(7)
وحل شهر رمضان..
بروحانياته وبركاته..
فاعتزم طبيب الامتياز أمراً..
وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً أبداً..
كانت هناك عادة مقدسة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي وهي غداء الأحد..
الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده..
تخلف عبده عن حضور الغداء من يوم الأحد.. (لشهر رمضان)..
على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها..
وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً..
ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل..
فقيل له إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف.. وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب..
وكان رده أن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف والمتوقع لها..
وقد اعتذر عن الحضور زميلان له..
فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا..
وجاء الأحد الذي يليه..

وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً..
حتى يصل ابنه الطبيب..
وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم..
فقام إلى فراشه مكتئباً..
وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه..
أو هو يعرف ولكنه يناور نفسه هروباً من مواجهته..
حتى فزع بآماله إلى الكذب..
وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار..
وعليه من آثار الإجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً..
واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة..
وتبعته أمه وهي تقول له..
أين كنت اليوم بطوله يا بني..
إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم..
لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد..
وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي..
فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم..
بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن..
وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته..
لكنها عادت تسأل وهو مرهق مجهد..
فقال لها: يا أماه..
وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به..
وهما لا يزالان في حوار..
وإذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب..
ويطلب حضور الطبيب إلى المستشفى على عجل..
لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات لذا تعين استدعاء كل الأطباء..
وكان عبده لم يكن قد مضى على حضوره ساعة وبضع الساعة..
قضاها في حوار مرير مع أمه ..
ولم ينل قسطه من الراحة ولا حتى بعضه..
ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب..
ثم انصرف الطبيب مع مساعده ولفهما الليل..
ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبأ بقرب هبوب عاصفة قوية..
وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده..
لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة..
وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة..
وتنوعت الأعذار..
حتى جاء يوم الأحد الثالث..
وأبوه يتابع ولا يتكلم..
فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها..
وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ابنه ساعات..
وبه من الهم والهواجس والشكوك مايهد كيانه ويزلزل وجدانه..

وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل.. لولا أن أعانه بنوه ..
وأمرهم أن يجلسوه على مقعد مقرب لباب الدار..
وبقيت عينه شاخصة لكل قادم..
لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه حتى قارب الليل أن ينتصف..
وصارت الدار في سكون حزين مبهم..
وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات..
فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار..