مخيم جنين
على الرغم من كل النقاط السوداء في حاضرنا العربي ، وعلى الرغم من كل مشاهد الهوان و الخذلان في عالمنا العربي ، فانه ما زالت هناك نقاط مضيئة تستحق ان نفخر بها ، هناك في جنين " المدينة والمخيم " احد ابرز تلك النقاط ، حيث مازال عشرات من رجال المقاومة الفلسطينية صامدين ، في وجه قصف اسرائيلي وحشي بالطائرات والدبابات دخل اسبوعه الثاني ، ان رجال مخيم جنين كبدوا اسرائيل اكبر خسارة في تاريخها العسكري مقارنة بمساحة المخيم وعدد رجال المقاومة ، فمن اجل احتلال المخيم الذي تقل مساحته عن الكيلومتر دفعت اسرائيل 13 قتيلا و143 جريحا ، 20 منهم جراحهم بالغة الخطورة ، فضلا عن تدمير واصابة اكثر من 30 دبابة ومجنزرة وناقلة جنود ، وفي مقابل ذلك دفعت المقاومة عشرات من الشهداء ، لتؤكد جنين بحق انها عاصمة الشهداء والاستشهاديين ، وانها بالنسبة لجنود الاحتلال " عش الدبابير " .
ان ما يبديه رجال جنين من بطولة واستبسال في مواجهة الدبابات والطائرات الاسرائيلية ، ليس بجديد على جنين وابنائها ، فقبل ما يقرب من 67 عاما وقف المجاهد البطل عز الدين القسام في نفس الموقف ، وواجه هو وعدد قليل من رفاقه عشرات من جنود الاحتلال البريطاني ، وفضل الاستشهاد على ان يستسلم للبريطانيين ، وبعد عشرات السنين اعاد ابناء القسام في حماس وغيرها من فصائل المقاومة كتابة الملحمة من جديد ، وبرغم ان النهاية لن تختلف كثيرا عما حدث للقسام ورفاقه ، الا انها ستمثل وحيا منتظرا لمقاومين جدد يحملون راية المقاومة مرة اخرى ، ومادامت الراية مرفوعة ، فالنصر آت لا محالة وان لم يدركه البصر .
وعلى الرغم من الاستعدادات العسكرية الاسرائيلية الضخمة لاقتحام مدينة ومخيم جنين ، حيث حشد الاحتلال 400 دبابة وناقة جنود وعدة الاف من الجنود ، بل تم استدعاء نحو 20 الفا من جنود الاحتياط الاسرائيلي ، الا ان الجيش الاسرائيلي فوجئ بالمقاومة الشرسة التى ابداها سكان جنين ، ونقل التليفزيون الاسرائيلي عن احد الضباط الذين شاركوا في عملية الاقتحام الاولى قوله " ان قادة الجيش الاسرائيلي أرسلونا إلى الموت في المخيمات بلا ثمن ، فنحن لا نريد الموت من أجل جمع 20 بندقية كلاشينكوف لن نستطيع جمعها ، أو لالقاء القبض على مطلوبين كبار سيغادرون المكان عند إدارة محرك أول دبابة ستدخل المخيم ، أو لأجل هدم بيوت ستتلقى إسرائيل ثلاث عمليات تفجير مقابل كل بيت منها أو لأجل الحفاظ على قدرة الردع " .
ويبدو ان رجال المقاومة استعدوا جيدا لمواجهة دبابات الاحتلال ، وتكبدت قوات الاحتلال الاسرائيلي ، ومعظمها من لواء " جولاني " اكثر الوحدات القتالية كفاءة في جيش الاحتلال ، خسائر فادحة في الموجة الاولى من الاقتحام ، ولذلك قرر رئيس الاركان الاسرائيلي شاوؤل موفاز عزل العقيد يوئيل ستريك قائد اللواء العسكري المكلف باقتحام مخيم جنين وعين نائبه المقدم ديدى يديدا بدلاً منه ، ومع توالى الفشل وارتفاع حجم الخسائر ، قرر موفاز عزل القائد الجديد ، واعلن عن توليه - بنفسه - قيادة عملية الاقتحام ، وبسبب القتال الشرس ووقوع عدد كبير من الإصابات في مخيم جنين للاجئين قرر الجيش الإسرائيلي القيام بهدم المنازل التي يدور فيها قتال ضار، دون " تطهيرها " بواسطة اقتحام الجنود لها. واشتركت في عملية اقتحام جنين مروحيات من طراز " كوبرا " و " الاباتشي " الامريكية الصنع حيث قامت بقصف مخيم اللاجئين دون توقف ، وفي عدد من المرات رافقت مروحيات الكوبرا مروحيات "أنفه" الثقيلة والتي هبطت بالقرب من المخيم لإخلاء الجرحى والقتلى من جنود الاحتلال ، ووصف احد جنود الاحتلال الوضع في مخيم جنين بانه " حرب شعواء .. الجنود يتلقون الرصاص من كل الاتجاهات، ويطلقون النار في كل اتجاه .. العشرات من العبوات يتم إلقاؤها على الجنود .. الرصاص يتطاير فوق رؤوس الجنود ". وهذه المقاومة الشرسة ليست بغريبة على ابناء مدينة ومخيم جنين ، فمن جنين خرج عشرة من خيرة شباب فلسطين لتنفيذ عمليات استشهادية ابرزها " بنيامينا " و " الخضيرة الأولى و" الخضيرة الثانية " و " سبارو" و " نهاريا " ، فاستحقت المدينة - بامتياز - ان يطلق عليها عاصمة الاستشهاديين و " مصنع الشهداء " ، ووصفها السفاح موفاز بانها " مدينة القنابل البشرية " ، كما ان مخيم جنين يعد النقطة الرئيسية لتجمع المطاردين من رجال المقاومة من جانب قوات الاحتلال الاسرائيلي سواء من حماس او الجهاد او كتائب شهداء الاقصي . ويعد التلاحم بين رجال مختلف الفصائل الوطنية والاسلامية علامة مميزة لجنين ، حيث وصل التنسيق لدرجة تشكيل غرفة عمليات مشتركة وتشكيل مجموعات قتالية مشتركة للدفاع عن المخيم ، كما نفذت فصائل المقاومة في جنين عمليات مشتركة ، ابرزها عملية مستوطنة " الجلمة " التى نفذها مقاتلان من كتائب القسام وسرايا القدس ، ويدرك ابطال جنين ان بإمكان الدبابات الصهيونية الدخول إلى المخيم ، لكنهم يشككون في قدرتها على الخروج منه سالمة بجنودها .
واذا كانت جنين عاصمة الاستشهاديين ، فانها اصبحت - ايضا - مدينة المنازل المفخخة ، حيث عمد رجال المقاومة للمرة الاولى في فلسطين الى تفخيخ المنازل ، وهو ما كبد قوات الاحتلال خسائر فادحة ، ودفعها الى تفجير المنازل دون الدخول اليها خوفا من الموت الكامن بداخلها . كما ضرب قادة المقاومة في جنين اروع الامثلة في البطولة والاقدام ، وقام قائد كتائب شهداء الاقصى في جنين ناصر عويس بتفجير نفسه في جنود الاحتلال بعد معركة شرسة ، مما اسفر عن مقتل واصابة ثمانية من جنود الاحتلال ، كما كان لـ " الهام علي دسوقي " ابنة جنين شرف ان تكون الاستشهادية الفلسطينية الرابعة ، حيث فجرت نفسها وسط ثمانية من جنود الاحتلال حاولوا اقتحام منزلها ، فقتلت اثنين واصابة ستة اخرين . وبعد اربعة ايام من الفشل المتوالي في اقتحام جنين ، اعترف الرائد ايال شلاين قائد قوات الاحتلال في جنين بان الجيش الاسرائيلي درس كل الاحتمالات وحدد كل التوقعات من جانب الفلسطينيين ، واعد نفسه لكل اشكال المقاومة الفلسطينية قبل ان يقدم على دخول هذا المخيم ، " ولكن رغم ذلك فوجئنا، وجوبهنا بمقاومة لم نعرف مثيلا لها في كل حروب اسرائيل " وقال شلاين " لا شك في انهم ـ اي المقاومين الفلسطينيين ـ اعدوا انفسهم بشكل جيد لمقاومتنا ، ويبدو لنا انهم يتمتعون بمعنويات عالية ، وبدا واضحا انهم خلال خدمتهم في اجهزة الامن الفلسطينية تدربوا على مقاومتنا، وليس على قمع الارهاب والشغب كما كان مطلوبا منهم. ولهذا، فان مهمتنا صعبة جدا ، سوف ننتصر عليهم بالطبع ، ولكن ليس بسهولة، وليس من دون خسائر " . ويتخوف الاسرائيليون من استعداد المقاومين الفلسطينيين داخل جنين للموت بعد ان اكدت مصادر في المقاومة ان غالبية المقاومين في المخيم يرتدون الاحزمة الناسفة استعدادا لتفجير انفسهم في الدبابات والجنود الاسرائيليين اذا ما نجحوا في اختراق دفاعات المخيم ، ويؤكد جمال أبو الهيجا احد قادة كتائب عز الدين القسام في جنين انه جرى تزويد العناصر المقاتلة من مختلف الفصائل في المخيم التي تعمل تحت اسم " مجاهدو مخيم جنين للاجئين " ، بالأحزمة الناسفة والقنابل .
وتشير صحيفة " يديعوت احرونوت " الى ان رجال جنين يرفضون الاستسلام ويصرون على استمرار القتال ، وتنقل عن احد جنود الاحتياط قوله " لديهم محفزات جنونية ، إنهم يحاربوننا بإصرار كبير ولا يتنازلوا، و خلافا لرام الله حيث دعا الجيش، عبر مكبرات الصوت، المتحصنين داخل المقاطعة إلى الاستسلام، فان الجيش لا يحلم حتى بأن يتجاوب أحد في مخيم جنين مع مثل هذه النداءات ".
وأشاد الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات - المحاصر في رام الله - ببسالة المقاومة الفلسطينية فى جنين ومخيمها ، ومواجهتها للحملة الدموية الوحشية التى تمارسها قوات الاحتلال الاسرائيلى فى المدينة استمرارا للمخطط الشيطانى لارئيل شارون وحكومته العنصرية المتطرفة ضد الشعب الفلسطينى الاعزل . وتوجه الرئيس عرفات بالتحية والاكبار لابطال شعبه البواسل المدافعين عن مدينة جنين ومخيمها ، مؤكدا في رسالة الى رجال المقاومة " انكم تسطرون ببطولتكم صفحة جديدة فى سجل البطولة والمجد الذى سطره شعبنا الفلسطينى بتضحياته ودماء أبنائه الذكية فى مسيرته الظافرة نحو الحرية والاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف " . ويكشف تقرير لوكالة رويترز عن ان الاسلحة الرئيسية التى تستخدمها المقاومة هي بنادق ورشاشات بعضها مصدره اسرائيل والاخر مهرب من الخارج ، مشيرة الى ان الفلسطينيين تبنوا مؤخرا بدرجة متزايدة اسلوب الكر والفر الذي استخدمه مقاتلو حزب الله ضد الجنود الاسرائيليين علي مدي 22 عاما من الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان ، ويأتي تدمير الدبابة الاسرائيلية " ميركافا 3 " الشهر الماضي مثالا علي اتباع تكتيكات مماثلة لحزب الله عندما اطلق المقاتلون صاروخا مضادا للدبابات علي حافلة لتشتيت الانتباه واغراء الدبابة للتحرك باتجاه كمين زرعت فيه قنبلة. كما ان استخدام مقاتلي حماس للصاروخ المسمي القسام ـ2 في الاسابيع الاخيرة ذكر الاسرائيليين بصواريخ الكاتيوشا التي كان حزب الله يستخدمها. ويرى المراقبون في فشل الاقتحام الاسرائيلي لمخيم جنين دلالة جديدة على ضعف امكانيات الجندي الاسرائيلي في القتال المباشر دون وجود غطاء جوي او حماية من الدبابات والمدرعات ، فالاسرائيليون احتلوا كل المدن والمخيمات الفلسطينية، حتى الآن، بواسطة دخول الدبابات المحمية من الجو بالطائرات ، والمخيمات التي احتلوها لم يتجرأوا على التجول في شوارعها ، بل انتقلوا من بيت الى بيت فيها بواسطة فتح ثغرات في الجدران، او استخدموا اهل المخيم، من النساء والمسنين، دروعا بشرية. اما في جنين فقد اضطر الاسرائيليون الى الدفع بقوات المشاه حيث ان شوارع المخيم الضيقة لا تصلح لسير الدبابات ، وفشل الجنود في اقتحام المخيم عدة مرات ، واضطرت قيادة جيش الاحتلال لتبديل القوات المشاركة في العملية ثلاث مرات لرفع معنويات الجنود المتدهورة .
جنين..المدينة و التاريخ ضحايا المجزرة تعد جنين اول مدينة تنتقل اليها السلطه الفلسطينية في 19 نوفمبر 1995 بعد احتلال دام 28 عاما منذ ان وقعت منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل اتفاقا في سبتمبر 1994 لتوسيع الحكم الذاتي في الضفة الغربية . وتقع جنين على السفح الشمالي لجبال نابلس المطلة على مرج ابن عامر شمال فلسطين وقد سماها العرب بهذا الاسم لان كلمة مرج تعني ارضا واسعة ذات نبات ومرعى للماشية ونسبوه الى عامر الكلبي جد الصحابي دحية الكلبي المدفون في احدى قرى المرج الذي تقدر مساحته بنحو 360 كيلومتر مربع. وترتفع جنين من 125 الى 250 متر عن سطح البحر وهي تقوم على البقعة التي كانت عليها مدينة (عين جنيم) بمعنى (عين الجناين) وفي العهد الروماني كانت في مكانها قرية باسم "جيناي" ولما فتحها العرب حرفوا الاسم فذكرت باسم "جنين" بياء بعد الجيم. واستردها صلاح الدين الايوبي من الصليبيين بعد معركة حطين الشهيرة عام 1187 ودخلت ضمن مملكة بيت المقدس ونزلها صلاح الدين وبات فيها في الثامن من شوال عام 588 هجري ثم استأنف مسيرته الى بيسان ولكن التحرير النهائي لجنين لم يتم الا عام 1244 على يد الملك الصالح.
وكانت في عهد المماليك مركز بريد بين غزة ودمشق وفيها برج للحمام الزاجل الذي يحمل الرسائل بين مصر والشام كما كانت محطة تحل فيها الهجن التي تحمل الثلج من دمشق الى القاهرة في ايام الحر. وخلال الحرب العالمية الاولى اتخذ الجيش الالماني المقيم في فلسطين من جنين مركزا لسلاح طيرانه فاقام فيها مطارا ضخما لكن الجيش البريطاني دخل المدينة عام 1918 وعقد فيها الجنرال اللنبي قائد الحملة البريطانية مؤتمرا عاما لقادة جيوشه في فلسطين بعد ذلك تحولت منطقة جنين الى موقع للثوار وشهدت ميلاد اول ثورة مسلحة منظمة ضد الوجود البريطاني عام 1935 بزعامة الشيخ عز الدين القسام كما كانت جنين اخر موقع انسحب منه القائد فوزي القاوقجي مع قواته بعد ايقاف الثورة واختيرت جنين مقرا لمحطة الشرق الادنى التي انشأها الانجليز عام 1941اثناء الحرب العالمية الثانية ثم انتقلت بعد ذلك الى يافا والقدس ثم قبرص. وقدر عدد سكان جنين سنة 1978 بأكثر من ثلاثين الف نسمة وتكثر بها العيون في منطقة جنين التي تنساب مياهها في مرج بني عامر وتزرع منطقة المدينة الحبوب والقطاني والخضار واشجار الفاكهة والرمان والتين والتوت وفي احصائيات سنة 1942 كان بها 670 دونم زيتون و500 دونم فواكه ولهم عناية بزراعة البطيخ وهو من النوع الجيد. ولا تعد جنين من المدن الكبرى الفلسطينية اذ لايزيد عدد سكانها الان مع القرى المجاورة عن مائة الف نسمة لكن شهرتها نبعت من موقعها الاستراتيجي في شمال فلسطين وبمحاذاة سهل مرج بني عامر ولذلك يمتاز موقعها بانه احد مداخل المرج الجنوبية المؤدية الى جبال نابلس . وتعتبر جنين حلقة وصل بين طرق المواصلات القادمة من نابلس، العفولة وبيسان، ونقطة مواصلات الطرق المتجهة إلى حيفا، الناصرة، نابلس، والقدس. وتقع إلى الشمال من مدينة نابلس، وتبعد عنها 41 كم، وترتفع 250م عن سطح البحر. ومن حيث عدد الفلسطينيين الذين عاشوا في مدينة جنين فقد وصل عددهم في عام 1922 (2637) نسمة، وفي عام 1945 (3990) نسمة، وفي عام 1961 (14402) نسمة، وفي عام 1967 (13365) نسمة بمن فيهم سكان مخيم جنين، وعام 1987 (17534) نسمة، وفي عام 1996 -ووفقاً للإحصاء الفلسطيني- بلغوا (23802) نسمة.. أما عدد سكان مخيم جنين فقد بلغوا (9062) نسمة.
ومن الجدير بالذكر أن جنين كانت تضم قبل نكبة 1948 حوالي (70) قرية كبيرة وصغيرة، وبعد النكبة اقتصرت على 19 قرية، ويتبع مدينة جنين 4 بلديات: يعبد، سيلة الظهر، عرابة، قباطية.
ويوجد فيها حاليا 7 مدارس حكومية: أربعة للبنين، وثلاث للبنات، بالإضافة إلى المدارس الأهلية ومدارس وكالة الغوث، كما تضم مستشفيين، و23 عيادة صحية. ومن معالمها التاريخية الجامع الكبير وقد اقامت بناءه السيدة فاطمة خاتون ابنة محمد بك بن سلطان الملك الاشرف قانصوة الغوري . وبعد احتلال اسرائيل لجنين عام 1967 اقتطعت السلطات الاسرائيلية مائة الف دونم من ارضي جنين لبناء المستوطنات كان من ضمنها تسع عشرة قرية عربية لم يتبق منها الان سوى ثلاث عشرة قرية بعد ان دمرت القرى الست الاخرى واقيمت احدى وعشرين مستوطنة ما تزال الى الان في منطقة جنين.
في اليوم الأول :
من أيام الاجتياح حاول الجيش اقتحام المخيم من منطقة الجابريات وكان ذلك في حوالي الساعة العاشرة صباحاً حيث كانوا يستخدمون غطاءاً كثيفاً من الدخان في محاولة للوصول إلى منزل الشهيد مهند أبو الهيجا الكائن في تلك المنطقة والاستيلاء عليه ، وعندها تصدت لهم المجموعة المتواجدة في تلك المنطقة وتمكنت من إجبارهم على التراجع ، بعد أن دب الهلع والخوف في صفوف الفرقة المهاجمة حتى إن أحد الجنود ألقى بسلاحه وهرب ، وبعد اندحار الفرقة قام بزيارة موقعنا الشهيد زياد العامر " قائد كتائب شهداء الأقصى " والذي كانت مهمته القيام بزيارات تفقدية للمواقع وتزويد المقاتلين بما ينقصهم ، وما أن وصلنا الشهيد زياد ونحن في حارة الدمج ومعه أربعة من مرافقيه ، حيث كان بحوزتهم سلاح يدعى "ناتو " ، حتى أصر زياد على الحصول على قطعة السلاح التي تركها الجندي عند هروبه ، وعندها نصحه الإخوة بألا يفعل لأن ذلك قد يكون طعما من الجنود لاستدراج المقاتلين وقنصهم إلا أنه أصر على أخذها غنيمة ، وبعد ثلاث دقائق من وصوله إلينا ذهب لإحضار القطعة ، فكان ما توقعناه حيث استشهد لدى اقترابه من الموقع و أصيب برصاصة من طائرة و أخرى من قناص صهيوني ، وذلك عندما حاولوا اجتياز إحدى الأزقة وكان زياد يسبق رفاقه ليكشف لهم الطريق ، فلما وصل إلى وسط الشارع انهال عليه الرصاص الصهيوني ولم يتمكن أحد من إسعافه وبقي ينزف حتى نال الشهادة ، وقد سبق استشهاد زياد في ذلك الموقع استشهاد امرأة من مخيم نور شمس في تمام الخامسة صباحاً عندما كانت تقف على شرفة منزل أختها التي أتت لزيارتها .
اليوم الثاني :
لقد حاول الجيش بداية وفي أول يومين من اقتحام المخيم عن طريق حارة الدمج حيث تصدى لهم المقاومون ببسالة و أجبروهم على التراجع ، وقد تركزت حدة الاشتباكات حينها في محيط مسجد عمر بن الخطاب حتى إن بعض المواطنين العاديين من غير المقاتلين خرجوا لمطاردة فلول الجيش الصهيوني الهاربين إلى منطقة تدعى خلة الصوحة ، وفي هذه الجولة غنم المقاتلون قطعة سلاح من أحد الجنود من نوع "ب7 " ، ولقد كان للوحدة الوطنية التي تجسدت بين المقاتلين من مختلف التنظيمات إضافة إلى شوق الجميع إلى الشهادة الأثر البالغ في كسب هذه الجولة ، وفي منع تقدم فريق المشاة إلى داخل المخيم .
اليوم الثالث :
في هذا اليوم جاءت قوة كبيرة من المشاة الصهيونية محاولة اقتحام حارة الدمج عن طريق حاجز الأمن الفلسطيني في تلك المنطقة والذي كان عليه عدد من الإخوة من بينهم الشهيد "طه الزبيدي " من سرايا القدس ، وإخوة آخرون لا نستطيع ذكر أسمائهم لأن الله من عليهم بالسلامة ، وقد حاول هؤلاء الإخوة التصدي للفرق المهاجمة إلا أن كثافة النيران أجبرتهم على التراجع قليلا ، فاستولى الجنود على ساحة أحد المنازل الذي كان في طابقه العلوي عدد من الإخوة المسلحين من بينهم الشهيد محمود طوالبة ، وعندها قرر المقاتلون داخل المنزل شن هجوم معاكس على الجنود المتواجدين داخل المنزل بعد أن حوصروا ، فهجموا على جنود الوحدة الصهيونية بالمتفجرات وسط إطلاق كثيف للنيران ، فما كان من الجنود سوى الانسحاب من داخل المنزل ، وعندها تمكن الإخوة من الانسحاب بسلام ، وفي تلك اللحظات كانت المواجهات بين شبان المقاومة وجنود العدو.
و تتم وجها لوجه ولا يوجد فواصل بين المقاومين والجنود الصهاينة ، وكان المقاتلون في أوج حماسهم حتى إن أحد المقاتلين المتحمسين حمل جرة غاز و ألقى بها تجاه الجنود ، ومن ثم أطلق عليها رصاصة فانفجرت و أصيب عدد من الجنود فيما لم يصب هو بأذى حسب ما تأكد لنا لاحقا ، وفي هذه الأثناء بدأت الجرافات الصهيونية بهدم المنازل على من فيها وشق طريقها على أنقاضها بدءا بحارة الدمج التي تركزت فيها المقاومة الشرسة ، فما كان من المقاومين إلا الانسحاب قليلا باتجاه مسجد الأنصار حيث رابطوا هناك ، وسط قصف مكثف من أربع طائرات صهيونية مدعومة بقصف عشرات الدبابات على تلك المنطقة إلا أن ذلك لم يكن ليؤثر على معنويات المقاتلين ، حيث أننا استفدنا من تجاربنا السابقة، وتم التعميم على المقاتلين بعدم استخدام الشوارع في التنقل إلا للضرورة القصوى على عكس المرات السابقة ، وتمت الاستعاضة عن ذلك بفتح جميع البيوت على بعضها و إنشاء ممرات داخلية وهذا ساعد كثيراً في تقليص عدد الشهداء والجرحى بن صفوف المقاومة .
اليوم الرابع :
في هذه الأثناء كانت تجري معارك لا تقل ضراوة عن معارك حارة الدمج في الحارة الغربية من المخيم ، ففي مساء اليوم الرابع ولدى عودة فرقة من المقاتلين إلى بيت في حارة الحواشين بغرض الصلاة وشحن البطاريات والتزود بالغذاء ، حيث كانت هناك كميات من التموين معدة لهذا الغرض وكانت النساء تساعد في إعداد الطعام ، وفي تلك الفترة تمكنت فرقة من المقاومين من محاصرة 12 جنديا في منزل يدي بيت دار الجندي في غرب المخيم وتم عزل الجنود عن باقي الفرقة وعن محيط الدبابات المرافقة لهم ، وعندها التام المقاتلون على هؤلاء الجنود و بدؤا بإطلاق سيل من الرصاص نحوهم إضافة إلى إلقاء العبوات المحلية " الأكواع " نحوهم حتى إن الجنود بدؤا بالصراخ والاستجداء قائلين " نرجوكم يوجد لدينا أطفال نريد العودة إليهم ، وقد تم تصوير هذه الحادثة على شريط فيديو ، وقد استمرت عملية محاصرتهم عدة ساعات ، لم يفلح خلالها الصهاينة في كسر الطوق إلا بعد تدخل الطائرات التي باشرت في إطلاق الصواريخ بكثافة مدعومة بقذائف الدبابات المركز ، حيث تمكنوا من إخراج عشرة من الجنود وبقي اثنان داخل المنزل وهم ينزفون داخل البيت حتى أن الطائرات بدأت تطلق الصواريخ بطريقة عشوائية ، وعندها انسحب المقاتلون من المكان وقام الجنود بانتشال الجثتين المتبقيتين داخل المنزل ،وما إن انتهت عملية انتشال الجنود حتى قصفت طائرة أباتشي منزلا قريبا من الموقع كان يتواجد به عدد من المقاومين فاستشهد مصطفى الشلبي وثلاثة من أفراد الأمن الفلسطيني .
وبعد هذه المحاولات الفاشلة للتوغل إلى داخل المخيم كانت فرقة أخرى تحاول الدخول إلى المخيم من حارة السمران ولكن الاخوة كانوا لهم بالمرصاد وقد قاد المواجهة في حارة السمران في تلك الجولة الشهيد محمود حلوة "كتائب القسام " وأشرف أبو الهيجا وعبد الرحيم فرج من كتائب القسام أيضا ، حيث لم يتمكن الجنود من النزول إلى تلك الحارة والسيطرة عليها إلا بعد أن فقدوا الكثير من جنودهم نتيجة عمليات القنص التي قام بها هؤلاء المقاومون لهم من أماكن خفية ، حيث كنا نشاهد الطائرات الصهيونية وهي تنقل الجرحى الصهاينة إلى منطقة الجابريات وكذلك الدبابات إلى أحراش السعادة كما وشاهد المواطنون طائرة أخرى تهبط في مرج ابن عامر لتنقل المصابين إلى مستشفى العفولة ، فرقة أخرى حاولت في ذات الوقت اختراق ساحة المخيم عبر الاستيلاء على منزل الزبيدي ، ومن ثم تقدمت فرقة من 20 جندي إلى زقاق هناك ، وبدا جنودها بالدخول واحداً تلو الآخر وهم لا يعلمون أن فرقة من المقاتلين القناصة تكمن لهم في البيت المقابل الذين بدؤا يمطرونهم بوابل من الرصاص فقتل اثنين منهم وهرب الباقي ، ولقد بقيت جثتي الجنديين لعدة ساعات على الأرض دون أن يتمكن الجنود من نقلهم من ساحة المعركة ، وفي تلك اللحظة كان الشهيد أشرف أبو الهيجا قريبا جداً من الجنديين فقرر أن ينزل إليهما ليجهز عليهما ، ويخفف الحصار على فرقة من المقاتلين في الجانب الآخر ، إلا أن رصاصة قناص صهيوني أصابته فارتقى شهيداً وقام رفاقه بنقله إلى منزل مجاور ، لقد كانت تلك اللحظات عصيبة جداً على المقاومة ، فبعد أن تمكن المقاومون من نقل الشهيد أشرف إلى أحد المنازل قرر أحد المقاومين الخروج من المنزل لوقف زحف الفرقة الصهيونية التي باشرت بعملية اقتحام جديدة للمنطقة ، حيث حمل عبوة ناسفة و أشعلها وانطلق ليقذفها في وجوه الصهاينة إلا أنه تأخر قليلاً عن الموعد فانفجرت القنبلة في يده مما أدى إلى بترها ، وهنا بقي أربعة من المجاهدين داخل المنزل المحاصر ، فقرروا عدم مغادرة المنزل الذي أحاط به العدو من كل جانب ، وفي صبيحة اليوم التالي سقطت قذيفة على المنزل فاستشهد اثنين من الأربعة وهما الشهيدين البطلين محمود طوالبة " قائد سرايا القدس "وعبد الرحيم فرج "كتائب القسام "في الحقيقة إن هذه المجموعة التي بقيت داخل المنزل "أشرف أبوا لهيجا " اس
تشهد وهو يهاجم الجنديين" – محمود طوالبة – عبد الرحيم فرج – شادي النوباني " و آخرين ممن مَن الله عليهم بالفرج ، عندما ازداد الضغط علينا واشتد الخناق شعرنا أن من الواجب علينا الانسحاب قليلاً إلى الوراء ، وعندها طلبنا من هؤلاء الإخوة الانسحاب معنا لأن وجودهم في ذلك المنزل خطر عليهم حيث أن الجرافة بدأت تهدم في البيوت من حول ذلك البيت ، فاخبرونا بأنهم لا يريدون أن يتراجعوا ولو سنتيمتر واحد ، وأنهم عقدوا العزم على الشهادة فدعونا لهم وخرجنا من المنطقة متجهين بعيداً عن البيت حيث علمنا صبيحة ذلك اليوم بأنهم استشهدوا وكان في استشهادهم نوع من الغرابة .
وفي ذكريات تلك الأيام العصيبة تحدث هذا القسامي عن الشهيد عبد الرحيم فرج في أول أيام اجتياح المخيم فقال :
لقد كانت الساعة الثانية من صبيحة يوم الأربعاء ، حيث تاهب الشهيد عبد الرحيم فرج "كتائب القسام " ومقاوم آخر ، ونصبا كمينا لجنود قدموا من منطقة الجابريات حيث كانوا ينصبون كمينا من بين الأشجار ،وعندها فتحوا النار على الجنود من مسافة صفر ، وقد سمع الجميع عندها صراخ الجنود وصيحاتهم عندما ولوا مدبرين ، وكان ذلك بسبب المفاجأة التي أحدثها الشهيد عبد الرحيم ورفيقه ، وعندها تنبه أهالي المخيم إلى أن فرقة جنود مشاة قد وصلت إلى مشارف المخيم من منطقة الجابريات ، فهب الإخوة من مجموعة الشهيد وهم أشرف أبو الهيجا ومحمود الحلوة وساندوا عبد الرحيم وأجبروا الجنود على التراجع تحت وابل كثيف من إطلاق النيران .
وفي اليوم الرابع أيضا حاول جنود مشاة التوغل داخل المخيم من حارة السمران ، فتصدى لهم مجموعة من الاخوة ببسالة، وكانت الشمس في كبد السماء وقت الظهيرة ، فقد كان ترتيب الاخوة على أفضل ما يرام إذ أخذ الإخوة القناصة المواقع المريحة لهم ، وخاضوا اشتباكا ضاريا ومباشرا مع الفرقة أدت إلى مقتل جنديين صهيونيين و إصابة ستة آخرين حسب اعتراف الناطق العسكري الصهيوني ،وقد تدخلت الطائرات العمودية في تلك الجولة و بدأت تقصف كل شيء إمام الجنود لتسهيل عملية الاقتحام ، حتى إن أحد الصواريخ اخترق سقف إحدى الغرف التي يتواجد فيها ثلاثة من المقاتلين مما أدى إلى إصابة أحدهم بشظايا في وجهه ، وقد ظن هذا الأخ عندما نزل هذا الصاروخ واحدث كتلة هائلة من الدخان والغبار لدرجة انه لم يستطع رؤية من حوله ، وقد أحس وكأن رقبته قد قطعت ، فبدأ بالصراخ على محمود أبو حلوة الذي كان يبعد عنه عدة أمتار " أنقذني أنقذني و أخرجني من بين الحطام " فجاء أبو حلوة وأمسك بيده و أخرجه من البيت ولم تمض عدة ثوان على خروجهما من المنزل حتى سقط عليه صاروخ آخر ، وبلطف الله لم يصب أحد من الموجودين بأذى ، وفي تلك اللحظات كان بجوار هذا المنزل مجموعة من الإخوة الذين كان لهم الأثر البالغ حينها في منع تقدم الجنود المشاة في ظل هذه البلبلة ، وعندها أطلقت إحدى الطائرات صاروخا باتجاههم مما أدى إلى إصابة أحدهم في قدمه .
وفي إحدى المرات كان بعض الاخوة يجلسون في بيت ويقومون بالمراقبة ، و إذا بكلب كبير يلهث جاريا باتجاه الشباب ،ففتحوا عليه النار و أردوه قتيلا حيث تبين لهم أن الصهاينة ربطوا في رقبته جهاز تعقب ، فأخذه أحدهم وحطمه ، ومن ثم وضعه في الماء و ألقاه في اتجاه الجنود .
وفي نفس اليوم حاول ثلاثة من الإخوة يتقدمهم المجاهد طه الزبيدي "سرايا القدس " الانتقال من وسط المخيم إلى حارة الدمج لمؤازرة الإخوة هناك ، حيث عبروا الزقاق الأول بسلام ، وما أن وصلوا إلى الزقاق الثاني حتى طال الشهيد طه برأسه ، و إذا بقناص صهيوني يطلق عليه قذيفة انيرجي فسقط شهيدا حيث احترق جسده بالكامل .
أما الشهيد محمود أبو حلوة "كتائب القسام " فقد كان استشهاده في اليوم السادس عندما حاول الانتقال من وسط المخيم إلى الجهة الشرقية فأصيب برصاص قناص صهيوني في صدره وسقط شهيدا على الفور .
أما الشيخ رياض بدير "سرايا القدس " من طولكرم ، فقد لازمنا حتى يوم الأربعاء حيث كان يواظب على الصلاة رغم أنه مصاب برصاصة في قدمه حتى كان يوم الخميس حيث افتقدناه ،ونحن نتنقل من منزل إلى آخر ، وبعد خروج الجيش من المخيم عثر عليه وهو يجلس جلسة القرفصاء ويحتضن سلاحه وبيده المصحف الشريف ، فقد أبى أن يسلم نفسه للجيش وفضل أن يموت ويلقى ربه شهيداً بهذه الهيئة المشرفة المباركة فما جاء من طولكرم إلا ليلقى ربه شهيدا مقبلا غير مدبر.
أما عن قصة استشهاد أبو جندل ، فكانت صبيحة يوم الجمعة " اليوم العاشر من المعركة " ، حيث كان يختبئ مع أحد رفاقه في أحد المنازل ، فشعروا أن الجرافات الصهيونية قد اقتربت من المنزل وبدأت بهدمه ، وعندها قررا أن يخرجا من المنزل بأي ثمن ، فقد قررا أن يموتا بالرصاص على أن يموتا تحت الركام ، فخرجا من البيت باتجاه مسجد الأنصار وهناك أطلق عليهما قناص صهيوني النار فأصاب أبو جندل في رأسه ، وعندها تم اعتقاله ، ومن ثم إعدامه كما شاهد ذلك الجميع على شاشات التلفزة ، ولقد كان من السهل على الجنود الصهاينة تشخيص أبو جندل فهو الضابط الوحيد في الأمن الفلسطيني الذي يحمل رتبة وشارك في معركة المخيم ، فعرفوه من رتبته ،إضافة إلى إصابته في فكه وهي علامة مميزة له .
والجدير بالذكر أن هذا التمكن من المجاهدين في اليوم الأخير كان نتيجة نفاذ الذخيرة من أغلب المجاهدين ، حيث كان لا بد لهم من إيجاد طريقة ينالون بها الشهادة على أن يستسلموا أمام زحف الجرافات الصهيونية .
والحقيقة أن هذه الجرافات كانت المعضلة الرئيسية التي لم يجد لها المقاومون حلا ، وكانت السبب الرئيس في قدرة الصهاينة على دخول المخيم ، والسبب هو قوة التحصينات التي تتمتع بها هذه الجرافات ، إذ يهيئ للبعض أنها جرافات عادية وأن سائقها لا يحتاج إلى أكثر من رصاصة تعالجه فترديه قتيلا ؟، إلا أنها أشد تحصينا من ذلك بكثير ، ولا وجه مقارنة بين تحصيناتها وتحصينات الدبابات ، إذ كانت تكفي قذيفة أر بي جي لتعطب الدبابة عن العمل ، أما في الجرافات فإن قذائف أر بي جي لم تجد نفعا ، فقد قام الشهيد أبو جندل بضرب إحداها بقذيفة أر بي جي أثناء قيامها بهدم أحد المنازل إلا أنها لم تحدث فيها خدشا .
جنين
المفضلات