
-
الله في الأديان السماوية
الله في الأديان السماوية
بنو اسرائيل
ومثل بني إسرائيل –أو العبرانيين- مثل جميع الأمم الغبرة في تطور العقيدة . فقد دانوا زمنا بعبادة الأسلاف كما دانوا بعبادة الأوثان والكواكب وظواهر الطبيعة وطواطم الحجارة والأشجار والحيوان .
وبقيت فيهم عبادة الأوثان بعد دعوة إبراهيم عليه السلام وظهور الأنبياء ، فعبدوا (عجل الذهب) في سينا ، بعد خروجهم من الديار المصرية . وفي الإصحاح الثامن عشر من كتاب الملوك الثاني أن حزقيا ملك يهوديا (.. أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسي لأن بني إسرائيل كان إلي تلك الأيا يوقدون لها ..) .
وجاء الإصحاح التاسع عشر من كتاب صموئيل الأول أن إحدي زوجات داود عليه السلام –ميكال- (أخذت الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المغزي تحت رأسه وغطته بثوب) .
والمعروف أن الترافيم أو الطرافين بصيغة الجمع هي تماثيل علي صورة البشر تقام في البيوت وتحمل في السفر ، ويرمز بها إلي الله .
وقد دعاهم موسي عليه السلام إلي التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان . وقيل أنه عليه السلام أول من سمي الإله (يهوا)وهو اسم لا يعرف اشتقاقه علي التحقيق . فيصح أنه من مادة الحياة يصح أنه نداء لضمير الغائب ، لأن بني إسرائيل كانوا يتقون ذكره توقيرا ويكتفون بالإشارة إليه ، ويصح غير ذلك من الفروض .
وعبدوا الإله باسم (ايل) أي القوي في اللغة الآرامية . ولكن الأسماء العبرية تدل علي أنهم قد لبثوا زمانا يصفون الايل بالصفات البشرية ويقبلون نسبة القرابة الإنسانية إليه . كما في اسم عمائيل من (العمومة) أو ايل أب) من الأبوة وغير ذلك من أواصر الأسرة البشرية .
زظلوا إلي ما بعد أيام موسي عليه السلام ينسبون إلي الإله أعمال الإنسان وحركاته . فذكروا أنه كان يتمشي في الجنة وأنه كان يصارع ويأكل ويشرب ويخشى مركبات الجبال . وأنه دفن موسي حينما مات في موآب .
وقد خلت الكتب الإسرائيلية من ذكر البعث واليوم الآخر . فالأرض السفلي ، أو الجب ، أو شيول هي الهاوية التي تأوي إليها الأيتام بعد الموت ، ولا نجاة منه لميت .. (وأن الذي ينزل إلي الهاوية لا يصعد) .
وأول إشارة ليوم كيوم البعث وردت في الإصحاح الرابع والعشرين من كتاب أشعيا الذي عاش نحو القرن الثالث قبل الميلاد ، وفيه نبوءة عن يوم (يطالب فيه الرب جند العلاء في العلاء ويجمعون جمعا كأسري في سجن .. ويخجل القمر وتخزي الشمس لأن رب الجنود قد ملك في جل صهيون وفي أورشليم) وفي الإصحاح السابع والعشرين بعه أن الرب يعاقب بسيفه القاسي الشديد في ذلك اليوم (لوياثان الحية العارية : لوياثان الحية المتحولة ويقتل التنين الذي في البحر) ومن أعمال ذلك اليوم جاء في الإصحاح الخامس والعشرين أن رب الجنود (يصنع لجميع الشعوب وليمة سمائن : وليمة خمر علي دردي سمائن ممخة : دردي مصفي) .
وجائت إشارة أخري إلي يوم البعث والدينونة في الإصحاح الثاني عشر من كتاب دانيال : وهي أصرح من الإشارات السابقة حيث يقول النبي : (إن كثيرين من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون : هؤلاء إلي الحياة الأبدية وهؤلاء إلي العار والازدراء الأبدي ..) ويلاحظ أن كتاب دانيال لا يحسب من كتب العهد القديم في جميع النسخ .
ويرجع تاريخ هذه النبوءة إلي أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حوالي سنة مائة وخمس وستين ، إنما كان الثواب والعقاب قبل ذلك نصرا يؤتاه الإسرائيليون علي الأعداء أو بلاء يصابون به علي أيدي الأقوياء ، جزاء لهم علي خيانة (يهوا) وعبادة غيره من أرباب الشعوب .
وكان معني الكفر في الإسرائيلية الأولي كمعني الخيانة الوطنية في هذه الأيام . فكانت للشعوب آلهة يؤمن الإسرائيليون بوجودها ولكنهم يحرمون عبادتها كتحريم الانتماء إلي دولة أجنبية . فرب الشعب أحق بولائه وعبادته من الأرباب الغرباء .
وظلوا علي ذلك إلي أن فهموا (الوحدانية) التي تتعالي علي التشبيه والنظير في أيام أشعيا الثاني القائل بلسان الرب : (بمن تشبهونني وتسووني وتمثلونني لنتشابه ؟) .. وهو الذي شدد النكير عليهم قائلا إن الله هو الأول منذ القدم ، وهو المخبر منذ البدء الأخير، ونعي عليهم أن يعبدوا صنما (يرفعونه علي الكتف ويحملونه ويضعونه في مكانه ليقف في موضع ولا يبرحه ، ويناديه الداعي فلا يجيب) .
وكان سقوط الدول الكبيرة في عهد أشعيا الثاني مؤذنا باقتراب يوم إسرائيل الموعود . فقد تداعت بابل ومصر وآذنت فارس بالتداعي والانقسام ، فتجدد رجاء إسرائيل في ملك العالم ، وفسروا سقوط الدول الكبري بغلبة (يهوا) عليها وعقوبته لها علي ما أسلفت من الإساءة إلي شعبه ولاح لهم –لأول مرة- أن ربهم يبسط ظله علي الأرض بما رحبت ، وأن يوم الخلاص الموعود جد قريب .
والغالب في وصفهم للإله أنه غيور شديد البطش متعطش إلي الدماء ، سريع الغضب ينتقم من شعبه كما ينتقم من أعداء شعبه ، ولكن موسي عليه السلام وصفه بالرحمة وفريقا من أنبيائهم وصفوه بالحب واللطف وعلموهم أنه يحب عباده ويطلب من عباده أن يحبه ، أو كما قال هوشع (إنه يريد رحمة لا ذبيحة) وأن خلائق العدل والحق والإحسان والمراحم هي خلائق الأبرار .
وقد شغلت العقائد الإسرائيلية حيزا كبيرا من مقارنات الأديان ، لأنها :
(أولا) نقطة التحول بين العبادات القديمة والعبادات في الديانة الكتابية .
ولأنها (ثانيا) صحبت التطور في فكرة المسيح المنتظر من مبدئها ، فكانت تمهيدا متواليا للدعوة المسيحية ، وهي أوسع الدعوات الكتابية انتشارا بين الأمم التي عنيت بالدراسات العلمية الحديثة في مقارنات الأديان .
ولأنها (ثالثا) موضع مقابلة مستفيضة بينها وبين عقائد البابليين والمصريين والفرس والهنود الأقدمين ، ولها صلة قريبة بعقائد اليونان قبل عصر الفلسفة وبعدها إلي عصر السيد المسيح .
فكانت العقائد الإسرائيلية نقطة التحول .. لأنها بدأت بتصور الإله علي صورة إنسان يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويغار من منافسيه ويخص قبيلته وحدها بالبركة والتشريع ، وقرنت هذه الصور تارة بعبادة الأصنام وتارة بعبادة الموتي أو ظواهر الطبيعة وتماثيل الطواطم من الحيوان والنبات ، ثم تطورت صفات الله في اعتقاد أبنائها من أعلي شيء والعليم بما كان ويكون ، والرحيم الذي يحب الرحماء والودعاء والعاملين بالبر والعدل والإحسان .
ثبتت فكرة (المسيح المنتظر) في عقائد بني إسرائيل بعد زوال ملكهم وانتقالهم إلي الأسر في بابل قبل الميلاد بنيف وخمسة قرون . ومعني كلمة المسيح (المسوح بزيت البركة) لأنهم كانوا يمسحون به الملوك والأنبياء والكهان والبطاريق . فكان شاؤل الملك يسمي بمسيح الرب كما جاء علي لسان داود في كتاب صموئيل الأول : (حاشاني من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب) ... وكانوا يمسحون الأنبياء بالزيت المبارك كما جاء في كتاب الملوك الأول (وامسح اليشع بن شافاط .. نبيا عوضا عنك) ويمسحون به الكهان كما جاء في كتاب الخروج : (هذا ما نصنعه اهم لتقديسهم .. نأخذ دهن المسحة ونسكبه علي رأسه ونمسحه) ويمسحون به البطارقة ويسمونهم بالمسحاء كما جاء في المزمور الخامس بعد المائة (لا تمسوا مسائحي ولا تسيئوا إلي أنبيائي ...) بل كانوا يمسحون به كل ما يريدون تقديسه كما جاء في كتاب اللاويين : (ثم أخد موسي دهن المسحة ومسح المسكن وكل ما فيه وقدسه . ونضح منه علي المزبح سبع مرات ، ومسح المذبح وجميع آنيته والمرحضة وقاعدتها لتقديسها ، وصب من دهن المسح علي رأس هارون ومسحه لتقديسه) .
وكانوا في مبدأ الأمر ينتظرونه ملكا فاتحا مظفرا من نسل داود ، ويسمونه ابنا الله كما قال ناتان لداود عليه السلام في كتاب صومئيل الثاني : (هو يبني بيتا لا سمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلي الأبد . أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا) .
ولكنهم أطلقوا اسم المسيح علي كل من يعاقب أعداءهم ويفتح لهم باب الخلاص من أسرهم كما فعل كورش بالبابليين ، فجاء في كتاب أشيعيا : (هكذا يقول الرب لمسيحه : لكورش الذي أمسكت بيمينه لادوس به أمما ..) .
وخطر حينا للنبيين زكريا وحجاي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد أن زرابابل –والي يهوذا- هو المسيح المنتظر . لأنه أعاد بناء البيت في السنة الثانية للملك داريوس .
وتهذبت هذه العقيدة مع الزمن فأصبحوا ينتظرون الخلاص علي يد الهداة العادلين بعد طول انتظاره من زمرة الغزاه الفاتحين فقال زكريا في رؤياه : (ابتهي جدا يا ابنة صهيون . اهتفي يا بنت أورشليم . هو ذا ملكك يأتي إليك : هو عادل ومنصور وديع . راكب علي حمار : علي جحش بن أتان) .
وقد طالت المقارنات بين بعض الصلوات الإسرائيلية وبعض الصلوات المصرية .. ولكن علماء الأديان عقدوا المقارنة الكبري بين مأثورات بابل وفارس ومأثورات إسرائيل .
فقصة الخليفة في العقائد الإسرائيلية الأولي تشابه قصة الخليقة في ألواح بابل .. وعقيدة (المخلص) المنتظر موجودة في الديانة الفارسية وموجودة في الديانة الإسرائيلية .. وكان البابليون يؤمنون بأن الإنسان تمرد علي قسمة الموت وطمح إلي خلود كخلود الأرباب فبحث عن ثمرة البقاء في السماء وخدعه إله ماكر عن بغيته فناوله بديلا منها ثمرة تشبهها في ظاهرها ولكنها ثمرة الفناء ، وهي ثمرة الحب التي تعطي الفناء في صورة البقاء ، وهذه في جملتها لا في تفصيلها قريبة من المأثورات الإسرائيلية في هذا الموضوع .
وعند البابليين قصة مفصلة عن الطوفان ، ولكنها في الواقع متواترة شاملة توجد بقاياها في المأثورات القديمة من أمريكا الجنوبية إلي الهند . فيروي أهل أقليم كنديماركا Cundimarca بأمريكا الجنوبية أن امرأة الرجل المقدس بوشيكا أولعت بالساحر وأصغت إلي وسواس الشيطان فأخرجت نهر فونزا Funzha من مجراه وأغرقت الإقليم كله بإنسانه وحيوانه ونباته ، فلم يعتصم منه إلا من اتبع بوشيكا إلي الجبال . ثم عاد بوشيكا فجمع قومه وعلمهم عبادة الشمس وأسلم الروح .
وقصة الطوفان عند المكسيكيين المعروفين بالشيشميين Chichimygues العصر الأول من عصور الخليقة -وهو المسمي عندهم بعصر اتوناتيو- أي عصر شمس الماء- قد انتهي بطوفان جارف نجا منه رجل واحد اسمه تزبي وامرأته ششكتزال ، وكانت نجاتهما علي زورق مصنوع من خسب الصفصاف ، ويروي اهل بيرو قصة شبيهة بقصة المكسيكيين .
وعموم قصة الطوفان يثبت وقوع الطوفان وأن تقادم به العهد فتعددت به الروايات . وقد طالت المقارنات كما أسلفنا بين مصادر العقيدة عند الإسرائيلين ومصادرها عند شعوب بابل ومصر وفارس والهند علي التخصيص .
فبعض علماء المقارنات يري أن البابلين نقلوا قصة الخليقة وقصة الطوفان من قوم إبراهيم عليه السلام لأنه نشأ فيهم قبل الميلاد بألفي سنة علي التقريب .
وبعضهم يري علي نقيض ذلك أن هذا النقل جائز في المأثورات التي انقطعت أسنادها وأمكن أن تبدأ عند البابليين والإسرائيليين علي السواء ، ولكنه غير جائز في المأثورات التي تسلسلت مما قبلها في عقائد بابل وفارس .
ونحن هنا لا تعنينا مقارنات العقائد إلا من جانب واحد ، وهو جانب اتطور البشري في إدراك صفات الله .
ومتيقصرنا النظر علي هذا الجانب فالثابت من تاريخ الديانة الإسرائيلية أنها انقلبت بعد عصر إبراهيم عليه السلام إلي وثنية كالوثنية البابلية ، وأن التوحيد الذي بشر به أخناتون في مصر القديمة سابق لشيوع التوحيد في شعوب إسرائيل ، ولكن العقيدة الإسرائيلية عاشت بعد اختفاء عقيدة أخناتون وبعد عصر موسي عليه السلام .. فكانت هي كما تقدم نقطة التحول في تطور الاعتقاد بالله بين الأمم التي تؤمن اليوم بالأديان الكتابية .
الفلسفة
أول ما يقع في النفس من متابعة الأطوار الدينية –كما أوجزنا ها كل الإيجاز فيما تقدم- أن مهمة الدين هي مهمة النوع الإنساني كله ، قد تلمس فيها السبيل القويم من أقصي عصور ماضيه إلي حاضره الذي نحن فيه ، وأنه كلما ترقي بتفكيره وترقي بأخلاقه وأحواله تهيأ لقبول عقيدة التوحيد ، وترقي في هذا الاتجاه من تنزيه إلي تنزيه ، ومن كمال إلي كمال .
وتتجلي هذه الظاهرة في الأديان القديمة التي أتمت نضجها وبلغت مستقرها في زمانها واستكملت من قبل جميع شعائرها ، كالديانة المجوسية التي أسلفنا تلخيصها كما أعتقدها أهلها قبيل الميلاد وبعده بقليل . فإن أبناءها قد أخذوا بعقيدة التوحيد بعد احتكاكهم بالمسلمين وأصبح المجوس الذين يسمون اليوم بالباريسيين يؤمنون بإله واحد : هو إله الخير يزدان ولا يشركون معه أهرمن كما فعل أسلافهم الأقدمون . قال العلامة جيمس دار مستتر Darmester في كلامه علي زرادشت من كتاب حوادث العالم الكبري : (أنهم قد انتهوا إلي الوحدانية ، وأن الدكتور ويلسون حين كان مشغولا بمناقشة الباريسيين منذ أربعين سنة –نعت دينهم بالثنوية فأنكر مجادلوه هذه التهمة ، وقالوا أن أهرمن لم يكن له وجود حقيقي وأنما هو رمز لما يجيش بنفس الإنسان من خواطر السوء . فلم يعسر علي الدكتور أن يبدي لهم أنهم يناقضون بذلك كتبهم المقدسة . ولم يزل النقاد الأوربيون حينا بعد حين يعجبون للتقدم الذي تقدمه البارسيون في المذهب العقلي بعد مدرسة فولتير وجيبون . ولكن الواقع أنه ليس للمذاهب الأوربية تأثيرا وراء هذا التقدم . فإن البارسيين قبل أن يسمعوا بأوربة والمسيحية وجد فيهم من فسر أسطورة تاموراث الذي امتطي أهرمن ثلاثين سنة كما يمتطي الحصان –بأنها تعني ذلك الملك قد كبح شهواته وزجر نوازع الشر التي تحيط بسريرة الإنسان . وشاع فيهم هذا التفسير المثالي نحو القرن الخامس عشر للميلاد ولا يزال شائعا اليوم بين المفسرين . وليس في الوسع أن نقرر علي التحقيق مبلغ تأثير الديانة الإسلامية في هذا التحول . فقد نلمح هنالك علامات ضعيفة علي ابتدائه منذ عهد المجوس الأقدمين ..) .
ولا بد أن نلاحظ هنا أن المهم هو تهيؤ الذهن للتوحيد ،وليس المهم هو ما قصده الإنسان في نيته وعمله فعلا في هذا السبيل .
فلا الحقائق الدينية ولا الحقائق العلمية يقدح فيها ما قصده العقل أو قصدته النوازع النفسية قبل الوصول إليها .
فإن الإنسان قصد تسيير السفن وتنظيم الملاحة فعرف الفلك ورصد ظواهر السماء ، وقصد قياس المزارع فعرف الهندسة ، وقصد الذهب فعرف الكيمياء ، وقصد الشعوذة فعرف الطب ، وبدأت بالفلسفة من بداءات أعجب من بداءات الأديان ، ولم يحسب ذلك عيبا علي الحقائق التي انتهي إليها من هذا السبيل .
فالمهم في الأطوار الدينية هو الحافز الدائم الذي لزم النوع الإنساني من أقدم عصوره ، وهو الوجهة القويمة التي يسعي إليها ويقترب منها ، ولا تزال بداهة الفطرة سابقة فيها لأشواط العقل في مضمار الفلسفة والتفكير . وهذه هي معجزة الجهود الدينية عند الالتفات إليها وإمعان النظر فيها . فإن عقول الفلاسفة أقدر علي التأمل من بداهة الجماعات ، ولكن الذي رأيناه في تاريخ الفلسفة قديما وحديثا أنها أخذت من بداهة الجماعات أساسها المتينة ولم ترتفع إلي ذروة أعلي من التي ترقي إليها الضمير بعقيدة التوحيد والتنزيه ، ونفهم هذا عقلا إلا علي أعتبار واحد ، وهو أن هداية الله تأخذ بيد الإنسان خطوة فخطوة في هذا المرتقي الوعر . فيهتدي في كل مرحلة من مراحلها بمقدار .
لقد آمن الإنسا بالإله الواحد من طريق العقيدة قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون ، ولكنه لم يعرف (السبب الأول) من طريق الفلسفة إلا حوالي القرن الرابع قبل الميلاد . وكان جل اعتماده في ذلك علي الدين .
فمن الدين تلقي الفلاسفة فكرتهم عن الروح ، ومن الدين تلقوا فكرتهم عن بطلان الظواهر المادية ، ومنه تعلموا التفرقة بين العقل والمادة فتعلموا كيف ينفذون إلي ما وراء الحس ويوغلون في تصفية كنه الموجودات إلي أعماق لا تغوص فيها الأجسام وآفاق لا تدركها الأبصار .
وقد استعاروا من الأديان الأولي عقائد المؤمنين بها في تعليل أصول الكائنات والتنبؤ عن مصيرها بعد وفاء آجالها من الوجود . فقالوا إن السماء والأرض خلقتا من الماء ، وقالوا بالدورات الكونية التي تبدئ العالم وتعيده كرة أخري علي طويل الأدهار والآباد ، وقالوا بالحساب والعقاب كما قال سابقوهم من المتدينين ، وفهموا أن قدرة الله تخالف قدرة القوي المادية التي تعمل بالجهد والعناء ... فتعلموا أن الله يخلق بالكلمة أو المشيئة فيفعل ما يريد . وأخذوا من الديانات القديمة صوابها وخطأها وحقائقها وأوهامها ، ثم محصوها فلم يجاوزوا بالتمحيص والتمحيض آفاق الإيمان بوحدانية الله .
وإننا لنحسب أن الاهتداء إلي القوة الروحية أو قوة العقل هو أعلي ما ارتفع إليه فكر الإنسان وضميره ، بإلهام الدين وبحث الفلسفة والعلوم .. فليست القوة كثافة ولا مادة مجسمة للعينين واليدين . وأن القوة المادية نفسها حين تدخل في حساب العقل لهي أقرب إلي أن تقاس بالأرقام والتقديرات من أن تقاس بالثقل والضخامة . بل الثقل نفسه ليس هو إلا معني من المعاني نسميه بالجاذبية ونقيسه بالتقديرات الرياضية .
ولهذا نستكبر علي البادئين بهذة الفكرة المنزهة قبل عشرات القرون أنهم وثبوا إليها وثبة واحدة وقصدوا بها ما نقصده اليوم حين نتكلم في الفلسفة تارة ونتكلم في العلوم الطبيعية تارة أخري .
يتبع
ونتخذ من تطور هذه الفكرة مثالا للأساليب الإنسانية في الوصول إلي حقائق الأشياء ، ودليلا علي القاعدة التي نقررها لوزن الأطوار الدينية بميزانها الصحيح ، وهي أن العبرة بالوجه التي تحركنا إلي تلك الوجهة ، وإن قصد الإنسان لا يعبر تمام التعبير عن قصد القضاء الذي يسيره ويغريه بالعمل والاجتهاد .
فنحن نرجح أن العقل خطر له أن الله يخلق بكلة ولا يخلق بجهد من جهود الحركة المادية – قد استعار هذه الفكرة السامية من شيء رآه لا من شيء بحثه واستقصاه .
وأقرب هذه الأشياء المرئية إليه هي قدرة الساحر علي التأثير بكلمة يقولها والسيطرة علي الأجسام والأجرام الضخام بالهمهمة والتعزيم ، وهي ضرب الكلام .
والله أقدر من الساحر . فإذا قدر الساحر أن يحرك صخور بكلمة ويكسر السلاح بكلمة ، ويقتل العدو بكلمة ، فأولي بالخالق الأعظم أن يملك هذه القدرة ويملك ما ه أعظم منها وأدل علي المضاء ونفاذ المشيئة ، فلا جرم يشاء فيكون ما يشاء .
فلما جاءت الفلسفة وتناولت هذه الفكرة الكبرى لم تصل إلي شوط أبعد من شوطها ولكنها وصلت إلي بداءة أقوم من بداءتها . فكان مثلها في هذا كمثل من وجد الكنز ورسم الدروب التي تتأدي إليه . وكان مثل الأسبقين كمثل من عثر بالكنز فوقع فيه . وبقي الكنز بجوهره ونفاسته لمن يسلك إليه منهجه القويم .
وسنري للفلسفة –كما رأينا للعقيدة- بدايات كثيرة كهذه البداية وتوفيقات كثيرة كهذا التوفيق .. بل سنري أن بداية الفلسفة نفسها لم تخل من توفيق بين لا بد فيه لتدبير ذويه .
فقد كان للتوفيق يد ملحوظة في زمان الفلسفة ومكانها فبدأت حوالي القرن السادس قبل الميلاد في العصر الذي بلغت فيه الديانات القديمة أقصي آمادها من تصور الفكرة الإلهية والعقيدة الروحية ، وكان ذلك العصر هو عصر النضج والتمام في الديانة الإسرائيلية وهي آخر الحلقات في السلسلة القديمة وأول الحلقات في سلسلة جديدة من ديانات الوحي والأنبياء ، أو الديانات الكتابية .
أما كان الفلسفة اليونانية فهو رقعة من الأرض علي اتصال بأبناء كل دين قديم من توخم الهند إلي ضفاف النيل ، وزاد اتصالها بتلك الأمم زحوف الفاتحين وجموع المهاجرين ، تارة من المشرق إلي المغرب وتارة من المغرب إلي المشرق .. فكان اليونان في آسيا الصغرى يعرفون عبادات المجوس والبابليين والمصريين واليهود ، وكان روادهم ينتقلون بينالأقطار فيعرفون فيها ملا يعرف في بلادهم من الخفايا والأسرار . وساعدهم الحظ فخلت بلادهم من الكهانات الراسخة التي تستأثر بالتفكير في مسائل الكون ومسائل العقيدة . لأن الكهانات الراسخة إنما تقوم مع العروش العريقة علي أودية الأنهار الكبار ، كمصر والعراق وبعض الأقاليم الهندية . ولم يكن في أرض يونان كلها نهر تتأثل عليه دولة شامخة وكهانة مستقرة . فطرقوا أبواب الفكر أحرارا غير محجمين عن معضلة معقدة ولا مناقدين لإمامة متحكمة . فاختاروا فيما أخذوه واختاروا فيما نبذوه وتزودوا من رسالة الإيمان لرسالة البحث في الحكمة والعلوم .
وهم –علي إعفائهم من سلطان الهياكل العريقة- لم تخل فلسفة لهم قط من فكرة دينية في أساسها أو في مضامينها .. ولا استثناء في ذلك لأكبرهم وأقدرهم ، وهم سقواط وأفلاطون وأرسطو . فإن طلاقة أرسطو في مباحثه العلمية والفلسفية لم تخرجه من سلطان الفكرة الدينية في القول بالهيولي والحركة الأولي . فلولا الإيمان بالخالق والمخلوق والروح والجسد لما خلص أرسطو إلي الصورة والمادة بين العقل والهيولي .
وأول المشهورين من فلاسفة اليونان طاليس المليطي الملقب بأبي الحكماء . وكان يقول كما قالت الأديان من قبله أن الماء أصل كل شيء ، وأن الروح تحرك المادة ، فما من متحرك إلا وهو ذو روح أو منقاد لذي روح . ولا يستطيع المغناطيس مثلا أن يجذب الحديد إلا بروح فيه .
ويظن شارحوه أنه قال بأصالة الماء لأنه رأي النطفة سائلة ورأي النبات الرطب يدخل الجسم فينقلب فيه إلي حرارة حيوانية ، ووهم أن الارض سابحة علي الماء ، وأن الشمس تخرج منه وتعود إليه . فإذا غلظ فهو أرض وإذا رق فهو بخار أو نار وهواء .
والعالم علي زعمه مملوء بالأرباب ، وهي التي تحرك فيه كل متحرك من الحي والجماد .
وجاء بعده انكسماندر –ولعله من هذا الطراز- فقال أن الأشياءكلها تخرج من مادة أولية ولكنها ليست الماء ولا النار ولا الهواء ولا التراب . لأن الماء لو كان أصلا لهذه العناصر لغلب عليها وطواها ، وكذلك التراب والهواء فهي إذن سواء كلها في الانتساب إلي أصل أقدم منها وهي تتزاوج وتتمازج ويود كل عنصر منها أن يجور علي صحة غيره في الوجود . فإذا خرج بها الشطط عن سواء الاعتدال عادت كلها إلي معدنها الأول وزالت الفوارق بين الأجسام والأحياء لتعود إلي الوجود من جديد ،وهكذا دواليك في حركة دائمة لا انقطاع لها منذ القديم إلي غير نهاية . فهو علي هذا دورات كونية كالدورات التي قال بها الهنود البابليون .
ويقول انكسماندر بالتطهير والتفكير في دورات الخالق المتعاقبة كما يقول بهما الهنود .. (فإلي المعدن الذي خرجت منه الأشياء تعود كرة أخري كما قضي عليها ، تكفيرا وترضية عن جور بعضها علي بعض ، وفقا لقضاء الزمن) .
وهو يقول بخروج الإنسان الأول من الماء وطين البحر ، ولكنه يستبعد خروجه دفهة واحدة لأنه في طفولته ضعيف غير مستغن عن الحضانة والكفالة . وكان الأقدمون يزمعون أن سمك (القرش) يقذف جنينه من فيه ثم لا يزال يبتلعه ويقذفه في كل مرة أكبر مما قبلها حتي يبلغ أشده فيرسله في الماء ولا يعود إلي ابتلاعه .. فخطر لانكسماندر أن الإنسان الأول ربما خرج من جوف من حيوان آخر علي هذه الوتيرة ، ولا يبعد أنه استعار هذا الخاطر من أساطير أهل بابل وما يرونه عن (الإنسان) المائي الذي يتألف من نصف إنسان ونصف حوت .
ظاهر من أقوال انكسماندر أن مسألة الخلق عنده هي مسألة تحول من شكل إلي شكل ومن صورة إلي صورة وليست مسألة إنشاء أو أحداث بعد عدم . وأن المادة الأولية التي تئول إليها جميع الموجودات هي كذلك مصدر الأرباب وأنصاف الأرباب ، ومصدر المحركات والمتحركات ، ولا مهرب لرب أو مربوب من الفنان آخر الأمر في معدنها الأصيل ، وهذا بعينه مذهب الهنود كما قدمناه .
ولم يزد أناكسمين . تلميذ انكسماندر –شيئايذكر عن أقوال أستاذه في باب المعرفة الإلهية . وإن كانت له تخمينات قيمة من الجاذبية والذرات وتعريفات الحركة ، وقد ختمت به مدرسة مليطية ومات في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد .
وكأنما كانت مدرسة مليطية نفخة في بوق مسموع في طليعة جند الحكمة ، لاسيما الحكمة الإلهية . فإن آسيا الصغري وما حولها أنجبت في الجيل التالي لجيل طاليس وزملائه طائفة من أعظم الفلاسفة أثرا في مذاهب الحكمة الإلهية ، ومن هذه الطائفة أكسينوفان وهيرقليطس وفيثاغورس وديمقراطيس وانكسغوراس .
ورسالة أكسينوفان الكبري تنحصر في أنحائه الشديد علي كل تشبيه أو تمثيل توصف به الأرباب . لأن حقيقة الإله عنده من وراء خيال الإنسان ، وإنما يتخيل الإنسان أربابه علي هيئته ويعزو إليها أخلاقا كأخلاقه وأعمالا كأعماله . ولو كان للحصان يد تحسن التصوير وسئل أن يصور إله لصره حصانا مثله ، ولو تخيل الاثيوبي ربه لتخيله أسود أفطس علي مثاله . وهيهات للعقل البشري أن ينفذ إلي الحقيقة الإلهية أو يقاربها بعض المقاربة . فكل ما قيل عنها وما سيقال قد يكون فيه الصواب او بعض الصواب . ولكنها مصادفة يجهلها القائل ولا يقيسها السامع بقياس معلوم .
أما هيرقليطس فاعله أعظم هؤلاء الأربعة أو أعظم فلاسفة آسيا الصغرى علي الإطلاق .. ويرجع أن هيرقليطس اتصل ببعض الآرميين أو بعض اليهود . لأن الآرميين الذين تهودوا كان من عاداتهم –كما تبين من ترجمتهم للتوراة المعروفة بالترجوميم- أن يذكروا كلمة الله (ممرا)Memra والحضور (شكينة) من السكن أو مكان الحضور ... وينسبون إليها أعمال الله في مقام الإسارة والتعظيم . فيولون حضرة الله كما يقولون كلمة الله وهم يعنون الإله ويؤثرون الإشارة إليه تعضيما له عن الذكر الصريح ، ومثل هذا شائع إلي اليوم في اللغات الشرقية التي تذكر الحضرة وتعني صاحب الحضرة وتذكر الأمر والكلمة وتعني صاحب الأمر والكلمة .. فكلمة الله علي هذا المعني ترادف أمر الله عند الآرميين واليهود .
وكان هيرقليطس يقول إن الكلمة Logos هي مساك الوجود كله ، وانها هي النطام الذي يحيط به ويتغلغل فيه ، وإنها لا تصنع إلا الصالحين من الأمور (فعند الله كل شيء جميل وخير ، ولكن الناس هم الذين يعتبرون بعض الأمور من الخير وبعضها من الشر) .
وتكاد الكلمة عنده أن تكون مرادفة لمعني الله . فهي النظام الذي يضع كل شيء في موضعه . وكذلك الله (هو النهار والليل والشتاء والصيف ، والحرب والسلم ، والشبع والجوع ، ويتخذ الأشكال والمظاهر علي اختلاف . كالنار وهي تمتزج بالأبازير فيسمي كل منها باسمه لا باسم النار) .
والاختلاف هو أساس الانسجام والنظام . فلولا النقائض لما كان النغم المنسجم ولولا التعدد لما كانت الوحدة : (فكل شيء يأتي من الأحد ، والأحد يأتي من كل شيء .. ولكن الكثرة دون الوحدة في الوجود الحقيقي ، وذلك هو الله) .
لكن هيرقليطس لا يقول بالخالق ولا بحاجة الموجودات إلي موجد . (فهذه الدنيا التي هي سواء للجميع لم يخلقها أحد من الآلهة ولا من الناس ، ولكنها كانت منذ الأزل وتكون الآن وتظل كائنة في كل زمان . نارا خالدة تتقد بحساب وتنطفئ بحساب) .
فالنار هي أصل العناصر وهي المصدر الأول لجميع الكائنات ، وهي حركة دائمة لا انقطاع لها في لحظة من اللحظات فأنت لا تري الشيء الواحد غير مرة واحدة ولا تري شمسا واحدة كل صباح .. أو أنت علي تعبيره لا تنزل النهر مرتين لأن أمواجه تطرد ولا تبقي كما لمستها في المرة الأولي . وهذا الجيشان الدائم يستخرج منكل شيء ضده وتتم الألفة بين الأضداد المتقابلة بميزان العدل الذي لا يغفل ولا يني عن تسوية المقادير وزيادة الناقص ونقص الزائد . ولهذا الرأي في الأضداد وتناسقها شأنه في مذهب الفلسفة الحديثة ، لأنه رائد الثنائية التي قال بها (هيجل) واشتق منها كارل ماركس مذهبه المشهور في الثنائية المادية .
وهيرقليطس كما تقدم يقول باستغناء الموجودات عن الموجد ولكنه يقول بحاجتها إلي العدل الإلهي الذي لا قوام بغيره ، ويتكلم عن الله كلامه عن (ذات) مدبرة مريدة ومن ذاك قوله : (أن الله لا شك مساك العدل في الكون كله) .. و(أن أعمال الإنسان خلو من العقل ، ولكن أعمال الله لا تخلو منه ، وما الإنسان إلا كالطفل بالقياس إلي الله .. وأعقل الناس كالنسناس بالنسبة إلي الإله ، وهو إذا قورن بالإله كان دميما شائها كما يشوه أجمل القردة إذا قرن بالإنسان ..) .
وقد ولد فيثاغورس في جزيرة (ساموس) علي مقربة من آسيا الصغري .وكان مذهبه نسخة يونانية من الديانة الهندية . فهو يقول بتناسخ الأرواح وبطلان المادة وتجدد الدورات الكونية ، ولا يري الحقيقة الإلهية المنبثة في الكون كله ، ويفهم من كلامه أنه يقول بوحدة الوجود كما يقول بالحلول . أي حلول الروح الإلهية في الإنسان حتى يصبح أكثر من إنسان وأقل من إله . كما قال : (هناك أرباب وأناسي ، وكائنات مثل فيثاغورس) وأقدم الكائنات عنده أربعة هي : الأب والصمت والعقل والحق ، ومن الأولين صدر الاثنان الآخران .
وهو يوصي بالحيوان ويحرم أكل لحمه . ويعتقد أن جسد الحيوان قد يشتمل علي روح إنسان يتطهر بالتناسخ حتي يكفر عنآثامه فيلحق بالرفيق الأعلي ، وتعفي روحه من عقوبة الرجعة إلي الأجساد .
وليست النار ولا عنصر من العناصر التي حصرها القدماء في النار والتراب والهواء والماء أصلا للموجودات . ولكن العدد هو أصل كل موجود لأنه يلازم الوجود ولا ينفصل عنه كما قد ينفصل عنه اللون أو الثقل أو الحجم أو الكثافة المحسوسة .فالنسب العددية هي مناط الاختلاف بين جميع الأشياء ، وهذا الرأي –علي ما يبدو من سخفه- هو أقرب إلي الصواب ، من آراء الفلاسفة الآخرين .. لأنه يتعزز بالكشوف العلمية عن المادة وسبب الاختلاف بين عناصرها وردها جميعا إلي حركات تتمايز بالنسب العددية في الخلايا والذرات .. وكان ديمقريطس يقول مثل قوله في تركيب الأشياء من العدد ، ولكنه يخالفه في المادية ويعني بالعدد عدد الذرات الصغيرة التي تتركب منها جميع الموجودات ، ومنها الأرباب .
ويأتي انكسغوراس بعد فيثاغورس في الزمن والمكانة بين حكماء آسيا الصغري .. وهو الذي عمم كلام هيرقليطس عن الكلمة Logos وسماها Nous أي العقل ووصفه بأنه جوهر مجرد خالد واحد لا يتعدد ، وأنه هو مصدر حركة دوارة تدفع ما خف إلي أعلي الكون وتهبط بما سفل إلي مركزه . وما من شيء إلا وفيه أضداد حتي أصغر الذرات التي لا ترد بالعين . إلا العقل فإنه منزه عن التعدد والتناقض .. وهو الله أو هو الصلة بين الله والعالم . ولا فرق بين العقل في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد إلا بالأداه التي يستخدمها ولولا تفاوت الأجساد في إتقان الأداه لما اختلفت عقول البشر وعقول الحيوانات وعقول الحجارة الصماء .
والأثر الأكبر الذي يذكر لهذا الفيلسوف أنه كان أول من نقل الفلسفة من آسيا الصغري إلي أثينا أيام بركليس . وكانت أثينا قبل ذلكتتنكر للمباحث الفلسفية وتتهم من يبحثون فيها وينقطعونعن الشعائر الدينية ، ولم يسلم انكسغوراس من تعصب أهلها لأنهم سنوا قانونا يعاقب كل من يتعرض للأشياء (التي في العلى) ويهجر عبادة الأرباب الأولمبية وما جري مجراها ، واتهموه بالكفر لأنه كان يقول بأن الشمس صخر محمي وأن القمر كالأرض من تراب ، ولولا بركليس لما نجا من مصير كمصير سقراط بعده بقليل .
وقبل أن ننتقل إلي المدرسة الأثينية الكبري –وهي مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو- نلم بمدارس ثلاث من مدارس الفلسفة التي كانت لها عناية خاصة ، أو كان لها شأن خاص –بمسائل العقيدة الدينية ، وهي مدرسة إيطاليا الجنوبية ومدرسة الراقيين ومدرسة أبيقور ، وبعض فلاسفة هذه المدارس لاحق للمدرسة الأثينية في الزمان .
ويرجع نشاط المدرسة الإيطالية أيضا إلي مدارس آسيا الصغري ، لأن فيثاغوراس وأكسينوفان هما صاحبا الفضل الأكبر في تنبيه الأذهان إلي مباحث الفلسفة في إيليا وصقلية بعد هجرتهما من وطنهما الأول . وقد نبغ هنالك كثير من أصحاب الآراء الفلسفية أجدرهم بالذكر في هذا المقام ثلاثة : هم بارمنيد وزينون وأمبدوقليس ، لأنهم يمثلون كل ناحية من نواحي التفكير في مدارس إيطاليا الجنوبية .
ولباب مذهب بارمنيد أنه لا وجود لغير الواحد ، وأن كل وجود غيره وكل ما نراه من التعدد والتغير إنما هو وهم الحس وخداع الظواهر ... فلا تغيير ولا أضداد كما يقول هيرقليطس . وإنما هي حالة واحدة نراها علي درجات ونحسبها لذلك من قبيل الأضداد . فالبرد قلة في درجة الحرارة والظلام قلة في درجة الإضائة والمرض قلة في درجة الصحة ، وقس علي ذلك جميع الأضداد من هذا القبيل .
قال مدللا علي بطلان التغيير : (كيف يتأتي أن الشيء الذي هو كائن يفقد الكينونة ؟ وكيف يتأتي أن يكون بعد أن لم يكن ؟ فإذا حدث هذا الشيء فلا بد قبل حدوثه من زمن لم يكن فيه . وكذلك يقال إذا كان حدوثه سيبدأ في المستقبلوأين تبحث عن أصل الشيء الذي هو كائن ؟ وكيف ومتي يحدث نماؤه ؟ لا أري لك أن تقول أنه يأتي من لا شيء فإن اللاشيء لا يقبل التفكير . وما هي يا تريتلك الضرورة التي توجده في زمن من الأزمان دون سائر الأزمان ؟ كذلك يمنعك النظر الثاقب أن تصدق أن الشيء الذي هو كائن يموت إلي جانبه كائن آخر) .
يتبع
ومعني هذا أنه لا شيء يأتي من لا شيء . فالعالم قديم لم يحدث ، والواحد الذي يؤمن به بارمنيد ليس خالقا للكون بل هو حقيقة الكون . ويقول في وصفه أنه كرة محيطة لا تقبل التجزئة ، لأن كلها حاضر في كل جزء منها .
ويعتبر زينون الايلى ابرع المدافعين عن مذهب أستاذه بارمنيد ، فإنه أبدع تلك النقائض التي رد بها علي أنصار هيرقليطس وفيثاغورس حين أنكروا الوحدة وسخروا من مذهب بارمنيد بتلفيق الأحاجي والأماثيل . فأبدع لهم تلك النقائض البارعة التي يثبت بها الإحالة والخلف علي القائلين بالتغير والكثرة . ونجتزئ منها ببعض الأمثلة للدلالة علي طريقة هذه المدرسة في إثبات الوحدة الكونية ونفي التعديد والتغيير .
قال ما فحواه : إن الشيء الكثير إذا كانت كثرته بالامتداد فهو قابل للقسمة إلي شطرين ، وكل شطر منهما قابل للقسمة إلي شطرين . وهكذا إلي غير نهاية . وهو مستحيل لأن المحدود لا يقبل القسمة بغير حدود . أما إذا قلنا أن الجزء الذي تنتمي إليه لا يقبل القسمة فهو مستحيل أيضا . لأنه ذو امتداد وكل ذي امتداد ينقسم إلي نصفين .
ويقال في الكثرة بالعدد ما يقال في الكثرة بالامتداد ز فإن الأعداد منفصل بعضها عن بعض ، بين كل منفصلين مسافة تقبل القسمة ولا تزال تقبلها علي النحو الذي تقدم في كثرة الامتداد .
وهو يبطل الحركة لأن التغيير إنما يقوم عليها ، ويبدع لذ1لك نقيضة من قبيل نقائض الكثرة فيقول : إن الحركة لا تنتهي إلي غايتها إلا إذا قطعت نصف المسافة ثم نصف إلي غير نهاية . ومن التناقض أن يقول إن حركة تنتهي بلا نهاية ..ويضرب مثلا آخر بالمسابقة بين عداء وسلحفاة فيقول : إذا سبقت السلحفاة العداء بأقصر مسافة فإن العداء لا يلحق بالسلحفاة إلا إذا عبر المسافة التي بينهما وفي هذه الأثناء تكون السلحفاة قد سبقته إلي مسافة أخري لا بد له من عبورها ، هكذا إلي غير انتهاء ، وهو محال .
وأكثر هذه النقائض من قبيل المغالطات . لأن يعتبر فيها الزمان ولا يعتبر المكان ويعتبر فيها المكان ولا يعتبر الزمان . ولكن كلامه عن الجزء الذي لا يتجزأ ينطوي علي معني صحيح يدل علي ضلال الحس في تصور المادة والفضاء ولعل أفضل الحلول لهذه المناقضة هو حل الأفلاطونيين الذين قالوا إن الجسم يتجزأ إلي أن ينمحق فيصير هيولي أي مادة أولية ، والمادة الأولية هي الذرة المنحلة .
ولم يأت زينون الإيلي في باب الإلهيات برأي يزيد علي رأي أستاذه ، فهو يؤمن بالواحد الذي لا يتعدد ، ولا يجعلة إلها خالقا منشئا للعالم من العدم ، لأنه لا يؤمن بالتغيير ولا بحدوث شيء من لا شيء !
أما أبقليس فهو أقرب الفلاسفة إلي زمرة الشعراء ، وكان ينظم فلسفته ويعتمد فيها علي الخيال فقد تخيل العالم كرة وقال أن الحب هو إله العالم والنزاع عدوه الراصد له علي الدوام .
وكان أمبدوقليس يدعي الحلول ويزعم أنه مشتمل علي روح إله ، ويروي تلاميذه معجزات له تحسب من خوارق العادات ، ويلتمسون منه البركة والرضوان كأنه من القديسين .
أما المدرسة الرواقية فقد أوشكت أن تكون نحلة دينية ، لأنها امتازت بعلم كعلم اللاهوت في المسيحية أو علم الكلام في الإسلام ، وهي لاحقة لمدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو في تاريخ الظهور ، ولكننا نفردها علي حدة قبل الكتابة عن المدرسة الأثينية ، لأنها نمط مستقل في مباحث الفلسفة علي الإجمال ، وبينها المدرسة الأثينية فرق واضح في الطبيعة والموضوع .
وأشهر فلاسفتها المستجمعين لنواحي التفكير ثلاثة : هو زينون وكليانتاس وشريسبس ، وكلهم متقاربون في تاريخ الميلاد .
فزينون ولد سنة 336 قبل الميلاد في قبرص وعاش وعلم في أثينا ، وخلاصة رأيه أن الموجود هو الفاعل أو المنفعل ، وأن أصل الموجودات كلها النار وأصل النار الهيولي والله هو العقل الفاعل والهيولي هي المادة المنفعلة ،ولكنه لا يؤمن بوجود لشيء غير مادي . فالله عنده (أثير) لطيف روي عنه جالينوس أنه يعارض أفلاطون لأن أفلاطون كان يري أن الله جوهر منزه عن المادة الجسدية وزينون يقول أنه جوهر ذو مادة Soma وأن الكون كله هو قوام جوهر الإله ، وأن الإله يتخلل أجزاء الكون كما يتخللالعسل قرص الخلايا ، وأن الناموس Nomos وهو بعبارة أخري مرادف للعقل الحق Orthos Logos أو الكلمة الحقة –هو والإله زيوس شيء واحد يقوم علي تصريف مقادير الكون ، وكان زينون يري للكواكب والأيام صفة إلهية ويعتقد أن الفلك ينتهي بالحريق وتستكن في ناره جميع خصائص الموجودات المقبلة وأسبابها ومقاديرها ، فتعود كرة بعد كرة بفعل العقل وتقديره ، ويشملها قضاء مبرم وقانون محكم كأنها مدينة يسهر عليها حراس الشريعة والنظام .
ويترادف عنده معني الله والعقل والقدر وزيوس ، فكلهما وما شابههما من الأسماء تدل علي وجود واحد ، وقد كان هذا الموجود الواحد متفردا لا شريك له فشاء أن يخلق الدنيا فأصبح هواء ، وأصبح الهواء ماء ، وجرت في الماء مادة الخلق أو كلمة الخلق Spermatikos Logos كما تجري مادة التوليد من الأحياء ، فبرزت منها مبادئ الأشياء وهي النار والماء والهواء والتراب ، ثم برزت الأشياء من هذه المبادئ علي التدريج .
وتعريف القدر عند زينون أنه القوة التي تحرك الهيولي ، وهي قوة عاقلة .. لأن ما يتصف بالعقلأعظم مما يتجرد منه ، ولا شيء أعظم من الكون Cosmos فهو قل لأنه عظيم .
ويفسر زينون تعدد الآلهة في معتقدات العامة بأنهم بحثوا عن الله في مظاهر الطبيعة المتكاثرة فعدوها ونسجوا حولهاالأساطير من تشبيهات الخيال، ولكن هذه التشبيهات إن هي إلا رموز محازية تدل علي حقيقة واقعية . فلما قال الأقدمون أن أورانوس إله السماء خصاه ابنه كرونوس إله زحل –كانوا يفهمون من ذلك أن كوكب زحل هو مناط النظام في السيارات وأنه قادر بذلك علي تقسيم دورات الفلك كرونوس Chronos إله زحل وكلمة كرونوس Kronos أي إله الزمان ،كأنهم يقولون إن الزمن قد حد من حركات الأفلاك والسيارات .
ولكن زينون علي بلوغه هذه المنزلة من التوحيد وإنكار التشبيهات لم يخلص من اللوثة المادية في تصور الله ولا في تصور الروح . فالروح عنده هو جوهر غاذي حار ، وهي مركبة من النفس (سيكي Psych ) بمعني التنفس ومن العقل Varros وهو من عنصر الأثير ، ومن نقائض المذهب الرواقي أنه يأبي إقامة الهياكل لله مع هذه المادية فيه ، لأنها أقل من أن تبلغ مرتقاه .
ولا ينكر زينون كهانة الكهان . بل يقول إنها لازمة عقلا لأنه لا غني عن الكهانة مع وجود العناية التي تتكفل بالسبق إلي التقدير والهداية .
وقد ولد كليانتس Cleanthes بعد زينون بسنوات . لأنه ولد علي الارجح سنة 331 ق. م ، وكان مولده بآسيا الصغري .
ورأيه أن الله روح يسري في جميع أجزاء الكون ، وأن الروح الإنسانية قبس من ذلك الروح ، وأن الشمس هي مناط النظام في الكون ، لأنها تنشيء الليل والنهار وتقلب الفصول والسنين ، وهو يقول بالدورات الكونية كما يقول زينون . فمن النار تبدأ جميع الأشياء وإلي النار تعود .
وقد كان إمام اللاهوتيين بين فلاسفة الروافيين ، لأنه أول من أسهب في إقامة الأدلة علي وجود الله ، ومن براهينه اللاهوتيية أن اختلاف المزايا والطبائع يستدعي تمييز بعضها علي بعض ، وأن يكون بعضها أفضل من الجميع .. فالحصان مثلا افضل من السلحفاه ، والثور افضل من الحمار ، والأسد أفضل من الثور ، وليس علي الأرض ما هو افضل من الإنسان ولكنه مع ذلك لا يرتقي إلي المنزلة الفضلي ولا يسلم من الضعف والشر والحماقة .فليس هو مثال الكمال بين الموجودات ، ولا بد أن يكون الموجودالحي شيئا غير الإنسان ، وأن يكون موجودا مستكملا للفضائل منزها عن كل سوء . ومثل هذا الموجود يطابق صفات الإله . فالإله إذن موجود.
ومن أسباب الإيمان بالله عند كليانتس أربعة أسباب يخصها بالتنويه : وهى الوحى الذى يكشف الغيب ، وعظمة الخيرات التى تجود بها الأرض والسماء ، ورهبة النفس أمام أسرار الوجود وظواهره الرائعة كالبرق والرعود العواصف والأهوال والأوبئة والعواصف والبراكين ، هذا النظام المحكم الذى يبدو للنظر فى حركات الأجرام السماوية ومواعيد الأفلاك والبروج ، مما يرفض العقل حدوثه بالمصادفة والإتفاق .
وكان لهذا الفيلسوف صلوات بخاطب بها الله كأحسن ما تكون الصلاة ، ولكنه يذكر الله باسم زيوس كما كان معروفا بين الإغريق . وولد شريسبسChrisippus ثالث هؤلاء الفلاسفة بعد كليانتس بنحو خمسين سنة ، وكان مولده في قليقلة ومقر تعليمه في أثيما ، وهو أوفرهم محصولا وإن لم يحفظ من كتبه غير شذرات .
وقد شغل باللاهوت الرواقي كما شغل به كليانتس ، ولا سيما براهين وجود الله وبراهيم عدله وحكمته في قضائه .. فمن براهينه علي وجود الله أن الكون أكبر من أن يخلق للانسان وحده . فوجوده عبث إن لم لم يكن هناك إله أكبر من الإنسان .
ومن تلك البراهيم أنه (إذا كان هناك شيء يعجز الإنسان عن صنعه فالذي يصنع ذلك الشيء أعظم من الإنسان .وأن الإنسان يعجز عن خلق الكون فلا بد أن يكون القادر علي خلقه أعظم منه . وأي موجود أعظم من الإنسان غير الله ؟) .
ويرد علي من يتخذون الشر دليلا علي بطلان العناية الإلهية بأدلة كثيرة يقول منها في كتابه عن العناية (أنه ليس أضل من أولئك الذين يتخيلون أن الخير قابل للوجود بغير وجود للشر معه . لأن الخير والشر ضدان يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر .. فكيف يتأتي للعدل معني من المعاني بغير الأخطاء والإساءات ؟ وما هو العدل إن لم يكن هو منع الظلم ؟ وماذا يفهم إنسان من معني الشجاعة إلا أنها نقيض الجبن ؟ أو من معني العفة إلا أنها نقيض الشراهة ؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هنالك نقيض الجبن ؟ أو من معني العفة إلا أنها نقيض الشراهة ؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هنالك حماقة ؟ وما بال هؤلاء القوم في حماقتهم يطلبون أن يكون هناك حق ولا يكون هناك باطل ؟ وقل مثل ذلك في الخير والشر والراحة والتعب والسرور والألم . فإن هذه الأشياء آخذ بعضها برقاب بعض كما قال أفلاطون فإن نزعت إحداهما نزع قرينه لا محالة) .
ويعلل الفيلسوف بعض الآلام بأنها عقوبة من الله ، أو أخذ من الجزء لإعطاء الكل ، وحرمان للفرد لإغداق الخير علي المجموع ، ويقول أن زيوس المخلص المنعم مصدر العدل والنظام والسلام يتنزه عن فعل ما لا يحسن ولا يجوز ولكنه يصنع في الكون كما تصنع الدولة التي تضيق بسكانها فتبعث بفريق منهم إلي المستعمرات النائية أو إلي ميادين القتال .
ويجيز شريسبس وجود آلهة تتمثل في القوي الكونية دون الإله الأعظم زيوس . ولكنه يعتبرها من أهل الفناء ولا يعفيها من قضاء القيامة التي تشمل الموجودات في نهاية كل دورة كونية ، فإن هذه الدورات تأتي علي كل موجود غير الإله الباقي وهو مصدر النار ومعيدها إلي التركيب ليستخرج منها أجزاء كون جديد .
وتأتي مدرسة أبيقور (342 – 270) في الموضوع الوسط بين مدرسة الرواقيين ومدرسة أثينا الكبري : ونعني منها علي الخصوص مذهب أرسطو الذي اشتهر بمذهب المشائين .. فكان أبيقور وتلاميذه يعظمون الآلهة كتعظيم الرواقيين ، وينسبون الإله والروح إلي مادة لطيفة كالأثير أو أرق من الأثير ، ولكنهم يخالفون الرواقيين في الإيمان بالقيامة الإلهية ويقولون أن الآله في رفيقها الأعلي سعيدة خالدة ، ولكنهم يقيمون فوق الكون Metakosmia في نعيم وفرح صاف مقيم ، لا يعرفون تعبا ولا يتعبون أحدا ، وإنما تجري الأمور عفو السجية بغير تقدير ولا حاجة إلي التقدير .
وهناك مدرسة أخري غير مدرسة أبيقور ومدرسة زينون لها شأنها في التفكير ولكن لا شأن لها في العقيدة ..لأنها لا تنفض فيها ولا تبرم ، وهي مدرسة الشكوكيين أو اللادريين ، فلا موضع لها في هذا المقام .
هذه المذاهب كلها كان لها تأثيرا ملحوظ في تفكير المفكرين بعدها في المسائل الإلهية ، فما من مذهب إلا وقد أعقب فكرة فام عليها رأي فيلسوف متأخر أو دخلت في رأيه علي نحو من الأنحاء .
إلا أن الإجماع متفق علي أن المدرسة الأثينية – مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو- هي أعظم مدارس الفلسفة بين الإغريق علي التعميم . سواء منها ما نشأ قبل الميلادوما نشأ بعده ، وسواء منها ما نشأ في آسيا الصغري أو إطاليا الجنوبية أو مدينة الإسكندرية .
ورأس المدرسة الأثينية هو سقواط (469 – 399 ق.م) أستاذ أفلاطون ، وأسبق القائلين في القدم برد العقيدة والعبادة إلي الضمير .
وقد كان سقراط من أصحاب الهواتف الخفية ، وكان يستمع إلي هاتف يخيل إليه أنه يلازمه ويوحي إليه وينفخ في روعه بما يلهمه الرشد والصواب .
ولكنه لم ينصرف إلي مباحث ما وراء الطبيعة كانصرافه إلي مباحث الأخلاق والسياسة وقواعد المعرفة والثقافة النفسية . فكان قصاري ما أثر عنه من الآراء في مسائل العقيدة أنه مؤمن بخلود الروح وسلامتها من الفساد مع الجسد بعد الموت ، وأنها ترجع إلي معدنها الأول من الصفاء المنزه عن التجسيد والتركيب ، وكان يتكلم عن الآلهة تارة وعن الإله تارة أخري . إلا أه ينزهها جميعا عن تلك الخلائق البشرية التي تعزي إليها في قصص الرواة وأساطير الشعراء ويؤمن برعايتها للبشر وعكوفها علي الخير والسعادة ، ولا ينعي علي الذين يحسبون العبادة قائمة علي القرابين والضحايا وذبائح الماشية ، ولا يري لإنسان عبادة مقبولة إذا خلا من خلوص النية وصفاء الضمير .
ولعله قد أسس قواعد البحث والمنطق بتعويده تلاميذه أن يستخلصوا الحدود والتعريفات من المشاهدات والمحسوسات ، وأن يجعلوا هذه الحدود أساسا للقياس وترتيب النتائج من المقدمات .
ولا شك أن هذه الحدود قد وجهت المفكرين بعده إلي الفصل بين خصائص الأشياء ومقوماتها ، وكان أرسطو يتوخاها في تقسيماته المنطقية وتطبيقاته الفلسفية ، وبها أقام ذلك السد الحائل بين جميع خصائص العقل وجميع خصائص المادة الأولية أو الهيولي . فكان وضع الحد عنده أهم من تقرير الجوامع والمقاربات .
وخلفه تلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م) فتبعه في مباحث الأخلاق والسياسة والثقافة والنفسية ، وتبع فيثاغورس في العقائد الروحية ومزج الفلسفة بالرياضة والدين . ولو لم يكن أفلاطون وثني البيئة لكا أرفع الإلهيين تنزيها للوحدانية . ولكن البيئة الوثنية غلبته علي تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات ، فأدخل في عقيدته أربابا وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد ولا سيما عند الفلاسفة الموحدين .
فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان : طبقة العقل المطلق وطبقة المادة أو الهيولي Hyle والقدرة كلها من العقل المطلق ، والعجز كله من الهيولي . وبين ذلك كائنات علي درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل ، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي .
وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب وبعضها أنصاف أرباب وبعضها نفوس بشرية . وقد ارتضي أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم . فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة . فهذه الأرباب الوسطي هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر والهيولي العاجزة .. فجاء النقص والشر والألم من هذا المتوسط بين الطرفين .
وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع . لأنها تتغير وتتلون وتتراءي للحس علي أشكال وأوضاع لا تصمد علي حال .. وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره . وفي العقل المجرد تستقر الموجودات (الصحائح) أو المثل كما سميت في الكتب العربية ، وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد .
هذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يلتبس بالمادة أو الهيولي فكل شجرة –مثلا- فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها ؟ هي في عقل الله منذ القدم . وكل ما تلبس بالمادة من خصائص الشجرة فهو محاكاه للمثل الأعلي .
وبقاء هذه الموجودات هو أيضا محاكاه لبقاء الله .. فبقاء الله بقاء أبدي لا أول له ولا آخر ولا تحول فيه ولا تقلب ، ولا تعرض له الزيادة ولا النقصان .
يتبع
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 27-06-2008, 09:25 PM
-
بواسطة ali9 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 03-09-2006, 05:09 PM
-
بواسطة طارق حماد في المنتدى منتديات الدعاة العامة
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 17-07-2006, 03:03 PM
-
بواسطة احمد العربى في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 23-09-2005, 11:09 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات