السياق السياسي و الدّيني الاجتماعي زمن عيسى عليه السلام

لفهم المسألة فهما جيّدا فعلى القارئ أن يستحضر جملة من القضايا السيّاسية الإدارية والدّينية والحالة النفسية لشعب إسرائيل التي شكّلت مضمار المعترك الذي عاش فيه النبي عيسى عليه السلام مع شعبه.

كانت فلسطين آنذاك مستعمرة رومانية مقسمة إلى ولايتين:
ولاية الجليل في الشمال تحت حكم هيرودس أونتيباس.. وولاية اليهودية في الجنوب و يحكمها بيلاطس البنطي وعاصمتها أورشليم.
وقد كانت السلطة الرومانية قد اتّفقت مع اليهود إثر أزمة ثورة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد على أن تحترم معتقداتهم الدينية وأعيادهم وختانهم وسبوتهم وأن يُنصّبوا كاهنا عليهم ممن يرضونه في مقابل ألا يطلبوا الاستقلال وألا يُجنّدوا في الجيش الروماني وأن يدفعوا الضريبة لقيصر وألا ينفذّوا وحدهم قرارات كبيرة من شأنها المساس بالأمن والاستقرار كتنفيذ حكم الإعدام مثلا.

الحالة النفسية لشعب إسرائيل: كان شعب إسرائيل يعتقد أنّه شعب الله المختار. لكن الواقع يكذّب المعتقد، فقد كان يعيش تحت السلطات الوثنية منذ 600 سنة، وكانوا يسمّون الأمم بالكلاب و الخنازير. فكان الشعب يغتلي شوقا لوعد الله بأن يرسل إليهم المسيح المخلّص الذي يبيد الظالمين ويردّ لهم سلطانهم ومجدهم المسلوب.

لقب المسيح و معناه في الثقافة الإسرائيلية: تنبّأ أنبياء إسرائيل منذ إبراهيم عليه السلام على أنّ الله تعالى وعد شعبه بأن يرسل إليه المسيح.والمسيح لشدّة قربه ومكانته عند الله تلقّبه الأسفار المقدّسة " ابن الله" مجازا. ومن معانيه السياسية المَلِك.
جاء في متى 1 :16 » 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ «.

ومن المعلوم أنه يطلق اسم المسيح على كل حاكم يهودي، صالحاً كان أو فاجراً.
ورد في مزمور 18 :50 »50بُرْجُ خَلاَصٍ لِمَلِكِهِ، وَالصَّانِعُ رَحْمَةً لِمَسِيحِهِ، لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ.«.
وأطلق مزمور 132 :10 لفظة المسيح على داود، وهو من الأنبياء والملوك الصالحين. وورد في 1صموئيل 24 :6 قول داود في حق شاول: » 6فَقَالَ لِرِجَالِهِ: «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هذَا الأَمْرَ بِسَيِّدِي، بِمَسِيحِ الرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ، لأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ». « وكذلك ورد في 1صموئيل 24 :10 وفي 1صموئيل 26 وفي 2صموئيل 1 :14.
وأُطلقت كلمة(مسيح) في إشعياء 45 :1 على الملوك والوثنيين »1هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ: 2«أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ وَالْهِضَابَ أُمَهِّدُ. أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ، وَمَغَالِيقَ الْحَدِيدِ أَقْصِفُ. «.

جاء عيسى عليه السلام وكان اسمه المسيح( وهذا مجرد اسم ولم يكن عيسى عليه السلام لا أوّل ولا آخر من تسمّى به).
وكان عليه السلام وُلد من غير أب وهذا من شأنه أن يترك التباسا يسهل استغلاله من طرف خصومه. فسهل جدّا أن يُلفق ضدّه أنّه يدّعي أنّه ابن الله بالمعنى الحقيقي.

الصدام بين تعاليم عيسى عليه السلام و كبرياء إسرائيل: أول شيء رفض عيسى عليه السلام هو الثورة ضد روما وقال قولته الشهيرة:" أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله " ويعنى أنّه على إسرائيل الصبر فوقت الخلاص لم يحن بعد.

ثانيا: "قال سيؤخذ منكم ملكوت الله ويُعطى لشعب آخر" ويعني هذا أنّ الله قرّر ألا يكون إسرائيل شعبه بعد اليوم.

ثالثا: وصف السلطات الدينية بالمنافقين والمرائين والجشعين واليهود ككل بسلالة الأفاعي قتلة الأنبياء.
لكن هذا العدّو الجديد لإسرائيل ما فتئت تزداد شعبيته يوما بعد يوم لأنّه يحيي الموتى ويبرأ الأكمه والأبرص ويقيم المفلوجين والمقعدين ويطرد الأرواح الشريرة ويسكت الرياح ويٌكثّر الطعام.

فما السبيل إلى التخلّص منه ومن بدعته ؟ كان أمام اليهود خياران:

أوّلهما: أسهل من شربة ماء، وهو اغتياله في شِعبِ أو واد أو في أحد طرق أسفاره الكثيرة. لكن الخطورة هي إن اغتالوه فسيعيش شهيدا في ذاكرة من آمن به، وهكذا لا يتمّ القضاء على بدعته، كما يراها اليهود.

ثانيهما: بالغ الصعوبة وهو تقديمه للعدالة أمام مجلس الشيوخ أولا ثم أمام بيلاطس البنطي ثانيا حتى يسمح لهم بقتله وتعليق جثّته على خشبة كما يُقتلُ المجرمون، وهذا هو الطريق الأمثل للتخلص منه ومن دعوته.

إرهاصــات الأزمــة بين عيسى و شعبه

ما ميّز زمن عيسى عليه السلام هو الثورات و التمرّد و الفوضى في فلسطين.
وحادثة الصلب عنوان لذلك، فهي حادثة تاريخية أجمع عليها الإنجيل والقرآن الكريم:

[وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)] وأيّدها التلمود البابلي ولا خلاف فيها،إلاّ في هوية المصلوب.
فهو:
1ـ يسوع الناصري عند اليهود وكنيسة بولس ومن المعلوم أن بولس هو الذي علّم أن يسوع صُلب لأجلنا كفارة عن الخطايا ، وكنيسته هي التي أدمجت تعاليمه في أسفار الإنجيل التي لم تعلّم أبداً أن يسوع صُلب وتم هذا الإدماج عند ترجمة الأسفار إلى اليونانية، وقد شهد مؤرخو النصارى أنّ نصوص آلام المسيح لم تكن موجودة أصلا في الأناجيل، إنما كانت في كتيبات مستقلة.

2ـ وهو رجل ألقى الله عليه شبه يسوع عند المسلمين.
والشيء الذي يمكن أن نستخلصه بدون منازع هو:أنّ اليهود حرصوا على قتل يسوع صلباً.

ولنبدأ مناقشة الفكرة من هنا .

ولفهم الحقيقة يجب علينا أن نحلّل الوضع السياسي والدّيني الاجتماعي للأرض المقدّسة زمن صاحب البشارة عليه السلام.

ففلسطين في هذا الزمان كانت مستعمرة رومانية يحكمها في نصفها الشمالي الجليل،الملك هيرودس أونتيباس؛وفي النصف الجنوبي، اليهودية، الوالي الروماني بيلاطس البنطي بمرسوم قيصري صادر عن السلطة المركزية في روما.
وقبل هذا تعاقبت عليها الإدارات الوثنية منذ حملة نبوخذ نصّــر البابلي على رأس القرن السادس قبل الميلاد، مرورا بالفرس، فالإغريق وأخيرا الرومان سنة 63 ق،م.
وقد عزّ على شعب الله المختار أن يعيش عيشة المهانة والذلّ، يدفــع الجزية للخنازير والكلاب، فاشتدّ شوقه وطال انتظاره إلى المسيح المخلّص ابن داوود، فظهر في هذا الزمان رجلٌ في ناصرة الجليل اسمه يشوع )الاسم العبراني( يبشّر شعبه بقرب مملكة يَهْوَهْ اله إسرائيل، وبقرب الفرج وينادي بعِتقٍ للمسبيين وتخلية للمأسورين وبِسَنَةِ الربّ المقبولة، وبانتقام الله ويعزّي جميع النائحين.

وقد علّق عليه الشعب أملا عظيما وظنّوا أنّه المسيح المخلّص، فرفض ذلك وانتهر الشعب ودعاهم لِمُسَالمة روما ودَفْعِ الجزية لها ودعاهم للصبر لأنّ وقت الخلاص لم يحِنْ بعد، وفضح جشع ونفاق السلطة الدينية بالخصوص والفرّيسيين على العموم.

إذن فلاشكّ أنّ رجلا مثل يشوع سيشكّل خطرا، في أعين مَنْ نَصّبُوا أنفسهم أمناء وأوصياء على عقيدة وتقاليد الآباء، ومتقاعسا عن انتزاع الاستقلال السياسي ومُهَدّدا لمصالح السلطة الدينية.
فلا مناص من التخلّص منه بطريقة تكفل لهم الحيلولَة بينه وبين أتباعه وتمسَخُ اسمَهُ في ذاكرة الشعب.
ففكّر اليهود في قتلِ يسوع مصلوبا !؟…

لكن لقتل رعية من رعايا الإمبراطورية الرومانية بهذه الطريقة، وإقحام الوالي الروماني في قضية لا تعنيه مبدئيا، يجب للقضية أن تستند لِتُهمَة يُجرّمُها القانون الروماني، ولقتل إسرائيلي أمام الشعب يجب للقضية أن تستند لفتوى شرعية من مجلس الشيوخ (السنهدرين).

ومن غرائب الصُدَفِ أنّ اسم "المسيح" تتقاطع فيه التُهمَتَان السيّاسية والدينية.
ولقد كان عليه السلام وتلاميذه فريسة سهلة لليهود لو أرادوا نَصْبَ كَمِينٍ له في أي مكان.
فلقد كان عليه السلام رسولا مُتجوّلا وهذا ما يميّزه عن كثير من الرُسُل والأنبياء فكان لا يكاد يستقرّ في مكان حتى يغادِرَه إلى مكان آخر حيث تذكر الأناجيل أن يسوع كان كثير التنقل ليكرز بالبشارة . فيوم في الناصرة و آخر في كفرناحوم و منه إلى بحيرة طبرية،بيت صيدا ، المدن العشر السامرة بيت عانيا ، أورشليم ثم صور وصيدا ليبشّرَ بمملكة الله . وكان يُحَرّم على نفسه وأصحابه حَمْلَ الزاد والنقود والسيف وحتى العِصِيّ[متى 10/5 – 10، لو 9/3]. فكان و الذين آمنوا به بدون سلاح .
واليهود جوّزوا لأنفسهم اغتيال المضايقين ، في أسفارهم المقدسة،واعتبروه خلاصاً من الله وتخليصاً ممن اصطفاهم الربّ لهذه المهمة الجليلة فمن المعروف أنه لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بعث لهم القاضي إيهود ليغتال عجلون ملك مؤاب (قض 3/20 – 21 ، قض 14/19 ، 15/5 ، 18/27].
كما يحكى أن أبناء دان أتوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن و ضربوهم بحدّ السيف وأحرقوا المدينة بالنار.

إذن فالاغتيال من طبيعة اليهود ولو فعلوا ذلك مع عيسى عليه السلام في شِعْبٍ أو جَبَلٍ أو في أحد طُرُق أسفاره الكثيرة لَتَخلّصوا منه وخلّصوا الدهماء والسذّج وعامة إسرائيل من فتنة هذا الرجل الذي لم يكن في نظرهم سوى مضلاًّ(لو 23/2). ومشعوذًا ساحرًا.

أكَانَ خوفاً من السلطة الرومانية؟. كلاّ! فقد ثبت في الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال أنّ الوالي الروماني كان متعاوناً مع اليهود إلى أقصى حدّ في لعبة دخلت فيها الحسابات السياسية، وغاب عنها الضمير والأخلاق والمشاعر الإنسانية.

ورحم الله القائل:"إنّ السياسة لعبة قذرة !".. فلقد استيقن بيلاطس البنطي من براءة المقبوض عليه ـ الذي ظنّوه يسوع ـ لكنّه رضخ أخيرا لإرادة اليهود و أسلمه للصلب.

والحديث موصول بإذن الله تعالى