتئاب، لكن توكلهم على الله يمنع وقوع هذا الضرر بهم. أما مع المتواكلين فقد وجه ردود أفعالهم في اتجاه مصالحه، إلى أن صاروا ألعوبة طيعة بين يديه، قابلة للتشكيل، يحركها كيف يشاء، فأصابهم الشيطان بوابل من الأمراض النفسية، وعلى رأسها الاكتئاب مرض العصر الخطير، فزعم الرجال الأسطوريون من الأطباء قدرتهم على علاج هذا الداء بالطب النفسي العلماني وبالعقاقير المهدئة، والسبب كما تبين علاجه ديني صرف.

فبدأ الشيطان يحشد جنده ليبث وحيه في التحريش بين الناس بالوسوسة في صدورهم، مثيرًا لمشاعر الحسد والبغضاء بينهم، عن جابر قال: سمعت النبي r يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)، () كما أدخل الحسد بين ابني آدم، حتى وقع في الإثم فقتل أخاه، ولم يكن ليقدم على ذلك إلا بوحي من الشيطان، فقد استفزه الشيطان وحرك انفعالات نفسه فنزع إلى الشر. فكانت هذه هي بداية خضم الصراع المتنامي بين البشر، حتى فزع كل منهم للنبش عن أسباب القوة والغلبة، والتي قام الشيطان بتوفيرها، ولكن بمقابل باهظ يفوقها ثمنها بكثير، فكان السحر والفوائق على أيدي رجال أسطوريين، قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة: 102]، فمن الناس من استعاذ بالله عز وجل فأمده بخوارقه فزادهم هدى، ومنهم من استعاذ بالشيطان فأمد بفوائقه فزادهم رهقًا.

فتدبرنا للقصص القرآني يعيبه تجاهل دور الشيطان في سياقها، وبهذا نخرج الشيطان من دائرة المسؤولية عن الفوائق التي تظهر على أيدي البعض، وكأن الإنسان فطر وجبل على المعصية، ولا دور للشيطان وراء هذا، فتنبه إلى أن صرفنا عن هذا التدبر هو من عمل الشيطان وأهدافه، حتى لا نقف على نقاط ضعفه. وهذا العبث هو من جراء التهوين من شأن تسلطه، وتجاهل التحصن من كيده بالعلم. فإذا كان كيد الشيطان ضعيفًا، قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76]، فإن انحرافنا عن المنهج الصحيح يجعلنا في موقف أشد ضعفًا من الشيطان وكيده، قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42]، فتبعية الشيطان توقع المتبع تحت تسلطه، قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النور: 98: 100]، أي أن الاستعاذة من الشيطان تتجاوز مجرد ترديد ألفاظها، لتشمل الالتزام بمقتضياتها، بالتوكل على الله بالأخذ بأسباب رفع سلطانه، بالتبرؤ منه ومن موالاته، ومخالفة أمره ومعصيته، والرجوع عن اتباع خطواته، وإشراكه في عبادة الله. فكل ذلك مناط تسلطه علينا بفوائق تعجز عقولنا عن استيعابها، فتنسب جهلاً إلى الخوارق والمعجزات، فقبولنا الخاطئ لحقيقتها يضعنا تحت تسلطه.

إذًا فلا يقع الناس في عبادة الشيطان دفعة واحدة، ولكنهم ينحدرون في تتدرج على مراحل وخطوات مقبولة ومستساغة بما يوافق أهواء الناس، والتي لها الحظوة والتأثير الفعال في أنفسهم. فينتقل الشيطان بالإنسان تدريجيًا من طريق الإيمان، وإفراد الله بالعبودية، حتى يصل به ليس إلى مجرد الشرك فقط، ولكن إلى حد الكفر بالله تعالى والإلحاد، وبالتالي عبادة الشيطان من دون الله، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60، 62]. وأول مسوغ يفضي إلى عبادة الشيطان هو الاعتقاد الوثني، وأقرب الأوثان تجسدًا هم البشر أنفسهم، فمشاهدة قدراتهم الفائقة، هو الأكثر قبولاً في أنفسهم المريضة.



تابع الجزء الثالث