الكلمة السابعة عشرة: قطع ووصل في ما
وردت "فيما" في القرآن: (33) مرة؛ وصلت في (22) موضعًا، وقطعت في (11) موضعًا؛
فقد قطعت في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في ما ءاتَـاـكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (48) المائدة.
وقطعت في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلـاـئِفَ ألأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاـتٍ لِيَبْلُوَكُمْ في ما ءاتَـاـكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165) الأنعام.
ما أتانا الله تعالى هو عطاء منقطع للابتلاء، قد يزول، وقد يبدل في أي وقت، وقد يفارقه صاحبه ليكون من نصيب ورثته، وعين العطاء عمره قصير، ويجدد على انقطاع بغيره؛ كان العطاء مما تنبت الأرض، أو من بهيمة الأنعام، أو كان بناءً، وليس هو بالعطاء الدائم كعطاء الآخرة، وعلى ذلك فقد وافق الرسم حال العطاء في الحياة الدنيا.
وقطعت في قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـاـنُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ في ما رَزَقْنَـاـكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَـاـتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) الروم.
وفي الآية مقطوعان؛ قطع لملك اليمين على الشراكة في مال مالكه، وقد بيناه في قطع "من ما"، وقطع للرزق عن صاحبه؛ لأنه من عطاء الله تعالى غير الدائم، وقد جاء الرسم بالقطع موافقًا لذلك، ومع ذلك هم لا يقبلون مما ملكت أيمانهم الذين أعملوهم في رزقهم شركاء لهم فيه.
فكيف يقبل الله عز وجل شراكة من أعملهم في الأرض واستعمرهم فيها؟!.
وقطعت في قوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(145) الأنعام.
الأصل في الأشياء الإباحة، ولا يقطع بتحريم شيء إلا ما ورد في تحريمه نص؛ ولذلك جاء الرسم بالقطع موافقًا لما عليه الحكم بالإباحة إلا ما استثني بالتحريم.
وقطعت في قوله تعالى: (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسهَا وَهُمْ في ما اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـاـلِدُونَ(102) الأنبياء.
الأصل في الاشتهاء أن يكون للمفقود وغير الموجود، ونعيم الجنة من الكثرة بما لا يعد ولا يحصى، فيمر وقت طويل بالانشغال عن بعضها بما لذ وطاب من أنواع أخرى من النعيم، فعند ذلك تشتهيه أنفسهم، فيقولون؛ (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا (25) البقرة. فقد وافق القطع حال المشتهي مع ما يشتهيه.
وقطعت في قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ في ما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) النور.
فقد وافق القطع في الآية؛ قطعهم ما أفاضوا فيه من القول، بعد أن تبين لهم الحق، وان ما قد قيل في حادثة الإفك التي نزلت فيها هذه الآية؛ هو بهتان عظيم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقطعت في قوله تعالى: (أَتُتْرَكُونَ في ما هَـاـهُنَا ءامِنِينَ(146) الشعراء.
وقد وافق القطع تقريع صالح عليه السلام وتوبيخه لقومه؛ على التمسك والاغترار بالمنقطع الذي لا استمرار له ولا خلود، والمقطوع عنهم؛ لأنه لا يني عليه أجر في الآخرة من زكاة تخرج منه، أو نفقة، أو صدقات، وهو الذي قطعهم عن الله، فكفروا به، وبالآخرة.
وقطعت في قوله تعالى: (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَـاـلَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ في ما لا تعلمون61) الواقعة.
وقد وافق القطع ما قطع عنا العلم به والمعرفة له مكانًا وزمانًا.
وقطعت في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَـاـعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) البقرة.
وقد وافق القطع رفع الحرج عن أهل الزوجة التي توفي عنها زوجها؛ إن قطعت الزوجة الوصية، وخرجت من بيت زوجها الذي وصى لها الانتفاع بالبيت حولاً كاملاً بعد وفاته عنها.
وقطعت في قوله تعالى: (قل اللهم َّ فَاطِرَ السَّمَـاـوَاتِ وَالأرْضِ عَـاـلِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـاـدَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَفي ما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(46) الزمر.
وقد وافق القطع الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، وباعد بينهم في الدنيا؛ فمنهم من اتبع الحق، ولفظ "عبادك" عام يعم كل الناس ولا يراد به فئة أو أمة بعينها، ومنهم من انصرف إلى الباطل، والبعد بينهم في الآخرة أشد وأعظم مما في الدنيا.
وقطعت في قوله تعالى: (ألا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَـاـذِِبٌ كَفَّارٌ(3) الزمر.
وقد وافق القطع إسقاط عبادة غير الله تعالى وإبطالها، بلا عودة أبدًا إليها، والتفريق بين العابدين وبين من يعبدونهم ليقربونهم إلى الله زلفى؛ فقد جاء في تفسير هذه الآية في تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي؛ "واعلم أن الضمير في قوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى) عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله، وهي قسمان؛ العقلاء وغير العقلاء؛ أما العقلاء فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيزاً والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم، ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام، إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء، أما بغير العقلاء فلا يليق" والحكم لا يكون إلا بين العقلاء.
أما الأصنام فإنها تجمع معهم في النار؛ (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) الأنبياء.
فالقطع والتفريق هو بين المشركين وبين الذين عبدوهم من الملائكة وعيسى والعزير، وإسقاط عبادتهم وقطعها بلا عودة أبدًا إليها.

أما وصلها في الحكم فيما يختلفون فيه؛ فإن هذا الاختلاف كان على الحق، فمنهم من اتبعه، ومنهم من أنكره وانصرف عنه وكفر به، فالحكم سيكون بإثبات الحق، وعلى ذلك كان الوصل فيها.
و"فيما" مكونة من "في" المستعملة مع الحركة والانتقال، ووصلها مع "ما" الموصولة بمعنى "الذي" علامة على ثبات ما اتصلت به فهو حق في الدنيا مختلف فيه، وحق في الآخرة عند الانتقال والحول إليها.
والحكم سيكون بين من أقر به واتبعه وآمن به، ومن أنكره وكفر به.
فالوصل في الآيات العشرة التالية بألفاظ الحكم أو القضاء أو الفصل هي كلها في الاختلاف على الحق الثابت في الدنيا والآخرة، فلا قطع ولا إبطال له، ولأجل ذلك كان الوصل فيها جميعًا؛
في قوله تعالى: (وقال الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـاـبَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـاـمَةِ فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113) البقرة.
وفي قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاـعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـاـمَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55) آل عمران.
وفي قوله تعالى: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـاـمَةِ فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(124) النحل.
وفي قوله تعالى: (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيََـاـمَةِ فيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69) الحج.
وفي قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَـاـبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَـاـتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(213) البقرة.
وفي قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65) النساء
وفي قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَـاـهُمْ مِنْ الطَّيِّبَـاـتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََـاـمَةِ فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93) يونس
وفي قوله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْفيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(19) يونس
وفي قوله تعالى: (وَءاتَيْنَـاـهُمْ بَيِّنَـاـتٍ مِنْ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا ألا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَيَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـاـمَةِ فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(17) الجاثية
وفي قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـاـمَةِ فيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(25) السجدة