وقد تناول تشيع أبى الفرج أيضا الباحث كاظم المظفر فى مقدمة الطبعة الثانية من كتاب: "مقاتل الطالبيين" (مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر/ قم/ إيران/ 1385ه‍- 1965م/ 14- 15)، فقال إن أبا الفرج "كان شيعي الهوى والعقيدة على مذهب الزيدية المعروف، وقد نص على تشيعه أكثر مترجميه، ومنهم معاصره القاضي التنوخي، فقد ذكر في كتابه: "نشوار المحاضرة" أنه من المتشيعين الذين شاهدهم. وقال ابن شاكر في "عيون التواريخ" إنه كان ظاهر التشيع. وكذلك نص على تشيعه الحرّ العاملي في "أمل الآمل"، والخونساري في "روضات الجنات". أما ابن الاثير في كتابه: "الكامل" فقال إنه كان شيعيا، ولكنه رأى في تشيعه مدعاة للاستغراب، فقال: "وهذا من العجب". ولعل موضع العجب عند ابن الأثير كون أبي الفرج من صميم الأسرة الأموية، فكيف صار إذن على مذهب الشيعة مع كل ما عرفه التاريخ من ألوان العداء ثم الخصومة السياسية والدينية التي اشتجرت نيرانها طويلا بين الأمويين والعلويين؟ وفي الواقع أن الرأي، أيّ رأي، لا يعرف وطنا ولا جنسية، كما أن العقيدة لا دخل لها في نسب المرء أيا كان هذا النسب. فمهما كان العداء التقليدي بين شيعة الأمويين وشيعة العلويين متين الأسباب طويل الآماد، فهو لا يحول أبدا دون أن نجد بين الفريقين من يعطف أحدهما على الآخر. ولقد رأينا في الأمويين أكثر من واحد لا يرى رأى أهله ولا يعتقد عقيدة قبيله.

وظاهرة التشيع عند أبي الفرج واضحة الدلالة كل الوضوح في كتابه: "مقاتل الطالبيين" الذي نقدمه للقارئ على هذه الصفحات. ترجم أبو الفرج في هذا الكتاب جميع الشهداء الطالبيين، أي من كان من ذرية عبد المطلب بن عبد مناف، منذ عصر النبوة إلى الوقت الذي ألف فيه أبو الفرج كتابه في عام 313 هـ "سواء كان المترجَم له قتيل الحرب أو صريع السم في السلم، وسواء أكان مهلكه في السجن أم في مهربه أثناء تواريه من السلطان" كما أوضح أبو الفرج هذا المعنى في مقدمة الكتاب. وأبو الفرج في تصويره لمصارع الطالبيين وعرضه لتراجمهم وتقديمه لمناقبهم وفضائلهم يبدو شديد العطف عليهم، لا يرى في مصائبهم إلا كل فضيلة ومجد، بل يراهم دائما يسلكون سبيل الحق في نهضاتهم ضد الدولة الأموية، مع أن خلفاء هذه الدولة هم آباؤه الصلبيون الذين لا ينكر أبو الفرج نسبته إليهم، وإن كانت هذه النسبة، كما لاحظت، لم ترد عنده في موضع الفخر والاعتزاز".

ولا أظن أبا الفرج كان شيعيا فى يوم من الأيام. ولو كان شيعيا فكيف، وهو المؤلف الغزير الإنتاج والإبداع صاحب الأسلوب الذى يعزّ له نظير فى السلاسة والانسيابية والإحكام والتصوير والقدرة على إثارة الانفعالات والعواطف وشحن النفوس بمحبة الشيعة وكراهية أعدائهم إن كان شيعيا، يسكت فلا يدعو إلى التشيع وينافح عنه ويثير العواطف ويشحن النفوس بمحبة هذا المذهب والرغبة فى اعتناقه؟ كما كان الرجل شاعرا مقتدرا على تصريف فنون القول، فلماذا يا ترى سكت فلم يحاول أن ينافح عن حق آل البيت فى الخلافة ويبين أن إمامتهم للمسلمين جزء لا يتجزأ من أركان الإسلام على ما هو معروف كما صنع الكميتُ الأسدى مثلا ودِعْبِلٌ الخزاعى وأبو فراسٍ الحَمْدانى، وهؤلاء من الشيعة الإمامية، أو فضل بن العباس بن عبد الرحمن وعمارة اليمنى، وهما شيعيان زيديان، أو الأمير تميم بن المعز والداعى المؤيد الفاطميان؟

بل إن القاضى التنوخى، الذى قال عنه إنه أحد المتشيعين الذين شاهدهم، قد روى عنه فى "نشوار المحاضرة" ما يبرهن بأقوى برهان على أنه كان يتخذ ما تؤدى إليه بعض عقائدهم موضعا للسَّخَر والهزء البذىء كعادته، وهو ما لا يتفق بسهولة وإيمانه بالتشيع، كما فى الحكايتين التاليتين مثلا: "أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو بكر يموت بن المزرع، قال: سمعت أبا عثمان الجاحظ، يحدث أنه رأى حَجّاما بالكوفة يَحْجِم بنسيئةٍ إلى "الرجعة" لشدة إيمانه بها". "أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: سمعت رجلاً من القطيعة يؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن عليا ولي الله، محمد وعلي خير البشر، فمن أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر، ضرطتْ هند على ابن عمر، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".


يتبع...