

-
(19)
حين فتح الطبيب باب داره للشيخ ..
فوجيء به يغلق الباب بعنف خلفه ..
وهو يمسك بتلابيبه ..
ويقول له :
ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق ؟..
والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك ..
وقد سكتنا عن التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام ..
وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك ..
ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج ..
كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها ..
أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى ..
فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم ..
له من المعاني ما لا يخفى على أحد ..
ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك ..
إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك ..
يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا ..
وشماتته بمصير ابنتي المسكينة ..
التي جنيت عليها حين قبلت زواجك بها ..
فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة ..
ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً ..
والدماء تندفع إلى جبينه حمراء قاتلة ..
والشرر يتطاير من عينيه ..
يشير إلى ما في صدره من غليان براكين الثورة ..
فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى تمر العاصفة ..
لكن حالة الشيخ كانت تنبؤ أنه قد انتوى أمراً خطيراً ..
وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء ..
إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه ..
وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه ..
فبادره الطبيب قائلاً :
ياعم ..
أقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي ..
ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ قبلت مصاهرتي لك ..
فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن ..
وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي ..
وملاحقة أهلي لي .. بالتهديد والويلات والأذى ..
وطردهم لي من دار أبي ..
وهجري لأهلي ..
ولجوئي إلى الحق والهدى ..
كان كله تمثيلا وعبثاً ..
وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب ..
فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك ..
وإذا كان ذلك مما يجوز لي وأنا على غير سبيل الحق ..
فكيف أجيزه لنفسي ..
وقد عرفت الله ورسوله والقرآن ..
يا عم ..
إن كنت أردت – بعد ما قلته لك والله على ما أقول شهيد –
أن تزيدني إيماناً ..
فها أنا ذا بين يديك ..
ما تغيرت وما استبدلت ..
فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي ..
وليس لي الآن بعد ولدي من هو أقرب إلي منك ..
وستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً ..
وسأقبل حكمك أياً كان ..
فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر ..
لعلي أحدثك بما بقي عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي ..
كانت لهجة الطبيب هادئة ..
رغم ما صبه عليه صهره من لوم وتقريع ..
ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره ..
من فزع أحاط الأسرة .. وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع ..
فلا الطبيب ناجٍ بصورته هذه ..
ولا أصهاره سعداء بما يمكن أن يحدثوه به من انتقام لسمعتهم ..
التي ألحق بها خزياً ما بعده خزي ..
رغم كل ذلك .. قال له الشيخ :
تكلم وقل ما عندك ..
ولا تخفي عني شيئاً ..
ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم ..
جزاء صنيع المعروف معك ..
فابتسم الطبيب وهو يقول :
كأنك لا تريدني يا عم أن أتكلم ..
قال : بل ها أنا ذا مصغٍ إليك ..
واعٍ لما ستقول .. والله وحده يعينني على ما أنا فيه ..
قال الطبيب الناشيء:
إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو ..
وإني أسير على الدرب لا أحيد ..
وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل ..
وفي ظني والعلم عند الله جل شأنه ..
أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني ..
هو أكبر نعمة من بها الله علي بعد نعمة الإسلام ..
تمتم الشيخ في صوت حزين:
أكبر نعمة .. تقول أكبر نعمة ..
اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام .. اللهم أفرغ علينا صبراً من عندك .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
عاد الطبيب يقول:
نعم .. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي ..
بأن الله قد سمع لدعائي فاستجاب ..
فله الحمد في الأولى والآخرة ..
ثم استطرد يقول ..
إنني يا سيدي .. حين تمسكت بنفسي – بعد إسلامي- بالاسم ..
الذي كان قد اختاره والدي ..
وهو كما تعلم : عبده ..
تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل ..
حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب ..
وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أولادي ..
وأن أدعوه : عيــــــــــسى ..
وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة ..
وقاطعه الشيخ محتداً :
وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت ..؟
فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة تشبه الغضب .. وقال :
يا سيدي .. صبراً .. فما أتممت الكلام بعد ..
وأنت ترى أن هذه الأمور التي وقعت .. لا تستوقف نظرك ..
ولا تثير فيك عجباً ..
أما أنا .. فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع .. آمالاً ..
ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء ..
آمالاً .. سهرت من أجلها الليالي الحالكة ..
التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت ..
وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله ..
لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده..
قال الشيخ : وما هذا الرجاء؟
قال الطبيب:
إنه إن شئت رجاء ..
وإنه إن شئت عهد وميثاق .. إذا نحن أمعنا النظر ..
فلقد كنت عاهدت ربي ..
إن هو رزقني بصبي .. لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة ..
ولأدعون له بطول العمر ..
وبالتوفيق إلى ما فيه رضا الله ..
وبأن يكون له في حياته ومن بعد مماته ..
أحسن الذكر على ألسنة العباد ..
ضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه ..
فقاطعه قائلاً:
وأي والد لا يرجو لولده مثلما رجوت وأملت ..
وأية صلة بين هذا الرجاء .. وذلك الميثاق ..
وبين اختيار المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك ليكون خيراً كما تقول ..
قال: يا عم ..
إنني لا أحصي ثناءً على ربي ..
ولا أقدر على حمده كفاء ما أنعم به علي ..
ولذلك جعلت من وجود هذا الولد ..
شهادة تنبض بالحياة ..
ما بقيت له الحياة ..
بأن (عيسى) .. (عبده) ..
وماهو بولده ..
وما هو بالإله .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ..
فكلما ذكر ولدي الذاكرون غائباً أو حاضراً ..
حياً أو ميتاً ..
كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل ..
بأن عيسى عبده ..
وما هو بولده ..
ولقد استجاب ربي لأول الدعاء ..
وهاهو الولد الصغير حقيقة ماثلة بين يدي ..
وشهادة مني بما آمنت به ..
وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى ..
لقادر على أن يمد في أجله ..
وأن يهديه سواء السبيل ..
حتى يكون أهلاً لهذه الشهادة ..
التي فرقت في حياتي بين ضلال كنت فيه ..
وهداية أرجو أن تزيد ..
ياعم ..
إن الغيب من ضنائن الرحمن ..
وإنا لاندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح ..
ولا ندري هل كتب له من العمر ما يطول .. أم كانت الأخرى ..
ولكنني أعلم من الله أنه ما خذلني ..
ولا أسلمني لأمر لا أحبه ..
منذ سرى في أطرافي هذا الشوق من الوضوء أول مرة ..
وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى ..
يا عم ..
إذا فرغت من الشهادة بتسمية عيسى التي أرجو أن تكون شفيعي عند الواحد الأحد ..
على نحو ما عاهدت ربي ..
فأي الأسماء بعد ذلك يتمم الشهادة ..
وهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة ألا إله إلا الله .. سوى محمد رسول الله ..
لذلك فإني أرجو من الله أن يكون حفيدك الثاني ...
(محمد عبده) ..
ثم ضحك قائلاً :
إن زوجتي لولود .. وإن غداً لناظره لقريب ..
قال له الشيخ :
انصرف إلى عملك يا رعاك الله ..
وإنني عائد إلى حي السيدة زينب ..
والله يعلم بما أنا فيه ..
إنك تعيش في جو من الصفاء ..
لا تعيش فيه كثرة الناس ..
وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها .. إلا من أنار الله بصيرته ..
وحاط بدين الله من كل جوانبه ..
وما أقل هؤلاء في زماننا ..
لكنك يا عبده ..
قد أتعبتني منذ عرفتك ..
ولا إخالك إلا هكذا ما حييت ..
عفا الله عنك يا بني ..
ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً .. وهو يقول :
على إني لا أضيق بيوم التقينا فيه ..
ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير ..
ثم انصرف ..
مرت الأيام ..
ورزق الله عبده ولده الثاني .. محمد ..
ولم يكن الخواجة إبراهيم قد رأى يوماً أشد عليه من يوم الأحد ..
الذي أعلنت فيه ******* خروج عبده عن حظيرتها ..
وقرر فيه رجال ******* طرد ولده الأكبر من رحمة يسوع ..
وبقيت صورته حاضرة أمام ناظريه ..
وهو يهرول مسرعاً إلى خارج الدار ..
والجميع يلاحقونه باللعنات والتهديدات ..
حتى جاءه الخبر بأن ولده عبده ..
قد سمى ولده الثاني محمد ..
فكانت القاضية على ما كان بقي عنده من أمل ورجاء ..
وفي يوم من الأيام .. عام 1909 ..
والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة ..
على مقربة من السجن ..
والوقت بعد الظهيرة ..
والحر قائظ ..
والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره ..
وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً ..
ويقترب منه ..
ويهمس في أذنه كلاماً ..
وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع ..
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات