سبب جمع القرآن كتابة في العصر النبوي
وعد الله تعالى بحفظ الكتاب الكريم، قال تعالى:" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ولما كانت الكتابة من أسباب الحفظ، فقد يسرها الله للمسلمين، وأمر بِها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها كُتَّابه بحضرته صلى الله عليه وسلم هذا، وقد كان لكتابة القرآن أسباب أخرى:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطالبًا بتبليغ الوحي، قال تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " والتبليغ في حاجة ماسَّة إلى الكتابة، فبها تقوم الحجة على من يرى الكتاب ممن لم يسمع البلاغ باللسان، إما لبعد داره أو بعد زمانه عن دار وزمان النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - أن الكتابة أدعى إلى حفظ التنزيل وضبطه، وأبعد عن ضياعه ونسيانه،فاقتضى ذلك تعضيد الْمحفوظ في الصدور بالْمكتوب في السطور، لأنَّه وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم حيًّا بين أظهرهم، إلا أنَّه بصدد أن يموت، ولا يُدرى متى يموت، كما أنَّه لا يُؤمَن أن يفنى حُفَّاظُه في أي ساعة، وقد مرَّ أن سبعين منهم قتلوا في بئر معونة، ومثلهم أو يزيد قتلوا في وقعة اليمامة، فاقتضى ذلك أن يُكْتَب القرآن بِمجرد نزوله.
كان من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم -كما سبق- حفظُه واستظهارُه، وكان لذلك يعرض القرآن على جبريل ، ليؤكد حفظه، وليعلم ما طرأ عليه نسخ منه، وليعلم ما يؤمر به من القراءة على الأحرف السبعة، وليتعلم منه معانيه.
ويظهر أن عرض القرآن في كل سنة مرة كان لفوائد كثيرة، منها:
1 - تأكيد الحفظ والاستظهار.
2 - معرف ما طرأ عليه النسخ من القرآن.
3 - معرفة الأحرف السبعة التي أُمر بقراءة القرآن عليها.
4 - معرفة معاني ما يحتاج إلى معرفة معانيه من القرآن، أو مدارسة ما عُرِف من هذه المعاني.
لما كانت معارضة النبي صلى الله عليه وسلم لِجبريل بالقرآن بغرض تأكيد الحفظ والاستظهار وغير ذلك من الفوائد كما سبق، وكانت الحاجة إلى هذا التأكيد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما اقترب زمن وفاة النبي
عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وذلك في رمضان من السنة التي تُوُفِّي فيها صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك إرهاصًا بقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى: عَنْ عائشةَ في حديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ: إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي.
فكانت هذه العرضة الأخيرة بِمنْزلة الْمراجعة النهائية للكتاب الحكيم، عرض فيها القرآن الكريم مرتين، فأُثبِت فيه جميع الأوجه الثابتة غير المنسوخة، وترك ما نُسِخ منه، فما ثبت في هذه العرضة هو القرآن المحكم المعجز المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة، وما لم يثبت فإما أن يكون قرآنًا منسوخًا، وإما أنه ليس بقرآن، وكلاهما ليس له حكم القرآن من التعبد والإعجاز.
كان وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المسلمين أمانًا لهم من حصول الخلاف فيما بينهم، كما كان وجوده صلى الله عليه وسلم أمانًا من ضياع شيء من القرآن.
ومع انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى توقف الوحي، فانتفى المانع الذي من أجله لم يجمع القرآن في مصحف واحد في زمنه صلى الله عليه وسلم وانضمَّ إلى ذلك ما سيأتي من أسباب، فقد كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأسباب الداعية إلى جمع القرآن الكريم في زمن الصدِّيق رضي الله عنه.
وكانت موقعة اليمامة سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، وقُتِل فيها مسيلمة الكذاب، وكثير مِمَّن كان معه، لَمَّا حوصروا في الحديقة التي عرفت فيما بعد بِحديقة الموت، فقد قتل فيها من بني حنيفة نحو سبعة آلاف رجل، وكان جملة القتلى من بني حنيفة ومن معهم أكثر من عشرين ألف رجلٍ، وبلغ القتلى من الصحابة نحو ستين وست مائة رجلٍ، وكان جملة القتلى من المسلمين نحو ستين وتسعمائة رجلٍ.
ولا شك أن أكثر هؤلاء القتلى كان مِمَّن حفظ شيئًا من القرآن، غير أن المشهور أن القتلى من الحفاظ يومئذ كان سبعين رجلاً.
راعت هذه الكارثة العظيمة كارثة فقد حفَّاظ كتاب الله تعالى- عمرَ الفاروقَ رضي الله عنه، فهرع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يسرع إلى حفظ الكتاب بجمعه مكتوبًا، حتى لا يذهب بذهاب حُفَّاظه.
فتردد أبو بكر أول الأمر، لأنه كَرِهَ أن يجمع القرآن على وجهٍ يُخالف ما فعله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من جمع القرآن، حيث اكتفى صلى الله عليه وسلم بتدوين القرآن على الجلود والعظام والعسب وغير ذلك، ولم يجمعه في صحفٍ أو مصاحف، فقد كَرِهَ أن يُحِلَّ نفسه محلَّ مَنْ تَجَاوَزَ احتياطُه للقرآن احتياطَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
ولكن عمر ما زال يراجعه حتى شرح الله صدره لهذا الأمر، فدعا زيد بن ثابت رضي الله عنه، وطلب منه أن يقوم بجمع القرآن، فتردد زيد رضي الله عنه لنفس الأمر الذي تردد له أبو بكر أول الأمر، وما زال أبو بكر يراجعه حتى شرح الله صدره له، فشرع في العمل متهيبًا وَجِلاً من عظم المسؤولية.
وقد بين أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسباب اختياره زيدَ بن ثابت حيث قال له: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ وقد ورد أيضًا أن زيد بن ثابت كان قد حضر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم.
أضف إلى ذلك أن زيد بن ثابت كان ممن جمع القرآن حفظًا في صدره في حياة رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فتبين أن أبا بكر رضي الله عنه إنَّما اختار لِهذه المهمة الشاقة زيد بن ثابت للأسباب الآتية:
1 - أنه كان شابًّا، وفي ذلك خصال توافق غرض الصديق، حيث إن الشابَّ أقوى وأجلدُ على العمل الصعب من الشيخ، كما أن الشابَّ لا يكون شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه.
2 - أن زيد بن ثابت كان معروفًا بوفرة عقله، وهذا مِمَّا يؤهله لإتْمام هذه المهمة الجسيمة.
3 - أنه كان غير متهم في دينه، فقد كان معروفًا بشدة الورع، والأمانة وكمال الخلق، والاستقامة في الدين.
4 - أنه كان يلي كتابة الوحي لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويرى إملاء رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكانيشاهد من أحوال القرآن ما لا يشاهده غيره، وهذا يؤهله أكثر من غيره ليكتب القرآن، ويجمعه.
5 - أنه كان حافظًا للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على العرضة الأخيرة.
6 - أنه فيما روي كان مِمَّن شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم.
وقدكان زيد بن ثابت رضي الله عنه جديرًا بِهذه الثقة، ويدل على ذلك قوله لَمَّا أمره أبو بكر بجمع القرآن: فَوَاللهِ! لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ .
وشرع زيد بن ثابت يَجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة.
فقد شارك في العمل في هذا الجمع عدد من كبار الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وأُبَيُّ بن كعب، وغيرهما.
منهج أبي بكر في جمع القرآن
يُمكن تلخيص ذلك المنهج في النقاط الآتية:
1 - أن يأتي كلُّ من تلَقَّى شيئًا من القرآن من رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم به إلى زيد بن ثابت ومن معه.
ويدل لذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب قام في الناس فقال: من كان تلقى من رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح و العُسُب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان.
2 - أن لا يُقبل من أحدٍ شيءٌ حتى يشهد عليه شهيدان، أي أنه لم يكن يكتفي بِمجرد وجدان الشيء مكتوبًا حتى يشهد عليه شهيدان.
ويدل على ذلك أثر عمر السابق، وكذلك قول أبي بكرٍ لعمر بن الخطاب ولزيد ابن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا:
فقال السخاوي: المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بِها القرآن.
وقال ابن حجر: وكأن الْمراد بالشاهدين الحفظ والكتاب. ثم ذكر احتمال الوجهين الأولين.
قال السيوطي: أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك مِمَّا عُرض على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عام وفاته.
والذي يظهر -والله أعلم- أن المراد الشهادة على كتابته بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه مِمَّا عُرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذ القرآن كان مَحفوظًا في صدور كثير من الصحابة فلو أرادوا الإشهاد على حفظه لوجدوا العشرات.
3 - أن يكتب ما يؤتى به في الصحف.
ويدلُّ عليه قول زيدٍ في حديث جمع القرآن السابق: وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.
4 - أن لا يُقبل مِمَّا يُؤتى به إلا ما تحقق فيه الشروط الآتية:
أ- أن يكون مكتوبًا بين يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لا من مُجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط.
ب- أن يكون مما ثبت عرضه على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عام وفاته، أي في العرضة الأخيرة.
وذلك أن ما لم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة لم تثبت قرآنيته.
5 - أن تكتب الآيات في سورها على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد التُزم في هذا الجمع كل الضوابط السابقة بدقة صارمة، حتى إنه روي أَنَّ عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم، فلم تُقْبل منه؛ لأنه كان وحده.
مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه
كان لِجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه منزلة عظيمة بين المسلمين، فلم يَحصل خلاف على شيء مِمَّا فيه، وامتاز بِمزايا عديدة، منها:
1.أنه جمع القرآن على أدقِّ وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي، كما مرَّ بنا في منهج أبي بكر في جمع القرآن.
1.حصول إجماع الأمة على قبوله، ورضى جميع المسلمين به.
2.بلوغ ما جُمِع في هذا الجمع حدّ التواتر، إذ حضره وشهد عليه ما يزيد على عدد التواتر من الصحابة .
3.أنه اقتصر في جمع القرآن على ما ثبت قرآنيته من الأحرف السبعة، بثبوت عرضه في العرضة الأخيرة، فكان شاملاً لما بقي من الأحرف السبعة، ولم يكن فيه شيء مِمَّا نُسِخَت تلاوته.
4.أنه كان مرتب الآيات دون السور.
ولقد حظي هذا الجمع المبارك برضى المسلمين، وحصل عليه إجماع الصحابة ، ولقي منهم العناية الفائقة.
فقد حفظت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر رضي الله عنه حتى وفاته، ثم انتقلت إلى عمر رضي الله عنه حتى تُوُفِّي، ثم كانت بعد ذلك عند ابنته حفصة زوج رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فطلبها منها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فنسخ منها المصاحف إلى الأمصار ثم أرجعها إليها، فكانت الصحف المجموعة في عهد أبي بكر t هي الأساس لنسخ المصاحف في زمن عثمان رضي الله عنه، وهذا مِمَّا يدل على مكانة هذا الجمع عند الصحابة .