السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى لاسيما عبده المصطفى وعلى آله وصحبه المستكملين الشرفا ........أمابعد
فاعلم – هداك الله إلى الحق – أن كل نبي أرسله الله جعل له معجزة من جنس ما يبرع فيه قومه, فأما المصطفى نبينا
خاتم النبيين صلوات الله عليهم وعليه وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين, فإنه أكثر الرسل آيات وبينات، وذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفا، فأما العلم الذي اقترن بدعوته، ولم يزل يتزايد أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته فهو القرآن المعجز المبين، الذي هو كما وصفه به من أنزله
فقال (1) :
(وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وقال تعالى (2) :
(إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال (3) :
( بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)
وقال (4) :
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)
وقال (5) :
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
وقال (6) :
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ )
وقال (7) :
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)
فأبان - جل ثناؤه - أنه أنزله على وصف مباين لأوصاف كلام البشر لأنه
منظوم، وليس
بمنثور، ونظمه ليس نظم
الرسائل ، ولا نظم
الخطب ، ولا نظم
الأشعار ، ولا هو
كأسجاع الكهان ......
وأعلمه أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله، ثم أمره أن يتحداهم على الإتيان بمثله إن ادعوا أنهم يقدرون عليه أو ظنوه، فقال تعالى (8) :
( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) ، ثم نقصهم تسعا ، فقال (9):
(أْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، فكان ما يقصه من الأمر غير أن من قبل ذلك دلالة ، وهي أن النبي
كان غير مدفوع عند الموافق والمخالف عن الحصافة والمتانة وقوة العقل والرأي، ومن كان بهذه المنزلة، وكان مع ذلك قد انتصب لدعوة الناس إلى دينه لم يجز بوجه من الوجوه أن يقول للناس : أن ائتوا بسورة من مثل ما جئتكم به من القرآن ، ولن تستطيعوه إن أتيتم به ، فأنا كاذب وهو يعلم من نفسه أن القرآن لم ينزل عليه ، ولا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه ، وأن ذلك إن كان بطلت دعواه ، فهذا إلى أن نذكر ما بعده دليل قاطع على أنه لم يقل للعرب أن ائتوا بمثله إن استطعتموه ، ولن تستطيعوه إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعونه ، ولا يجوز أن يكون هذا اليقين وقع له إلا من قبل ربه الذي أوحى إليه به فوثق بخبره وبالله التوفيق ، وأما ما بعد هذا فهو أن النبي
قال لهم : <<ائتوا بسورة من مثله إن كنتم صادقين>>
فطالت المهلة والنظرة لهم في ذلك ، وتواترت الوقائع والحروب بينه وبينهم ، فقتلت صناديدهم ، وسبيت ذراريهم ونساؤهم ، وانتهبت أموالهم ، ولم يتعرض أحد لمعارضته فلو قدروا عليها لافتدوا بها أنفسهم ، وأولادهم وأهاليهم وأموالهم ، ولكان الأمر في ذلك قريبا سهلا عليهم إذ كانوا أهل لسان وفصاحة وشعر وخطابة ، فلما لم يأتوا بذلك ولا ادعوه صح أنهم كانوا عاجزين عنه
وفي ظهور عجزهم بيان أنه في العجز مثلهم إذ كان بشرا مثلهم لسانه لسانهم وعادته عادتهم وطباعه طباعهم وزمانه زمانهم ، وإذا كان كذلك ، وقد جاء القرآن فوجب القطع بأنه من عند الله تعالى جده لا من عنده وبالله التوفيق .
فإن ذكروا سجع مسيلمة فكل ما جاء به مسيلمة لا يعدو أن يكون بعضه محاكاة وسرقة وبعضه
كأساجيع الكهان ،
وأراجيز العرب ، وكان النبي
يقول ما هو أحسن
لفظا ، وأقوم
معنى ، وأبين
فائدة ، ثم لم تقل له العرب ها أنت تتحدانا على الإتيان بمثل القرآن ، وتزعم أن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لم يقدروا عليه ، ثم قد جئت
بمثله مفترى أنه ليس من عند الله وذلك كقوله : {أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب} وقوله : {تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا} وقوله : {إن العيش عيش الآخره فارحم الأنصار والمهاجره} وقوله : {تعس عبد الدينار ، والدرهم ، وعبد الخميصة إن أعطي منها رضي ، وإن لم يعط سخط تعس ، وانتكس - وإن شيك - فلا انتقش}
فلم يدع أحد من العرب أن شيئا من هذا يشبه القرآن ، وأن فيه كثيرا كقوله : وحكى الأستاذ أبو منصور الأشعري - رحمه الله تعالى - فيما كتب إلي عن بعض أصحابنا أنه قال : « يجوز أن يكون هذا النظم قد كان ، فيما بينهم فعجزوا عنه عند التحدي ، فصار معجزة لأن إخراج ما في العادة عن العادة نقض للعادة كما أن إدخال ما ليس في العادة في الفعل نقض للعادة - وبسط الكلام في شرحه - وأيهما كان فقد ظهرت بذلك معجزته ، واعترفت العرب بقصورهم عنه وعجزهم عن الإتيان بمثله....
لذا سأبين لك قصور ما جأت به من افترآئات حتى عن كونه يصل إلى مستوى الكلام المستقيم لا المعجز فيما هو آت من ردود...
والله الموفق ومنه العون والسداد
يتبع بإذن الله
__________
(1) سورة : فصلت آية رقم : 41
(2) سورة : الواقعة آية رقم : 77
(3) سورة : البروج آية رقم : 21
(4) سورة : آل عمران آية رقم : 62
(5) سورة : الأنعام آية رقم : 155
(6) سورة : عبس آية رقم : 11
(7) سورة : الإسراء آية رقم : 88
(8) سورة : هود آية رقم : 13
المفضلات