الأديان والرسوم.

نجيب الزامل - 22/09/1427هـ
.. لم يعرف الإسلام الرسوم، ولم يكن رسم الرموز المقدسة طقسا موروثا في الإسلام، ومن هنا جاءت قوة الإيمان في الإسلام بصيانة الشعور بالقدسية والسمو الروحاني من التأولات التصورية البشرية المتباينة والمختلفة والتي لا تصور إلا ما يدور في ذهن وخيال راسمها نازعا عنها أبعادها الروحية التي تجذب تصورات وتأملات الضمير الديني، وتمس رسما أرضيا حدود إيمانه، فيكون مجرد لوحة أو تمثال لا يقيم معنى للدين، وإن كان قيمة فنية.. إلا أن هذا موضوع آخر. بل إني أذهب أن ما يخرج علينا من رسومات مسيئة من الغرب لحبيبنا وسيدنا محمد, صلى الله عليه وسلم, إلا من مخيلات متوارثة بالرسم للرموز الدينية، وقد مس هذا الاستهتار صور المسيح والعذراء والملائكة.. بل رب العزة, تعالى عما يصفون.. ويرسمون.

.. لن أدخل في المسألة الفقهية حول عموم الرسم وحكمه في الإسلام، فهذا ليس من قدراتي المعرفية ولا الفقهية، ولكن أناقش معكم اليوم كيف أن الرسوم في الأديان السماوية (التي نالها تحريف رئيس من كهنة الأرض) والأديان الوثنية أو التشخيصية، أضعفت من ارتباط العقل في الوثوق بقيمتها الروحية والمادية. فالرسوم التي تشخّص الرموز المقدسة هي التي تجعل الناس مع الزمن يتضاءل إيمانهم، وهم يرون الرسومات للأنبياء والرسل والملائكة، فتذهب القيمة الإعجازية، وينكشف أن التصور الضيق بالخرافة والتغير في الرسم، مع الزمن، يجعل الرسومات الدينية، في أجود حالاتها، مجرد كلاسيكيات فنية..

وكانت الكنيسة الكاثوليكية تعتمد رسامين لها يعيشون في أديرتها الكبيرة، ويكون عملهم الأوحد هو تشخيص القصص الإنجيلية، مثل اللوحة الشهيرة من القرن الخامس عشر للرسام "أنجيليكو" التي تصور قصة البشارة The annunciation بشكل العذراء وهي تتلقى البشارة من الملاك جبرائيل بأنها تحمل ابن الرب (كما في الإنجيل).. وهي من أقدس لحظات الزمان الروحية المسيحية، ترسم بشخوصها العادية والتخيلية، ومع الزمن عندما عم المنطق المادي، لم تنفع هذه الصورة وغيرها إلا في كونها قيمة تاريخية فنية. وكذلك تعددت رسوم يسوع المصلوب بألف شكل وصورة وهيئة، وقد رأيت في كنيسة حبشية المسيحَ مرسوما بالملامح الإفريقية السوداء، ورأيت عند مسيحيين صينيين ويابانيين وكوريين يصورونه على سحنتهم، والصورة العامة له (من أوروبا) بأنه أشقر الشعر أبيض البشرة، في حين أن علماء الإنثربولوجيا الدينية يقولون إن المسيح من سلالة بني اسرائيل (الشرق الأوسط) فهو إذن يشبه السحنة العربية باللون القمحي والشعر الأسود. ونقلا من سفر التكوين Genesis يرسم حتى الرب كما يتخيله المصور المسيحي في هيئة رجل مهيب بلحية بيضاء وتاج ذهبي والأنوار تتلألأ حوله. تعالى الله عما يصفون.

وفي كل صفحة بالتلمود يُرسم تاج مهيب وكثير الإشعاع ودقيق التفاصيل ليعطي المهابة التصويرية وكأن الكلام يعجز عن نقل الرعشة الصوفية (بينما تجد الكلمة القرآنية تأخذ مجمع القلب بلا أي تصوير) .

وما بقي من ديانات حضارات كبرى، مثل الديانة الفرعونية التي عمرت على ألفي عام، لم يبق منها إلا رسومات وأشكال لا تتضمن أي معنى روحي. ففي كتاب الأموات يُصوَّر الإله "رع" وآلهة وآلهات فرعونية بأشكال فيها من التعبير الجامد مما يأخذ عنها حتى الجماليات الدينية. و"الأزتيك" و"الأنكا" حضارتان عظيمتان في أمريكا الجنوبية مع تصاوير وتماثيل آلهة لم يبق لها أي معى ديني أو روحي إلا نفائس أركيولوجية للمتاحف والتاريخ.

و"شيفا" عند الهندوس له شأن عظيم، فهو إله الرقص، ويُصوَّر دائما وله أكثر من يدين، أربع أو ست أحيانا، ويتشكل وتتغير ملامحه وجنسه من رواية ومن لوحة ورسم حسب رؤية وخيال المصور، وهي لغير الهندوس لا تعني إلا فنا فيه كثير من الهلوسة السريالية، وانظر إلى رسوم الآلهة الهندوكية مثل دوركا وديفي وغيرهم كثير..

ومن يقرأ في الديانة الرومانية سيجد أن "باخوس" من آلهتهم الجبابرة، فهو إله الخمر والكُرم والنشوة، لم تعد عبر العصور إلا رسما وصورة تبعث كشعار أو تعبير رمزي عبر العصور لصناع الخمور وملاك الحانات..

إن أعظم النصوص الدينية هي التي لا تتوسل أن تعطي الصورة أبعادها بالمخيلة البشرية، بل التي تلهم الروح، وتذكي ترقرق الإيمان.. وترسل العقل بعد ذاك في رحلة اليقين.
لذا جاء القرآن.. وبقي.. وسيبقى.