بشاراته صلى الله عليه وسلم فى العهد الجديد
أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التى يتعين أن تكون " بشارات " برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
تلك البشـارات تعـلن أحياناً فى صورة الوعـد بملكوت الله أو ملكوت السماوات. وأحيانا أخـرى بالـروح القـدس. ومرات باسـم المعـزى أو الفارقليط ، وهى كلمة يونانية سيأتى فيما بعد معناها ، تلك هى صورة البشارات فى الأناجيل فى صيغها المعروفة الآن.
ففى إنجيل متى وردت هذه العبارة مسـندة إلى يحيى عليه السلام المسمى فى الأناجيل: يوحنا المعمدان. وفيها يقول: " توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات " (13).
فمن هو ملكوت السماوات الذى بشر به يحيى ؟! هل هو عيسى عليه السلام ـ كما يقول النصارى..؟!
هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: " توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات " (14).
فلـو كان المراد بملكـوت السماوات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه " البشارة " على لسان عيسى ؛ إذ كيف يبشر بنفسه ، وهو قائم موجود ، والبشـارة لا تكون إلا بشئ محـبوب سيأتى ، كما أن الإنذار ـ قسيمه ـ لا يكون إلا بشىء " مكروه " قد يقع. فكلاهما: التبشير والإنذار ـ أمران مستقبلان.
إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام. فدل ذلك على أن المراد بملكوت السماوات رسول آخر غير عيسى. ولم يأت بعد عيسى ـ باعتراف الجميع ـ رسول غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السماوات فى عبارة عيسى عليه السلامـ قولاً واحداً ـ وباحتمال أرجح فى عبارة يحيى ،إذ لا مانع عندنا ـ أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى عليه السلام.
أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل ـ القطعى ـ على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفى صيغة الصلاة التى علمها المسيح لتلاميذه ـ كما يروى مَتَّى نفسه ـ بشارة أخرى بنبى الإسـلام. وهذا هو نص مَتَّى فى هذا " فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك " (15).
ووردت هذه الصيغة فى إنجيل لوقا هكذا:
" متى صليتم فقـولوا: أبانا الذى فى السماوات ليتقـدس اسمك ليأت ملكوتك.. " (16).
ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه ، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين ، ويشفـون الأمراض ثم قال: " وأرسلهم ليكرزوا ـ أى يبشروا ـ بملكوت الله " (17).
أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول: " جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله " (18).
فهـؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقـون على أن يحيى وعيسى (عليهما السلام) قد بشرا بملكوت الله الذى اقترب. فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ؟
وأكاد أجزم بأن عبارة " المسيح ، قد كمل الزمان " لا تعنى سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة..!
ـ 3 ـ
أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل. فإنه يذكر هذه البشارات فى مواضع متعددة من إنجيله. ومن ذلك ما يرويه عن المسيح عليه السلام " الذى لا يحبنى لا يحفظ كلامى ، والكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للأب الذى أرسلنى. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزى (اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى) (19) الروح القدس ، الذى سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شىء ويذكركم بما قلته لكم " (20).
كما يروى يوحنا قول المسيح ـ الآتى ـ مع تلاميذه: " إنه خير لكم أن انطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر وعلى دينونة " (21).
ويروى كذلك قول المسيح لتلاميذه: " وأما إذا جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه لا يتكلم من نفسه. بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ".. ؟! (22).
فمن هو المعزى أو روح القدس أو روح الحق الذى بشر به المسيح عليه السلام حسبما يروى يوحنا..؟!
إن المسيح يقول:
إن ذلك المُعَرِّى أو الروح القدس لا يأتى إلا بعد ذهاب المسيح ، والمسيح ـ نفسه ـ يُقـِرُّ بأن ذلك المُعَرِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا ، وأعم نفعاً وأبقى أثراً ، ولذلك قال لتلاميذه: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَرِّى.
وكلمة " خير " أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابى ليأتيكم المعزى ولو كان " المُعَـزَّى " مسـاويا للمسيح فى الدرجة لكانا مستويين فى الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.
ومن باب أولى لو كان " المعزَّى " أقل فضلاً من المسيح. فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه ، لا مساوٍ له ولا أقل.
ثم يصف المسيح ذلك المُعَرَّى أو الروح بأوصـاف ليست موجـودة فى المسيح نفسه عليه السلام. ومن تلك الأوصاف:
أـ إنه يعلم الناس كل شىء.وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح فى الدنيا والدين. وذلك هو الإسلام.
ب ـ إنه يبكت العالم على خطية. والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجـناس البشر ، عربا وعجماً ، فى كل زمان ومكان. ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا الإسلام.
جـ ـ إنه يخـبر بأمور آتية ، ويذكـر بما مضى. وقد تحقق هذا فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذى كان على يديه صلى الله عليه وسلم فكم فى القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر ، وكم فيه من الإخبار بما سيكون فى الحياة الآخرة من أوصاف الجنة ، والنار ، والبعث ، وعلامات الساعة ، وتخاصم أهل النار ، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف " ، وندم من باعوا دينهم بدنياهم. إلخ.. إلخ.
وذكر بما مضى من أحوال الأمم ، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء ، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذى دار بين المحقين وأهل الباطل ، وعاقبة بعض المكذبين.. إلخ..إلخ.
ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة ، ووضعت أصول التشريع فى كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها ، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق ، وبين الناس بعضهم بعضاً. وحررت العقول ، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة. أى أنها أرشدت إلى كل شىء. وعلمت كل شىء مما يحتاج تعلمه إلى وحى وتوقيف..!
ذلك هو الإسلام ، ولا شىء غير الإسلام.
وشهدت ـ فيما شهدت ـ للمسيح عليه السلام بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل. وأنه عبده ورسوله (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ) (23).
وشهادة رسول الإسلام لعيسى عليه السلام منصوص عليها فى بشارات عيسى نفسه به (صلى الله عليه وسلم). فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح عليه السلام قوله الآتى. " ومتى جاء المعزَّى الذى سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهـو يشهـد لى.. وتشهـدون أنتم أيضاً لأنكم معى من الابتداء " (24).
روح القـدس هذا ، أو المعزَّى ، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى ؛ لأن عـيسى لم يبشر بنفسـه ، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبياً بعد عيسى غير محمد (صلى الله عليه وسلم) لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبى قبل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فتعين أن يكون روح القدس ، أو المعزَّى ، أو روح الحق تبشيرا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف ، كما يتحقق فيه معنى " الأفضلية " إذ هو خاتم النبيين ، الذى جاء بشريعة خالدة عامة ، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى "
وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشِّر وكفى بذلك شواهد.
أما البشارة باسم " الفارقليط " فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقـدس. ومعـلوم أن الكتاب المقدس خضع للترجمات وطبعات متعددة ؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً.
وتحت يدى ـ الآن ـ نسختان من الطبعـات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط ، وموضوع مكانها كلمة المعزى.
بيد أننى وجدت أن ابن القيم ، وابن تيمية ، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم" الفارقليط " كما أن الشيخ رحمت الله الهندى (رحمه الله) نقل فى كتابه " إظهار الحق " نصوصاً " عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام: 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت فى لندن
معنى " الفارقليط ":
كلمة يونانية معناها واحد مما يأتى:
الحامد ـ الحماد ـ المحمود ـ الأحمد.
أو معناها كل ما تقدم. فمعنى " فارقليط " يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها.
وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد ، والمحمد.
وفى الطبعات ـ اللندنية ـ المتقدم ذكرها ورد النص هكذا: " إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر ، ليثبت معكم إلى الأبد ".
" الفارقليط " روح القـدس الذى يرسله الآب باسمى هو يعلمكم كل شىء ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم " (25).
ومقارنة هذين النصـين بالنص المقابل لهما الذى نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديـثة حـذفت كلمة " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة " المعزى " كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة: " ليثبت معـكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التى فى الطبعات الحديثة للكتاب المقـدس أصلها مترجـم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهى " باراكليتس " ومعناها المعزى ، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التى معناها الحماد والحامد 000 والتى يتمسك بها المسلمون.. ؟!
وهذه المحاولات مردودة لسببين:
أولهما: ليس نحن ـ المسلمين ـ الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التى فيها " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً. فعملهم حجة على الطبعات الحديثة وهم غير متهمين فى عملهم هذا.
وثانيهما: ولو كانت الكلمة " هى: الباراكليتس " فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة ؟!
بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة..؟!
وأيا كان المدار: فارقليط ، أو باراكليتس ، أو المعزى ، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التى أجريت عليها. مثل يعلمكم كل شىء ـ يمكث معكم إلى الأبد. فهـذه الأوصـاف هى لرسـول الإسـلام صلى الله عليه وسلم ومهما اجتهدتم فى صرفها عنه فلن تنصرف.
ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهى: محمد صلى الله عليه وسلم عربى الجنس واللسان ، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية.. وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها. وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن ، وتوجيهات رسول الإسلام ، وهما باللغة العربية.؟‍‍!
رد الشبهة نرد عليها من طريقين:
الأول: وهو مستمد من واقـع القـوم أنفسهم. فهم يدعون تبعاً لما قال " بولس " أن عيسى عليه السلام مرسل لخلاص العالم كله. وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص ، وفى أيامنا هذه كثرت المنشورات التى تقول: المسيح مخلص العالم. وهنا نسأل القوم سؤالاً: أية لغة كانت لغة المسيـح عليه السلام وحوارييه ؟! هل هى العبرانية أم اليونانية ؟! وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة. وأوحى إليه
الإنجيل بلغة واحدة.. فعلى أى أساس إذن قلتم: إنه منقذ لكل العالم ؟! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح ؟! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات.. والآن يتكلم بمئات اللغات..؟! فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم.؟! وما الفرق بين رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح ؟! أهذا عدل.. أهذا إنصاف !!
وإن تنازلتم عن عالمية المسيح فأنتم مدينون..؟!
الثانى: وهو مستمد من طبيعة الإسلام. ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب.
نعم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عربى اللسان ، والجنس ، والقرآن العظيم الذى جاء به عربى اللسان ، عالمى التوجيه والتشريع والسلطان. ووحدة اللغة فى الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه. ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربى ورواده الأوائل عرب. هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدهـا وأجناسها. وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيما ، وهذه أبرز ملامحه.
أولاً: إن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب ، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية ، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم.
فقد أرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبى.
وأرسل إلى المقوقس عظيم القبـط بمصـر حاطب بن أبى بلتعة. وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمى.
وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى شجاع بن ذهب الأسدى. وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم.
كما كان صلى الله عليه وسلم يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية.
ثانياً: إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون ـ كذلك ـ يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها ، ومن غير العربية إلى العربية فى حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ.
ثالثاً: إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربى ، ومن النصارى من هم عـرب خلص كنصـارى نجـران ، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم.
رابعاً: كان صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ قوله: من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم.
خامساً: لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد ، والبعث ، ودخلت فى مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه. وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده ، وتؤازره فى انسجام عجيب ، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هى محلها. قضت على القبطية فى مصر وعلى الفارسية فى الشام وعلى البربرية فى شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات ، وأصبحت هى لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف.
سادساً: قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة ، ففتحوا نوافذ الفكر ، والثقافة ، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين. كما ترجموا من الفكر الإسلامى ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ.
سابعاً: أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربى اللسان واللغة. ومن هـؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم فى إنماء الفكر الإسلامى منهم اللغويون ، والنحويون ، والبيانيون ، والفقـهاء ، والأصوليون ، والمفسرون ، والمحدثون ، والمتكلمون ، والفلاسفة ، والمناطـقة ، والرياضيون ، والأطباء ، والفلكيون ، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون ، وغيرهم ، وغيرهم.
إن كل مجال من مجـالات النشـاط العلمى فى الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التى كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها. ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر ، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع.
إن وحدة اللغة فى الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام ، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها.
وصلت إلى الهند والصين فى أقصى الشرق ، وإلى شواطئ المحيط الأطلسى فى أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبى فرنسا شمالاً. وتوطدت فى قلب الكون:
الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادى ، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها فى كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام ، وحتى ما فارقه الإسلام ـ كأسبانيا ـ ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها. وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح فى كل مجالات الحياة الإنسـانية استوعـبت شقيقته الكبرى " اللغة العربية " كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين.. وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل ، فهى لغة علم ، ولغة فن ومشاعر ، ووجدان. وقانون وسلام وحرب ، ودين ودنيا.
إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون فى ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله " القرآن العظيم " ويتلونه كما أنزل بلسان عربى فصيح. فإذا عاد إلى حديثه اليومى لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته.
ومسلم غير عربى استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر ـ لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل ـ أن يقرأ بها كتب الحديث ، والفقه ، والتشريع ، والنحو ، والصرف ، والبلاغة ، والأدب وسائر العلوم والفنون.
ولكنه ذنب العـرب المسـلمين لا ذنب اللغة. فهى مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً. والأمل كبير ـ الآن ـ فى أن يلتقى كل المسلمين على لغة واحدة ، كما التقوا على عقيدة واحدة.
إن رسـول الإسـلام صلى الله عليه وسلم عالمى الدعوة وإن كان عربى اللسان والجنس.
وإن الإسلام الحنيف عالمى التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربياً ، ورواده الأوائل عرباً.